في مهرجان لندن السينمائي: “الملعونون لا يبكون”
أمير العمري
على هامش المجتمع تهيم امرأة على وجهها، مع ابنها الوحيد، تنتقل من مكان إلى آخر، منبوذة من الأهل والمجتمع والدولة، تسعى فقط من أجل البقاء، في ظروف شاقة، طاردة. ماذا يمكن أن يحدث لها ولابنها، وكيف يمكن أن تنتهي؟
هذا هو موضوع الفيلم الروائي الطويل الثاني للمخرج المغربي- البريطاني فيصل بوليفة، “الملعونون لا يبكون” The Damned Don’t Cry، بعد فيلمه الأول (البريطاني) “لين+ لوسي” (2018) الذي لفت الأنظار إلى موهبته. هذه المرة يعود بوليفة إلى بلده الأول، المغرب، ليصور موضوعا من قلب الحياة، يفجر الكثير من المشاعر، صحيح أنه يصطبغ بالميلودراما، ولكن من خلال أسلوب واقعي صلب يشبه أسلوب أفلام المخرج البريطاني كن لوتش.
عرض الفيلم أولا في قسم “أيام فينيسيا” بمهرجان فينيسيا (البندقية) السينمائي، ثم جاء للعرض في مهرجان لندن السينمائي. وإذا كان بوليفة يستوحي عنوانَ فيلمٍ قديمٍ من كلاسيكيات هوليوود، من عام 1950 (إخراج فنسنت شيرمان وبطولة جوان كراوفورد) إلا أنه يبدو متأثرا أكثر بفيلم بازوليني الشهير “ماما روما” (1962). فهو شأن فيلم بازوليني يدور حول شخصيتين: الأم “فاطمة الزهراء” التي تجاوزت منتصف العمر، وابنها المراهق “سليم”، وهو في السادسة عشرة من عمره. الأم كانت (وربما لا تزال) تبيع جسدها من أجل المال عندما كانت تتمتع بقدر من الجمال، والإبن الذي يريد أن يصبح الآن المسؤول عن تدبير العيش لكليهما، لا يجد أيضا وسيلة لكسب رزقه سوى بأن يبيع جسده بدوره.
الاثنان يهيمان على وجهيهما، ينتقلان من مكان إلى آخر. تغادر فاطمة مع ابنها، الدار البيضاء التي عرفت فيها أيام شبابها، إلى بلدة صغيرة. تتزين وترتدي ثيابها المغربية الزاهية الحمراء التي تلفت الأنظار، وترتدي كل ما تملك من حلي ذهبية، تقول لابنها انها ذاهبة لمقابلة بغرض الحصول على وظيفة ما، لكننا نراها تقابل رجلا أو زبونا واضح أنها كانت قد تعرفت عليه من قبل، في منطقة خالية هادئة. وبدلا من أن تنال ما تحتاجه من مال مقابل بيع جسدها، يعتدي عليها الرجل بقسوة ويسرق كل ما معها من مال ومشغولات ذهبية، فتعود تخفي الإصابة تحت عينها بنظارة سوداء. وفي مركز الشرطة لا تنال سوى التوبيخ واللوم، فتغادر. لقد أيقنت ان لا عيش لها في هذه البلدة اللعينة.
تصحب فاطمة الزهراء ولدها إلى قرية صغيرة يقع فيها منزل والدها العجوز الذي ترعاه شقيقتها. تريد أن تقضي بضعة أيام هناك، إلا أن شقيقتها الفظة القاسية القلب، توبخها على اهمالها والدها منذ أن تمردت على العائلة وغادرت تنشد حريتها في الدار البيضاء. حتى الآن، كان كل ما يعرفه سليم عن أبيه أنه مات. لكنه يستمع للقصة الحقيقية من شقيقة فاطمة التي تذكرها بالماضي الشائن خلال شجارها معها، وهي أن فاطمة الزهراء تعرضت للاغتصاب، وأنجبت سليم.
صدمة الحقيقة تحدث شقا كبيرا بين الأم والإبن. ولا شك أن أثر هذه الصدمة سيلعب دورا سلبيا أكبر، بشأن تقرير مستقبل فاطمة التي أصبحت تتطلع الآن إلى حياة مستقيمة مع ابنها. يستقل الاثنان حافلة إلى مدينة طنجة. وفي الطريق تلفت فاطمة أنظار سائق الحافلة (مصطفى) الذي يبدي اهتماما بأمرها ويطلب أن تتصل به ليساعدها في العثور على سكن مناسب لها ولابنها في طنجة.
في طنجة، يتبادل الاثنان الأدوار، فيصبح سليم هو الباحث عما يعول أمه بينما تنتظر الأم في الخلف. وهو يعثر على عمل في خدمة شاب فرنسي ثري هو سباستيان، أراده أن يساعده في تنفيذ ديكورات منزله الفاخر، لكنه سرعان ما يطمع في جسده. في البداية يمانع سليم ثم يستسلم تحت إغراء المال. وفيما بعد سيكتشف في نفسه الميل إلى نفس الجنس، فيوهم نفسه بإمكانية وجود علاقة مستمرة مع سباستيان، لكن الأخير يراوغ، ثم يستأنف علاقته بشاب فرنسي يأتي من باريس، يقول لسليم أنه يرتبط معه بعلاقة حب. وبذلك يجد سليم نفسه في مهب الريح مجددا. إنه يغادر منزل سباستيان بعد أن سرق بعض محتوياته.
تلتقي فاطمة بسائق الحافلة مصطفى الذي يخبرها بعد فترة برغبته في الزواج منها أي أن تصبح زوجة ثانية له بسبب مرض زوجته الأولى. ولكنه يشترط عليها الحصول اولا على موافقة أبنائه. وهو يدعوها للتدين، وتشاركه هي الصلاة، وترتدي غطاء الرأس والحلباب فيتغير شكلها كثيرا، فهي تشعر بانها تقدمت في العمر وأصبحت في حاجة إلى حياة مستقرة، وتقول أنها وجدت الراحة والسلام مع هذا الرجل الذي يحترمها ويجلها وقد توثقت علاقتها بأبنائه، بل وزارت أيضا زوجته وحصلت على مباركتها.
العلاقة بين سليم وأمه ليست علاقة سلسة سهلة بل شديدة التعقيد، فيها دون شك، من فرويد، وتحديدا من “أوديب”. فسليم يشعر بالغيرة الشديدة من علاقتها بمصطفى رغم إدراكه أنه يمكن أن يوفر لأمه الحياة الطبيعية المريحة، وأن يجد له عملا في محطة الحافلات. ولذلك سيفسد سليم الأمر بأكمله عندما يكشف للرجل ماضي أمه وكيف أنها كانت تبيع جسدها للرجال، وكيف اغتصبت وأنجبته وأنه لا يعرف له أبا. هذا الكشف سيجعل الرجل يتراجع عن فكرة الزواج بها.
تواجهه فاطمة في مشهد مثير للمشاعر يدور بينهما، تخبره كيف أنها وجدت طريقها الى التوبة، إلى الله، وأن أحدا لم يمنحها لحظة راحة واحدة في حياتها ولا حتى هو، وان الله وحده هو الذي سيمنحها السكينة ويعوضها خيرا، وقد شاء ألا يحدث هذا الزواج لصالحها. إلا أن سليم يسخر منها، ويخبرها بأنه الذي أفسد الزواج أن أطلع مصطفى على الحقيقة، ولكنه مستعد لأن يذهب إليه ويتراجع عما ذكره ويعترف له أنه اختلق القصة. لكن يكون الخيط قد انقطع.
هناك بين الأم والابن علاقة حب وارتباط مثل تلك التي توحد بين الرجل وزوجته. إننا نراهما مثلا معا يرقدان في فراش واحد دائما، على حاشية على أرضية غرفة استأجرتها، أو على سرير مشترك داخل شقة صغيرة ضيقة. ولكنها علاقة تنافر أيضا وكذب. فكلاهما يخفي عن الآخر الحقيقة، سليم لا يطلع أمه على ما وقع بينه وبين سباستيان، ولا يحدثها عن ميوله الجنسية وهي من المحظورات دينيا واجتماعيا، ولا تطلعه هي من البداية، على حقيقة كوته نتاجا لحادث اغتصاب.
كل منهما ضحية. لكن فاطمة الزهراء هي الضحية الأصلية، فقد كانت تنشد الحرية والتحرر والعثور على طريق مستقل في الحياة، لكن لأنها تنتمي لمجتمع ذكوري قاس، تعرضت لما تعرضت له من اعتداء أصبح من وجهة نظر أهلها، مدعاة للشعور بالعار، كما أصبح من وجهة نظر سليم نفسه سببا للمعاناة والغضب وصب اللعنات على العالم. أي أنها أصبحت ضحية للجميع.
وشخصية فاطمة تتناقض تماما مع شخصية ابنها، فبينما هي- رغم مأساتها الشخصية، مقبلة على الحياة، تتزين وتحرص على ارتداء الملابس الملونة الجذابة، لا تكف عن الابتسام، فسليم عابس الوجه، ترتسم على وجهه علامات الغضب والرفض.
وعندما تعثر فاطمة على عمل في مصنع للملابس في المدينة. تذهب متزينة وتتطلع الى رئيس العمل عن بعد. ومن الإشارات الذكية أن يجعلها المخرج تبتسم لرجل لا تعرفه ولا يعرفها وربما لا ينتبه إلى وجودها وسط غيرها من العاملات أصلا. قد يكون مغزى هذه الإشارة أن فاطمة بحكم تاريخها السابق مازالت تأمل في جذب أنظار الرجل. لكن مشرفة العاملات تلمحها وتوبخها. وتشعر فاطمة بالضيق وبأنها غريبة عن المكان فتغادر. كان هذا بالطبع قبل مرحلة التدين والتعفف.
سليم الذي يرفض فكرة العمل في تنظيف محطة الحافلات، ترادوه فكرة معاودة السرقة فيقبض عليه ويقضي فترة العقوبة في السجن. تنتظره فاطمة يوم الافراج عنه. تقف على الجهة الأخرى من الطريق. تأتي فرقة منشدين تنشد وتدق الدفوف وتعزف المزامير. إنهم يحتفلون بعرس فتاة ترقص في ملابس الزفاف البيضاء في عرض الطريق وأمامها سيارتان. تنسى فاطمة نفسها أو ربما تريد أيضا، أن تنسى عالمها لكل كآبته، وتندمج داخل هذا المشهد الأقرب إلى حلم، مع المنشدين والراقصين، وعندما تستفيق من حلمها، يكون سليم قد أدرك أن مكانه لم يعد مع أمه وأن عليه أن يعثر على مكان مستقل له في هذا العالم.
هذا فيلم بسيط ولكن عميق في صوره، في بساطته يكمن سحره وجماله. هناك حساسية خاصة في التعامل مع الشخصية الرئيسية، فالفيلم لا يصدر أحكاما أخلاقية. كما لا يميل الخطاب العام إلى الإدانة الاجتماعية المباشرة شأن أفلام كثيرة أخرى طرقت نفس الموضوع. هناك أيضا اقتصاد كبير في السرد، والاكتفاء بما هو ضروري ومطلوب لتوصيل الفكرة، مع تجنب مشاهد الجنس. هناك أشياء متشابهة نراها في شخصيتي الأم والابن، ولكن هناك أيضا التناقض بينهما. ويبقى الحب يجمع بينهما في كل الأحوال ورغم كل لحظات الغضب.
يتميز شريط الصوت الذي صممته الفنانة المصرية ندا الشاذلي، بنغمات رقيقة معبرة، حزينة تغلف الصورة بالحزن النبيل، وهي تمزج بين الموسيقى والأغاني الشعبية والموسيقى الحديثة، كما يتميز التصوير الذي أدارته واحدة من أهم مديري التصوير في فرنسا هي كارولين شامبتييه التي أدارت تصوير أحد أفضل الأفلام الفرنسية في العشرين عاما الأخيرة وهو فيلم “عن الرجال والآلهة” (2010). إنها تعبر برقة وبحساسية عن الواقع في المدينة المغربية، عن التناقضات بين البيئة المتدنية التي يعيش فيها كل من فاطمة وسليم، والبيئة الثرية في منزل سباستيان. هل هناك نوع من التورية في العلاقة بين الفرنسي أي المستعمر السابق، والمغربي؟ ليس من الممكن القطع بذلك. أما العنوان فهو ينطبق حرفيا على الشخصيات. فليست هناك دموع في الفيلم ولا مبالغات عاطفية تستدر الدموع. هناك فقط رغبة في الصمود وتحدي الواقع بكل قيوده.
ويحسب للفيلم، الذي شارك تليفزيون بي بي سي في انتاجه، الاستعانة باثنين من الممثلين من غير المحترفين، هما عائشة تباي (فاطمة الزهراء)، وعبد الله الحجوجي (سليم)، ونجاح بوليفة في تدربيهما بحيث يخلق بينهما كيمياء تظهر وتختفي طبقا للتوتر القائم فيما بينهما، وهو توتر مقصود أيضا أن يبرز العلاقة بين الرجل- بذكوريته ورغبته في التحكم، والمرأة التي رغم كل ما تعرضت له في حياتها من غبن وظلم، مازالت تعتز بنفسها وقيمتها وتحرص على مظهرها. وتركز الكاميرا كثيرا على نظرات العينين، في لقطات قريبة (كلوز أب)، مع انتقالات محسوبة بدقة في الزمن. وهي لقطات تثير المشاعر من دون أن تبتزها ابتزازا.
هناك أيضا الممثل الفرنسي أنطوان رينارتز في دور سباستيان الذي أدى في حدود الدور كما هو مرسوم في السيناريو، أي من دون المبالغة في إبداء المشاعر.
فيصل بوليفة يثبت في هذا الفيلم قدرته على التقاط التفاصيل، والربط على نحو جيد، بين الشخصية والمكان، وعدم الانسياق وراء تصوير الانفعالات التي يمكن أن تفسد المشهد، مع الاهتمام كثيرا بتصوير الشخصيات في علاقتها مع ذاتها، مع إدراكها الشخصي بوضعها الصعب في العالم.
الصور