في مهرجان فينيسيا: “الجوكر” يفقد قوته الدافعة وينتهي

Print Friendly, PDF & Email

بعد 5 سنوات من النجاح الكبير الذي حققه فيلم “الجوكر” Joker حاصدا أكثر من مليار دولار في عروضه العالمية، بعد أن انتزع “الأسد الذهبي” في مهرجان فينسيا (2019)، ثم جائزتي أوسكار، يعود المخرج تود فيليبس إلى المهرجان، مرة أخرى إلى المسابقة الرسمية للمهرجان العريق، بالجزء الثاني من الفيلم الذي يحمل هذه المرة اسم “الجوكر: هذيان شخصين”Joker: Folie a Deux. ولكن شتان ما بين الفيلمين.

كانت ميزة “الجوكر” التي جعلته يحقق كل ما حققه من نجاح، أنه كان يلمس شيئا ما عند الجمهور من مختلف الثقافات بل والطبقات الاجتماعية في العالم كله، بموضوعه الإنساني الرصين، الذي يقدم أيضا صورة ساخرة للمجتمع الحديث الغارق في النفعية والاستغلال، والترويج الإعلامي الفاسد، وإهمال الإنسان البسيط، مع تفشي التناقضات الطبقية، الأمر الذي أصبح يهدد بانفجار كبير لا يبقي على شيء.

أما “الجوكر 2” كما أفضل أن أسميه، فهو يكرر مثل هذه الأفكار على نحو ما، ومع ذلك، فهو يبدو وقد فقد قوته الدافعة، ودراماه الإنسانية الكبيرة التي تمس القلوب، كما يشوب التكرار عيوب مثل الخطب المباشرة التي لا تثير المشاعر، وبسبب خواء السيناريو ودورانه حول نفس الأفكار القديمة لجأ تود فيليبس إلى محاولات غير مجدية للتجديد، فلجأ إلى الغناء والاستعراض الموسيقي كوسيلة جذب مع بعض الألاعيب البصرية والصوتية التي جعلت الكثير من أجزاء الفيلم تبدو كما لو كانت من “الفيديو كليب”. والمشكلة أن، لا الكلمات ولا الألحان والنغمات القديمة التي مرت عليه عشرات السنين، نجحت في تعميق الشخصية وتسليط أضواء جديدة عليها، والأهم أنها فشلت في تجسيد قصة الحب الرومانسية التي تنشأ بين “الجوكر” أو آرثر فليك (جواكين فينيكس)، و”لي” (ليدي جاجا)، والتي تنتهي نهاية غير متوقعة تماما تفسد حتى ما بدا أنه كان يمكن أن يجعل للقصة معنى.

هناك أولا تنافر واضح بين فينيكس وجاجا، وفارق كبير في الأداء الغنائي بين فينيكس الذي يجاهد لكي يجاري جاجا ذات الصوت القوي المميز، ولكنها بدت مع ذلك تفتقد كثيرا جميع العناصر التي يمكن أن تجعلها “حبيبة القلب” التي تظهر لتصبح طوق النجاة العاطفي والنفسي بالنسبة لآرثر فليك. ولكن هل كانت تحب آرثر فليك، أم الجوكر؟

فكرة إزدواجية الشخصية بين آرثر والجوكر تسيطر على الدراما الواهنة التي يفترض أن تبدأ بعد مرور سنوات على ما انتهى إليه الفيلم السابق، أي بعد أن قتل آرثر/ الجوكر قتل خمسة أشخاص (يكرر هنا أكثر من مرة أنهم ستة أشخاص بعد أن يعترف حتى أمام المحكمة بقتل أمه خنقا)، ثم قبض عليه وأودع السجن أو المستشفى الحقير داخل السجن في انتظار محاكمته.

يبدأ الفيلم بمقدمة أو مدخل مكون من لقطات مصنوعة بطريقة الأنيماشن أو التحريك، ثم ينتقل إلى أجواء السجن المخيفة حيث يقيم آرثر داخل زنزانة ضيقة، ويتعرض يوميا للإذلال والاعتداء الوحشي من جانب حارس السجن السادي العنيف “جاكي” الذي يطلب منه باستمرار أن يروي له “نكتة جديدة” لا يمتلكها صاحبنا الذي يبدو مكتئبا، ضعيف البنية بشكل يثير الشفقة بعد أن فقد الكثير من وزنه (ولابد أن يكون فينيكس قد قام بجهد خاص لإنقاص وزنه أكثر عما كان في الفيلم السابق).

يجري مذيع آخر من مقدمي البرامج المثيرة الاستغلالية في التليفزيون، هو “بادي مايرز” مقابلة على الهواء مع آرثر، يحاصره خلالها بالأسئلة التي تتجاهل تماما وجوده وحقيقة كونه إنسانا، بتركيز متعمد على فكرة “الجوكر” القاتل السادي العنيف. ويثور أرثر كثيرا لكنه سيلجأ مجددا إلى الغناء في الرد على المذيع الذي يحاول إدانته قبل المحاكمة الفعلية.

وبعدما يظهر آرثر على شاشة التليفزيون يجن جنون جاكي أكثر فأكثر، فينهال عليه ضربا “هل تعتقد أنك أصبحت نجما؟).

وبعد لقاء آرثر مع لي، تحدث الشرارة. ليس فقط بالمعنى العاطفي، بل والمادي أيضا، فيقع الانفجار الهائل في السجن ليهرب الاثنان ويشتركان معا في فاصل غنائي استعراضي على خلفية الانفجارات والحمم النارية التي تتخذ صورة سريالية.

وإذا كان هذا العرض الغنائي يمكن قبوله على مستوى الواقع، خصوصا لو عرفنا أن “لي” هي نفسها التي تسببت في إحداث هذا الانفجار وستحدث غيره أيضا فيما بعد بطريقة لا نعرفها، فهناك أيضا الكثير من الاستعراضات الغنائية التي تدور على مستوى الخيال أي من خيال آرثر وحبيبته، خصوصا عندما ينتقل الفيلم إلى محاكمة آرثر بعد أن يقبض عليه مجددا ويوسعونه ضربا. لكن عزاءه هو أنه وجد أخيرا، الإنسانة التي يمكن أن تفهمه وتسانده وهي التي ظلت متيمة به منذ أن شاهدته على شاشة التليفزيون وهو يقوم بقتل المذيع الشهير “موراي فرانكلين” (روبرت دو نيرو)- في الفيلم السابق، وتقول إنها تمنت فعلا أن يفجر دماغه!

وعندما تأتي المحاكمة، تحاول محامية آرثر أن تثبت أنه يعاني من انفصام الشخصية، أي أنه من اضطراب في تكوينه النفسي بسبب طفولته البائسة، وبالتالي فالذي مارس القتل ليس لآرثر، بل الجوكر. ولكن المفاجأة أن آرثر يثور عليها ويطردها ويتولى هو الدفاع عن نفسه أمام المحكمة رافضا فكرة الخلل النفسي والعقلي، مصرا على أن الجوكر هو آرثر بل وأنه لا يوجد أصلا أي جوكر.

نفي وجود “الجوكر” سيتسبب في افتراق “لي” عنه، فهي تعيش في خيالها مع “الجوكر”، وعندما يقضي هو على الجوكر فإنه يقضي أيضا على حلمها الرومانسي الخاص. لكن “لي” ليست سوية تماما، فقد ادعت الفقر وأنها تنتمي إلى نفس الحي الفقير الذي نشأ فيه آرثر، في حين أنها من طبقة الأثرياء، فوالدها طبيب، كما أنها سعت لدخول مستشفى السجن بنفسها لكي تصبح بالقرب منه، أي أنها استغلت الفساد من أجل تحقيق هدفها. وها هي الآن تخبره بأنها لا تستطيع أن تواصل علاقتها معه بعد أن فقد ما كان يميزه، أي “الجوكر”!

من الملامح التي تجعل الفيلم يراوح مكانه، أي يفشل في التصعيد وبلوغ ذروة درامية جديدة، انتقاله السريع إلى قاعة المحكمة، حيث يترافع آرثر/ الجوكر حينا ويحتد على الادعاء ويخاطب الحاضرين الذين ينقسمون بين من يحبونه ومن يكرهونه، وبين آونة وأخرى، يخرج خارج الواقع، لينطلق في الغناء، وفي أوقات أخرى، يتخيل أنه يقوم بقتل القاضي وممثل الادعاء ويتسبب في إثارة فوضى كبيرة في المحكمة.

وهكذا يظل الفيلم يتأرجح بين الواقع والخيال، وبين الشخصية الحقيقية، أي الإنسانية التي لا يريد أحد أن يتعامل معها، أي شخصية آرثر، وبين ما يريده منه الجميع، أي أن يظل هو الجوكر الذي يلهم الجمهور الثورة من دون قضية بالطبع، سوى الفوضى والانتقام والتدمير.

من وقت إلى آخر، ينفجر الجوكر في نوبات الضحك الطويلة التي تسبه البكاء كما رأينا في الفيلم الأول، وهو يرتدي سترة الجوكر الحمراء، ويضع الماكياج المميز لوجه الجوكر، لكنه يكون قد فقد سحره القديم، وأصبح مجرد مغن لا يحيد الغناء، ولا يمكنه أن يقنع أحدا بقبوله كما هو، أي على حقيقته. فالمدعي يطالب بإعدامه، باعتباره مسؤولا عما ارتكبت يداه، وأنه لا يعاني من أي اضطراب، ويرفض مزاعم المحامية بأنه يعاني من انفصام الشخصية. لكن لا أحد يريد أن يتعمق في فهم ظروف طفولته المعذبة البائسة. وحتى لو حدث، فما هو الجديد هنا!

يجتهد جواكين فينيكس كثيرا في الأداء، ويتلون ويحاول أن يقنعنا بقدراته الغنائية، ويتلوى في حركات استعراضية مثيرة تجعله أكثر من مجرد جوكر، لكن المشكلة تكمن في بناء الشخصية في السيناريو، التي تظل تدور حول نفسها، أي لا يحدث لها أي تطور، كما أن سحر قصة الحب التي كانت تبشر بنقلة نوعية في مسار الفيلم والشخصية، تنتهي فجأة عل نحو مبتور.

نعم نحن نرى بعض المشاهد الجيدة لمدينة غوثام، وبعض المعالم التي ميزت الفيلم السابق، مثل السلالم الشهيرة، لكنها تصبح هنا نقطة افتراض الحبيبين. هناك فقر واضح في دفع الدراما إلى الأمام، فمنذ الانتقال الى قاعة المحكمة يهبط الإيقاع، ويتشتت الفيلم بين الطابع الغنائي والطابع الواقعي، وتتوه شخصية آرثر وشخصية الجوكر، وينتهي الفيلم بمفاجأة تقضي على أسطورة الجوكر بحيث لا نصبح بعد ذلك في انتظار تكملة أخرى للقصة. وربما يكون هذا لحسن الحظ فلم يعد لدى تود فيليبس جديد، ولا أتخيل أن فيلمه هذا سيحقق ما حققه الفيلم السابق من نجاح.

ما يحدث أن تود فيليبس الذي جرد فيلمه بكل نزق، من كل ما كان ينتظره الجمهور من تعميق للأسطورة التي خلقها هو في شخصية “الجوكر” وجعلنا نعيش معها في الفيلم السابق، أراد أن ينهي الفيلم نهاية أخلاقية تتفق مع “الصوابية السياسية”، أو الأخلاقية، فيحكم على الجوكر بالموت. ولكن ليس على أيدي زبانية النظام، وإن كان في هذا كشف لنهاية الفيلم، فليس في الأمر أي مفاجأة، فالنهاية الدموية التي تتحقق على يدي أحد الأشقياء الكارهين للجوكر، تحقق من ناحية “القصاص” أي تعل القاتل ينال جزاءه ولا يمكن بالتالي القول إنه نجا من العقاب، ومن ناحية أخرى، تجعلنا نتعاطف على نحو ما، مع “الأسطورة” التي تبقى في الذاكرة، أو لعلها تصبح كذلك!

Visited 12 times, 1 visit(s) today