في فيلمه الجديد بولانسكي يعود في ثياب هيتشكوك
كان آخر ما عرض من أفلام في “البرنامج الرسمي” في مهرجان كان ولكن خارج المسابقة، هو فيلم “عن قصة حقيقية” للمخرج البولندي الأشهر رومان بولانسكي (84 عاما)، وهو أول فيلم يخرجه منذ فيلمه السابق “فينوس ترتدي الفراء” الذي عرض أيضا في آخر أيام مهرجان كان 2013.
بولانسكي الذي واجه الكثير من التعقيدات القضائية بسبب الملاحقة القانونية من قبل السلطات الأميركية التي تطالب بتسليمه لتنفيذ حكم بالسجن بسبب إدانته بمعاشرة فتاة تحت السن القانونية، لايزال رغم كل متاعبه قادرا على العمل السينمائي والعودة مجددا إلى أجواء الأثارة والتشويق والرعب التي اشتهر بها في أفلامه الأولى: “سكين في الماء” (1962)، “نفور” (1965)، وطفل روزماري” (1968). إلا أن الفيلم الجديد ربما يكون ذو صلة أكثر بفيلم بولانسكي “الكاتب الشبح” (2010)، على الأقل من ناحية الفكرة العامة، فكرة وجود شخص مجهول يكتب لرجال سياسة أو مشاهير المجتمع، حتى لو كان الأمر مجرد كذبة كبيرة كما يتضح من فيلمه الجديد “عن قصة حقيقية”. تتخفى شخصية المرأة الشريرة هنا تحت إسم “هي” (إيفا غرين)، التي تتسلل إلى حياة الكاتبة الروائية المعروفة “دلفين دو فيغو” (إيمانويل سينييه) بدعوى أنها “كاتبة شبح”، وأنها من أشد المعجبين بمؤلفات الروائية والأديبة الفرنسية التي توقع كتابها الجديد في أحد معارض الكتب بحضور جمهور غفير، مما يوحي بأن الكتاب لايزال سلعة مطلوبة، وأن الكاتب يمكن أن يكون نجما كبيرا يحيط به المعجبون وتتنافس على كسب وده دور النشر وأجهزة الإعلام. وإن كان بولانسكي يجيب عن ذلك في سياق الفيلم عندما يجعل “هي” تقول لدلفين إن الناشرين لا يشغلهم أصلا سوى جني المال!
بداية قوية
يبدأ الفيلم بداية قوية والكاتبة دلفين توقع نسخا من كتابها الجديد لعدد كبير من المعجبين الذين تأثروا بكتابها الذي يجمع بين الخيال والواقع، فهو يلمس- على نحو ما- علاقة دلفين بوالدتها، وخاصة أنها قد أصبحت وحيدة بعد انفصالها عن زوجها واستقلال ولدها وابنتها اللذين اختارا العيش بعيدا عنها، وعندما تلتقي دلفين بـ”هي” (أو إل)، تلك المرأة الجذابة القوية الشخصية، وتلمس كيف أنها تعشق كتاباتها وتفهمها، وكيف تجيد الاستماع إليها، تجد نفسها مشدودة إليها بقوة، تأنس لها وتطلعها بكل بساطة، على الكثير من أسرارها. تقول لها “إل” إن لديها ككاتبة الكثير الذي لم تبح به بعد في كتاباتها، وأنها يجب أن تعبر عما خفى من أمر حياتها الخاصة، فجمهور القراء سئم الخيال وأصبح مدمنا على روايات الواقع.
تتلقى دلفين رسائل مجهولة توجه إليها أبشع الاتهامات ومنها المتاجرة بحياة أمها وبيعها للقراء، كما تتضمن أيضا ابتزازا وتهديدا واضحا لكننا لا نعرف ما إذا كانت دلفين قد استجابت لهذا الابتزاز أم لم تفعل. إنها تمزق الرسالة الأول لكننا سنرى فيما بعد أنها أعادت تجميع أجزائها ولصقتها ببعضها البعض كما احتفظت بكل الرسائل. بعد ذلك تكتشف دلفين أن “هي” تقيم في شقة تقع في بناية مواجهة لها، وتوالي الاتصال بها هاتفيا، وزيارتها، والإلحاح على اللقاء معها في الخارج، ثم تنتقل أيضا للإقامة معها في شقتها، في غرفة ابنتها.. وتدريجيا تصبح “هي” السيدة الآمرة الناهية في المنزل، فهي تقوم بترتيب مواعيد الكاتبة، وتحصل منها بكل بساطة على الباسورد أوكلمة السر الخاصة بالبريد الالكتروني، لكي ترد على رسائلها، بل وتقترح عليها ذات مرة أن تذهب بحضور ندوة في أحد المنتديات الثقافية بدلاعنها، بدعوى أن لا أحد يمكنه أن ينتبه للفروق في الشكل بينهما (وفي في الحقيقة فروق واضحة) وعندما تعاني دلفين من اضطراب وقلق في حياتها خاصة بعد أن يسافر صديقها (فرنسوا) المذيع التليفزيوني الذي يقابل نجوم العالم، ويقول إنه سيغيب لثلاثة أسابيع في الولايات المتحدة، تبدأ “هي” في اعطائها عقاقير مهدئة.
مشاكل النص
المشكلة الرئيسية في السيناريو الذي كتبه المخرج والكاتب الفرنسي اللامع أوليفيه أسايس عن رواية للكاتبة دلفين دو فيغو، هي مشكلة ذات شقين: أولا لا يتوقف الفيلم (من حيث السيناريو) أمام شخصية “هي” بتعمق أكثر ليمنحها بعض “الدوافع” النفسية في دراما تقوم أساسا على التعقيدات النفسية، بحيث يصبح مفهوما للمشاهدين لماذا تستهدف هي “دلفين” بكل هذا التوحش والعنف والكراهية: تغالي في إعطائها جرعات المخدر بحيث تفقد دلفين توازنها وتسقط على السلم وتكسر ساقيها وتعتمد على عكازين، ثم تقترح عليها الانتقال الى منزل صديقها الواقع في منطقة ريفية معزولة خارج المدينة، بدعوى أنه يقع في الطابق الأرضي وبالتالي يلائم حالتها بعد أن أصبحت شبه عاجزة، وهناك تنفرد بها، وتصبح سيدة المنزل الوحيدة، ثم تزعم وجود فئران في الطابق الواقع تحت الأرض فتشتري كمياة كبيرة من سم الفئران، ثم تصنع حساء مخلوطا بالسم، تجعل دلفين تشربه فتنهار وتتقيأ، ثم تخرج إلى الفضاء المفتوح في الليل دون هدف، إلى أن تسقط في حفرة ثم يعثر عليها عمال إصلاح الطرق في الصباح.
الممثلة الفرنسية إيفا غرين تماثلت مع شخصية “هي”
إن كل ما نعرفه عن “إيل” يتلخص فيما تقوله هي عن نفسها وهو خليط واضح من الأكاذيب الملفقة، فنحن لانراها تقضي وقتا في الكتابة أبدا، كما لا يبدو أن لديها عملا، وهي تقول أيضا أنها ليس لديها أصدقاء، ثم تروي الكثير من القصص عن مصرع زوجها السابق في حادث بشع أدى إلى انفصال رأسه عن جسده، ثم انتحار والدها، والواضح أنها اخترعت هذه القصص اختراعا لترك انطباعا لدى دلفين بما قاسته في الحياة، لكن من دون أي استدعاء للشفقة. وهي تميل بوضوح إلى العنف كما يظهر عندما تقوم بتحطيم جهاز الخلاط في المطبخ بعد أن تعطل عن العمل، وهو مشهد كان يجب أن تتوقف أمامه دلفين نفسها لترى خطورة صديقتها الجديدة، لكنها لا تفعل سوى الصمت.
أما الشق الآخر من المشكلة فهو يكمن في أن الشخصية الرئيسية كما يصورها الفيلم، تبدو على هذا النحو من السذاجة التي تصل إلى حد مثير للرثاء، فكيف تكون كاتبة تتمتع بخبرة ما في الحياة، وبمعرفة بالبشر وبما يدور حولها في الواقع، ولكنها في الوقت نفسه على هذا النحو من السذاجة والضحالة بل والغباء، فأي مشاهد مبتدئ يمكنه أن يدرك من البداية، أن “إيل” هي التي تبعث الرسائل القذرة إلى دلفين، أما إذا فاته هذا فسرعان ما يدرك أنها محتالة وكاذبة، تسيء استخدام البريد الالكتروني لدلفين – كما يتضح بالفعل- لكي تدمر علاقتها بناشريها ومحبيها واصدقائها، كما تستخدم الحيلة وادعاء الحضور بديلا عن دلفين في الندوة الأدبية لكي تمنعها من الظهور العام، لكن دلفين تصدقها في كل الأحوال، بل وحتى بعد أن تكتشف مثلا أنها أساءت استخدام الإيميل فإننا لا نراها أبدا تقوم بتغيير “الباسوورد” الخاصة بها، وبعد أن تتخاطب بصوت خافت بعيدا عن “إيل” مع صديقها عبر الهاتف، تروي له ما تفعله إيل ويحذرها هو منها، وتبدو كأنها فهمت أخيرا وأصبحت على بينة من الشر المحدق بها، نراها تقبل ببساطة تناول الحساء الذي لابد أنها تعرف أنه ملوث بسم الفئران الذي أحضرته “إيل” دون أن تكون هناك أي فئران.. وكلها عناصر واضحة في العلاقة بين الشخصيتين، تفقد الفيلم مصداقيته وتجرده من قدرته على الإقناع باعتباره أحد أفلام الإثارة والتشويق، على النقيض مما كانت تتمتع به أفلام سيد الإثارة الفريد هيتشكوك من بناء محكم وشخصيات أكثر تماسكا وقوة، يكشف عن دوافعها تدريجيا.
ما الذي يجعل أصلا دلفين توافق على أن تقيم معها “إيل” بعد أن عرفت أنها لا تريد لها الخير وإنما تريد أن تنتقم منها وتضرها لسبب لا نعرفه بل ولا تتساءل عنه دلفين مع نفسها قط بل إن ما تسجله بصوتها على الهاتف عن شخصية “إيل” يبدو بلا معنى.. هل هو حب الامتلاك الذي ربما يخفي في طياته حقدا وغيرة وكراهية عميقة، بسبب عدم التحقق؟ هل هناك رغبة ما في إقامة علاقة عاطفية مثلا مع “دلفين”، كيف استطاعت إيل أن تقطن في شقة فخمة في نفس المنطقة التي تقيم فيها دلفين الكاتبة الثرية، وكيف تعيش ومن أين تأتي بالمال إذا كانت كما يشير الفيلم بوضوح كاذبة ونصابة أي ليست كاتبة شبح لأي كان؟
كل هذه الألغاز والتساؤلات التي لا تفسير لها ولا حتى بالإشارة في سياق الفيلم، تجعل الرأي الأكثر صوابا ربما- هو أن شخصية “إيل” هي شخصية وهمية من اختراع “دلفين”، أي إحدى الشخصيات الخيالية التي تبتكرها لكي تكتب عنها، وهو ما يحدث بالفعل في نهاية الفيلم، ولكن حتى رواية دلفين – ثم فيلم بولانسكي – “عن قصة حقيقية”- تبدو غير حقيقية ناهيك عن كونها “غير مقنعة”.
بولانسكي المخرج
هناك دون شك براعة في إخراج الكثير من مشاهد الفيلم، واستخدام جيد للمونتاج بقطعاته المفاجئة وانتقالاته بين الأماكن والشخصيات، مع بعض الاستطرادات الزائدة، كما يستخدم بولانسكي حركة الكاميرا ليوحي بالاضطراب والخضوع وهي تصور دلفين تتحدث تليفونيا مع “إيل” ثم تخرج إلى الشرفة عندما تقول لها “إيل” إنها تراها، لتتطلع للبناية المقابلة، لنرى “إيل” تطل من زاويةمرتفعة تهيمن على الشخصية الأخرى، حتى عن بعد، ثم تتحرك الكاميرا وتخرج إلى الفضاء خارج الشرفة وترتفع حتى تبدو معلقة في الفراغ، تراقب وتتلصص. وفي الفيلم الكثير من مشاهد “التلصص” فإيل تراقب وتتجسس وتقتحم الغرفة فجأة على دلفين، كما تتسلل إلى الكومبيوتر الخاص بدلفين، وتطلع على كتاباتها وتقتحم رسائلها وترد عليها، كما تتلصص على الملفات التي دونت فيها دلفين يومياتها عبر سنوات، وتسرق بعضها أيضا. والفيلم بالتالي يصلح عملا في “التلصص” واقتحام الخصوصية، ومحاولة إخفاء الكراهية في سياق الاهتمام الزائف.
في الرابعة والثمانين مازال بولانسكي يتمتع بالقدرة على الإبداع
هناك أيضا مشهد هبوط دلفين العاجزة مكسورة الساق على سلم ضيق الى الطابق الواقع تحت الأرض لتلقي أكياس سم الفأر في أرجاء هذا المكان المقفر المخيف بينما تراقبها “إيل” من أعلى. ولاشك أن بولانسكي لم يفقد بعد قدرته على التحكم في إيقاع المشاهد، لا يترهل منه الايقاع سوى في الثلث الأخير من الفيلم عندما يستغرق كثيرا في الأحاديث الهاتفية بين دلفين وفرنسوا دون أي تطور، بل إنه يخطئ عندما يجعل فرنسوا يعود فجأة ليدق الباب على دلفين فلا تقدر على التحرك لتفتح له لكنها تتمكن بعد ذلك مباشرة من الزحف للخروج من المنزل والابتعاد في الظلام ربما بعد أن أدركت أن حياتها قد أصبحت مهددة.
السياق السردي في الفيلم سياق تقليدي لرواية قصة محكمة، ذات بداية وذروة ونهاية، ولكن بولانسكي يقطع تدفق السياق إلى الأمام، لكي يخرج من الواقع إلى الحلم، أي إلى عالم الأحلام والكوابيس المخيفة التي تطارد بطلته، أحيانا على شكل أحلام يقظة، يريد أن يرحي للمشاهد أن شخصية “هي” الغامضة ربما تكون نابعة من خيال البطلة المؤلفة، ولكنه يعود ليشرح ويبرر ويتوقف أما تفاصيل تتنافى مع تلك الفكرة، فتسمم “دلفين” حقيقي تماما لا على مستوى الخيال.. وهكذا.
عن التمثيل
ولعل من أكثر نقاط الضعف في الفيلم إصرار بولانسكي على إسناد دور الكاتبة دلفين إلى رفيقة حياته لسنوان الممثلة الفرنسية “إيمانويل سينييه” صاحبة الموهبة التمثيلية المحدودة، التي فشلت في كل أفلامه السابقة التي أسند إليها بطولتها، فهي لا تتمتع بأي كاريزما خاصة، وبدت غير مقنعة بترهلها الذهني، وشخصيتها المهزومة المحدودة الذكاء، القابلة بمصيرها دون مقاومة، بحيث تجعل المشاهد يتساءل طول الوقت: كيف يمكن أن تكون فاقدة القدرة على التصرف على هذا النحو المريع!
أما إيفا غرين فكانت أفضل كثيرا في هذا الدور الذي يتلاءم مع ملامحها الشكلية الخارجية، وقد بذلت دون شك، جهدا كبيرا في إبراز شخصية “هي” الشريرة، لكن المشكلة أن الملامح الأحادية التي أسبغها عليها سيناريو الفيلم وغياب العمق في رسم ملامح الشخصية، جعل أداءها سطحيا نمطيا إلى حد بعيد، وإن كان يعوض ذلك جمالها الخاص وقوة شخصيتها وحضورها الكبير على الشاشة، ومن دونها ربما لم يكن يصبح للفيلم معنى.
تعليقات القراء