في ضوء جوائز مهرجان أبوظبي السينمائي
توقفت تماما قبل فترة، عن التعليق على جوائز المهرجانات السينمائية سلبا أو إيجابا، ليس لأنها مثل أحكام القضاء (والقدر!) التي يحظر القانون (في مصر على الأقل) التعليق عليها، مما يسبغ عليها نوعا من الحصانة “الألوهية”- أستعفر الله- في حين أنها في نهاية الأمر، مجرد أحكام واجتهادات “بشرية” تماما، ولكن عن قناعة كاملة بأن جوائز المهرجانات هي مجرد محصلة لاجتهادات مجموعة بشرية لا يتجاوز عددها أحيانا عدد أصابع اليد الواحدة، من أناس متعددي المشارب والأهواء والخبرات أيضا، وهو ما أعرفه جيدا من خلال مشاركاتي المتعددة في لجان التحكيم الدولية.
كنا في الماضي ننشغل كثيرا بتقييم (أو تقويم) تلك الجوائز، وبذل جهد كبير في تحليل الأسس التي تنبني عليها النتائج التي تتوصل إليها لجان التحكيم في مهرجانات السينما المرموقة في العالم، وأحيانا، بل وفي كثير من الأحيان، ما تأتي النتائج مخيبة للآمال، بل ومأساوية، عندما تتجاهل أفلاما كبيرة، بارزة فنيا بحيث لا يختلف إثنان حول أحقيتها بالجائزة، لحساب أفلام أخرى قد تقل كثيرا في مستواها الفني والفكري بل وتصل إلى حد التهافت أيضا في رؤية مخرجيها وطروحاتهم. لكننا اعتدنا أن نعتبر اختيارات لجان التحكيم نتيجة محصلة المناقشات بين مجموعة من الأفراد لكل منهم ذوقه الشخصي، وخلفيته الثقافية والسياسية والفنية، وأحيانا أيضا، حساباته الخاصة.
لا أعتقد أنه كانت هناك ضغوط من دانب الإدارة على أي لجنة من لجان التحكيم في مهرجان أبوظبي من أدل حصول أفلام معينة، على جوائز معينة.
ولكن لاشك أيضا أن دعم الأفلام التي تنتج في العالم العربي أو تلك التي يخرجها مخرجون ينتمون – ثقافيا- إلى العالم العربي (توقفت عن استخدام تعبير “السينما العربية” بسبب عدم دقته) هي إحدى المسؤوليات الكبرى الملقاة على عاتق المهرجانات السينمائية التي تقام في العالم العربي، وتحديدا المهرجانات التي تقام في بلدان الخليج (الإمارات وقطر) لأنها تملك المال الذي يتيح لها تقديم دعم مباشر لتشجيع إنتاج الأفلام، الروائية أو التسجيلية، التي يطمح صناعها إلى تقديم رؤية أخرى مختلفة عما هو سائد من أفلام. وقد كان هذا دائما ما طالبنا به المهرجانات العربية قبل أن تظهر مهرجانات الخليج وتتبنى ما طالبنا به مرارا، دون أن تكلف مهرجانات أخرى تقام في الدول العربية غير النفطية، نفسها بتقديم دعم مالي لأفلام السينمائيين الشباب، لا أن تكتفي فقط بتقديم جوائز للأفلام الأفضل من بين الأفلام المشاركة في المسابقات.
وقد حدث كثيرا أن فازت أفلام رديئة فنيا بجوائز في المهرجانات السينمائية، وكان نقاد هذه الأفلام الذين ينتمون إلى نفس بلد الإنتاج، يعرفون أنها رديئة، ومع ذلك فكثيرا ما يهرع هؤلاء إلى الإشادة لتلك الأفلام تعبيرا عن “الولاء الوطني” على طريقة منتخبات كرة القدم الوطنية، ففوز فيلم ينتمي إلى بلد ما، يعد في نظر هؤلاء النقاد “الوطنيين” فوزا لبلده وليس تفوقا لمخرج (فرد، مبدع) ينتمي لثقافة بلده، وقد يختلف في رؤيته وموقفه وتكوينه، عن رؤية وتصور شخص آخر أو سينمائي آخر ينتمي إلى نفس الثقافة.
من هذه النقطة تحديدا نرى في الكثير من الأحيان، تكريم الرؤساء والمسؤولين العرب للفائزين بجوائز المهرجانات، وكلنا مثلا، نذكر كيف احتفى نظام مبارك ومنظومته الثقافية بقيادة وزير الحظيرة (فاروق حسني) بحصول يوسف شاهين على جائزة تقديرية في مهرجان كان عام 1998 عن مجمل أعماله في السينما. وكيف دشنت الصحافة المصرية حملة لإعادة إطلاق اسم يوسف شاهين كمبدع مصري بارز بعد أن كانت تهيل التراب عليه وعلى أفلامه، وتتهمه بالإساءة لسمعة البلاد، لأن السلطة كانت تريد أن تراه كذلك لكي توقف تيار السينما النقدية أي التي تنتقد الواقع، ثم وجدت فيما بعد أنها يمكنها أن تستثمر النقد لخصونها السياسيين من تيار سياسي معين، وأصبحت بالتالي، ترغب في استثمار نجاح شاهين على الساحة الدولية لكي تنسبها إلى “مصر” التي هي محكومة بمبارك وعائلته، وكأن مصر هبة مبارك، وكأن نجاح شاهين ما هو إلا تتويج لنجاح سياسة مبارك الثقافية بقيادة وزير الحظيرة وحوارييه من نقاد البخور والطبول الذين كانوا دائما على استعداد للسير في مواكب السلطة، إلى أن تسقط بالطبع!
مهرجانت السينما ليست مثل مسابقات كرة القدم، وجوائز المهرجانات ليست مؤشرا على أن “فوز” الفيلم الفلسطيني مثلا معناه هزيمة الفيلم الجزائري (الذي لم يحصل على أي جائزة)، وأن خروج الفيلم الأفغاني – الفرنسي العظيم “حجر الصبر” لعتيق رحيمي بجائزة واحدة فقط هي أحسن ممثلة (عن جدارة واستحقاق) في حين كان يجب أن يحصل على جائزة أحسن فيلم، يعني أنه أقل مستوى من الفيلم الذي حصل على تلك الجائزة. لكن تلك هي محصلة التوازنات التي تحكمها اعتبارات ثقافية وخلفيات سياسية، بين أعضاء لجنة التحكيم.
وسوف أتوقف هنا ولن أزيد، لأنني لا أود أن أجد نفسي متورطا في التعليق على أحكام لجان التحكيم.. والعياذ بالله!