في ذكرى مئوية بازوليني: المجون المقدس والرأسمالية المطلقة
بين “ثلاثية الحياة” و”سالو”
د. مالك خوري
مقدمة
في مئوية بيير باولو بازوليني يحضرنا واقع عالم السينما اليوم لجهة الفراغ العام الذي حرم المشاهد من معاصرة مبدعين قادرين على مقاربة آلام وهواجس الواقع الانساني اليوم بجرأة الرؤية وبالسباحة الشجاعة بعكس التيار السائد.
فعلى الرغم من أن محاولات الكثيرين لرسم معالم جديدة لتحدي واقع الهيمنة الاقتصادية والفكرية شبه المطلقة للطبقات البورجوازية السائدة وأدواتها. وعلى الرغم من السهولة النسبية لتوفر أدوات الانتاج والتوزيع والتسويق السينمائي واستعمالها من قبل الفئات والطبقات الاجتماعية المهمشة وحتى شعوب عالم أطراف النظام الرأسمالي العالمي، فان واقع التراجع المفصلي لحجم ونفوذ قوى التغيير السياسي الثوري المنظمة ووجودها على الأرض منذ تسعينات القرن الماضي، أضحى بلا شك يمثل عائقا ضخما اليوم وراء تهميش تبلور أو انتشار أي سينما مغايرة لتلك السائدة والمهيمنة على عالمنا. وضمن حالة الفراغ هذه، تحولت السينما في اطارها السائد أكثر وأكثر لأن تكون مجرد نموذجا آخر من نماذج البضائع الاستهلاكية للاستعمال السريع والتي يزدحم بها سوق العرض والطلب ضمن سوق التجارة الرأسمالي المحلي والعالمي.
اذ كيف ننسى الدور المركزي للطاقة السياسية الضخمة التي كانت تتمتع بها قوى التغيير الثوري المنظمة في أواسط القرن الماضي في رفد عملية التفعيل الواسع لأعمال مبدعين تجديديين مثل بونويل وفيسكونتي وغودارد وبازوليني وبيرتولوتشي وغافراس وسولانس وغوزمان وغيرهم، وكيف ساهم وجود هذه القوى في حفز انتباه أوساط شعبية واسعة لهذه الأعمال، واطلاق نقاشات غنية حولها وحول علاقتها بالواقع الاجتماعي والسياسي. وكيف ننسى أن حيزا أساسيا لتطور التنظير السينمائي تاريخيا وما رافقه من إطلاق بعض من أهم المساهمات الفنية في الممارسة السينمائية ارتبط وما زال بما تمخضت عنه جدليات صراعات نلك الفترة المفصلية في القرن العشرين.
في جدلية شغف العودة الى القرون الوسطى
هذه المقالة تلقي الضوء على أربعة من أعمال هذا الفنان الاستثنائي والتي ظهرت بين بدايات ومنتصف السبعينات من القرن الماضي. و في سياق التاريخ العام للسينما فان هذه الأعمال برأي تمثل نماذج مميزة لمقاربة فترات تاريخية محددة، وذلك من زاوية محاولة رصد طبيعة التفاعل الاجتماعي والايديولوجي الانساني في اطار هيمنة علاقات انتاج اقتصادية محددة في تاريخ البشرية. هذه الأفلام تشمل ما أصبح فيما بعد يعرف “بثلاثية الحياة” والتي تضم “الديكاميرون” The Decameron عام 1971، “حكايات كانتربوري”Canterbury Tales عام 1972، و”الليالي العربية Arabian Nights عام 1974. الفيلم الرابع هو فيلم “120 يوم من الأيام السادية” (Salo, Or The 120 Days of Sodom ) والمعروف ب “سالو”. والفيلم الأخير عرض لأول مرة في مهرجان “كان” عام 1975 بعد ثلاث أسابيع من اغتيال بازوليني في روما.
حين أطلق بازوليني في أوائل ومنتصف سبعينات القرن المنصرم أربعة من أكثر أعماله اثارة للجدل غلى المستوى الفني والسياسي (ليس فقط غلى مستوى أوروبا بل على مستوى العالم ككل)، (ليس فقط غلى مستوى أوروبا بل على مستوى العالم ككل)، كان الصراع بين القوى الثورية وبين قوى رأس المال الامبريالي على أشدها في أنحاء متعددة من العالم: من فييتنام، الى أميركا اللاتينية، الى فلسطين، الى قلب الولايات المتحدة نفسها (استمرار حركات الحقوق المدنية والزلزال الذي هز النظام السياسي الأميركي كنتيجة لفضيحة “ووترغيت”)، ومرورا بأوروبا.
في ايطاليا نفسها كان اليسار ممثلا بالحزب الشيوعي (والذي كان بازوليني عضوا فاعلا فيه خلال تلك الفترة) هو الحزب الأكثر تأييدا ونفوذا على الصعيد الشعبي وفي أوساط العديد من المثقفين والفنانين. لكن اتساع هذا التأييد لليسار محليا في تلك الفترة كان أيضا يجري في خضم حالة من الوهن العام والانقسامات المتزايدة التي كانت بعض القوى الثورية قد بدأت تعاني منها في أماكن عديدة في االعالم.
وعلى الرغم من الانتصارات الهامة لقوى التحرر الوطني في جنوب شرقي آسيا، فان فترة المجابهات المتلاحقة التي كانت تفرضها حروب وهجمات قوى الاستعمار الجديد والبورجوازيات المحلية التابعة ألقت أيضا بثقلها على الكثير من القوى الثورية التي كانت تعاني من التعب وخيبات الأمل: في أميركا اللاتينية كان للزلزال الفاشي في تشيلي والذي أطاح بأول تجربة اشتراكية في العالم تصل الى السلطة عبر الانتخابات وحمامات الدم والقمع الذي تلته وقعا هائلا في العالم. وكذلك كان وقع الانقلاب الفاشي ضد محاولة التغيير التقدمية في السودان في أوائل السبعينات خصوصا على القوى الثورية في العالم العربي والعالم الثالث. في نفس الفترة كانت أيضا تستفحل الخلافات السياسية بين الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية و ضمن أوساط عديدة داخل الفئات التقدمية والماركسية في العالم. وفي أوروبا نفسها كانت الانقسامات تتزايد حتى داخل القوى اليسارية والشيوعية في أوروبا الغربية وتتحول الى مواجهات مفتوحة فيما بينها (الخلافات التي رافقت ظهور تيارات “الشيوعية على الطراز الأوروبي” هي مثل أساسي في هذا السياق).
“ثلاثية الحياة”
تراجعات القوى الثورية كان أحد معالمها في ايطاليا تصاعد نفوذ التحالف فيما بين المافيا، البورجوازية المحلية، ووكالة الاستخبارات الأميركية. وفي أساس هذا التحالف “الغير مقدس” كان مواجهة الامتداد الواضح للنفوذ الانتخابي للحزب الشيوعي الايطالي. وعلى الرغم من هذا الازدياد في النفوذ الانتخابي لليسار في حينه، فيبدو أن البصيرة الابداعية لفنان مثل بازوليني كانت تقوده باتجاه استشراف غير متفائل لما كان يحدث على أرض الواقع السياسي والايديولوجي حوله. وربما كان هذا في صلب ما دفعه باتجاه مقاربة كلاسيكيات من مرحلة ما قبل بزوغ الرأسمالية مثل “الديكاميرون” ثم “حكايات كانتربيري”، ثم “الليالي العربية” في محاولة لاعادة حياكة لحظة مفصلية في تاريخ البشرية: المراحل الأخيرة لهيمنة شكل الاقتصاد الزراعي وهيمنة الطبقة الاقطاعية على وسائل الانتاج. فضمن نظرته الى الحياة في هذه اللحظة التاريخية حاول بازوليني تجسيد زوايا جغرافية مختلفة للعلاقة الخاصة بين الأرض والانسان والتي هيمنت على الحيز الأساسي والأقوى للواقع المادي لحياة الجزء الأوسع ديموغرافيا من البشر في القرون الوسطى والذي مثلته طبقة الفلاحين.
فالمجتمعات الزراعية في القرون الوسطى السابقة للتطور الراسمالي، مثلت المراحل الأخيرة قبل بداية مسيرة القطع التدريجي للعلاقة المباشرة بين معظم الانسانية وبين الأرض باشجارها وزراعتها وترابها وحيواناتها. وهذا القطع التدريجي والمتصاعد حتى يومنا هذا لم يمثل فقط قطعا لعلاقة التعامل المباشر مع بيئة الأرض، بل شكل أيضا قطعا لعلاقتنا مع هذه الأرض كرمز لمادية جسدنا ومادية مشوار تطور الانسان عبر ملايين السنين من وجوده. فيحتفل بازوليني سينمائيا بالحياة التي كانت ثم اندثرت، لكن ليس كنوستالجيا لزمن “مثالي”، بل كمحاولة تتبع جينيولوجي في الذاكرة الانسانية تثير بعض الشغف لزمن ما قبل تحولنا الى نظام علاقات الاستهلاك الرأسمالي.
في “ثلاثية الحياة”، وفِي سياق الفارق الزمني والايديولوجي الواسع بين مرحلة الهيمنة الزراعية أشكال وسائل الانتاج في العصور الاقطاعية ومرحلة هيمنة الصناعة في عصر الرأسمالية، يرصد بازوليني حكايات من زمن يرى فيه أن الانسان كان ما زال أكثر انسجاما وارتياحا مع غرائز الجسد الأصلية. ويركز بازوليني في هذه الثلاثية على مشاركة صور سينمائية شعرية وغير “مفلترة” تعبر عن عفوية علاقة الانسان مع غرائزه المادية. وضمن هذه المشاركة يدخل المشاهد في تجربة قراءة شعرية تضعه داخل أجواء حلم من زمان آخر غريب، يتخذ فيه شكل التعبير الانساني عفوية لم تعد مألوفة في عالمنا اليوم، والذي أصبح عنوانه التورية والاختباء خلف أنماط تعبير محددة ومتعارف عليها.
و”ثلاثية” القصص الكلاسيكية الثلاث المنعتقة من قيود الحالة الانسانية للراسمالية الصناعية وما بعدها، تبدو ايضا منعتقة من جمود السرد القصصي الفيكتوري، والذي رافق مرحلة الثورة الصناعية خصوصا مع نهاية القرن التاسع عشر. فالسرد السينمائي لبازوليني، كما القصص الأصلية نفسها، يمتاز بانسياب يتجاوز “كلية” الاعتماد على البناء الفيكتوري للقصة ضمن ثلاثي البداية والعقدة والحل. وحتى ضمن اختياره لقصص معينة من الكتب الثلاث التي يستلهمها، فهو يجعل منها “حواديت” جامحة لا قواعد لها ولا توقعات تحكم نواياها أو انسيابها. وبدوره، فان سيناريو هذه الافلام لا يصلح معه التوقع التقليدي لأي حل، جزئيا كان أم كاملا، لأي من الاسئلة الثيمية التي يطرحها الفيلم.
نحن اذا امام أقاصيص تكتسب حيوات عفوية خاصة بها، من الأرجح ان تختفي كليا عن سياق ما سنشاهده لاحقا. ونحن أمام انسياب مشاهدة اقرب في تواترها العفوي الى انسياب الحياة العشوائي الخارج عن تحكمنا في معظمه، حيث لا “التزامات” ولا تعهدات مسبقة بحلول او نتائج. ومتعة السرد هنا لا تأتي من انسجامه مع توقعات حلول محددة، أو انسيابه الدقيق “والمفهوم” بين المفاصل القصصية للفيلم. بل تأتي من رحم المقاربة غير المقيدة للحالات الوضعية المشتتة والمتقطعة في حياة الشخصيات، كما تأتي انعكاسا عن عفوية تفاعل هذه الشخصيات مع واقع حياتها.
زمن “ألف ليلة وليلة” و”ديكاميرون” و”حكايات كانتربوري”، فهو زمن الارض والزراعة، ولحمة الانسان مع قسوة تراب هذه الارض وبيئتها. وان كان ذلك الزمان هو أيضا زمن العنف الاكثر شراسة وحدة ومباشرة، فهو ايضا كان زمن الانسان قبل أن يتحول، كما كل شيء حوله، الى طاقة لتصنيع البضائع الاستهلاكية، والى مستهلك، والى مادة للاستهلاك، كله في وقت واحد.
ففي زمن الاقطاع لم تكن قد ترسخت بعد وتيرة تحول الانسان الى مستهلك وبضاعة استهلاكية. اذ أن فكرة البيع الطوعي لقوة العمل، ومن ثم فكرة الانسان كأساس لدورة استهلاك مستدامة ومتجددة، تنامت باضطراد مع بزوغ الراسمالية الصناعية/ التجارية. ووتيرة التحول هذه تصاعدت فيما بعد الى ان تبوأت مركز الصدارة في تعريف “انسانية” الانسان في زمن الراسمالية المتقدمة، وأكثر فأكثر في زمن انفجار تكنولوجيا الاتصالات والتي وضعتنا فعليا خلف ستار هيمنتها على شكل وحتى على حيثية تقديمنا و”تسويقنا” لنفسنا أمام العالم.
ثلاثية بازوليني اذا تجسد صورا من كلاسيكيات آتية من قلب قرون الزمن الاقطاعي. فالجنس في القرون الوسطى، على سبيل المثال، لم يكن قد فقد بعد غرائزيته وعفويته، تلك التي تلاشت تدريجيا مع بدء صعود الطبقات الوسطى من التجار، ومن ثم من الرأسمالية الصناعية والمالية. واليوم يرتدي الجنس أثوابا مختلفة ومتنوعة لكنها كلها ترضخ بالنهاية لصور “مثالية” تحدد أشكالها وحدودها وسائط الاعلام والسينما ومجلات الأزياء والدعاية والدين والسياسة. وهذه الصور تهيمن عليها بشكل أو بآخر معايير الطبقات الحاكمة عبر عملية اعادة تدوير و”تأهيل” لم يسبق لقوتها مثيل في تاريخ البشرية. فالجنس، في يومنا هذا، لا بد وأن يكون مفلترا عبر الاطر “المقبولة” او الاكثر تناغما مع الشكل المتناسب والمعد للاستهلاك وذلك عبر ادوات الاعلام التسويقي على انواعه. وحتى ضمن الافلام “الاباحية”، يبقى التركيز على انتاج ما هو أكثر تعبيرا عن احتياجات “سوق الجنس”، وعلى خلق أسواق جديدة للاحتياجات الاستهلاكية المتجددة في هذا المجال.
في المقابل، يأتينا بازوليني بفريق من الشخصيات الصارخة بعفويتها و”عاديتها”، ومعظمهم قد لايعتبرون جذابين ضمن معايير الجمال السلعية في مرحلة الرأسمالية المتأخرة اليوم. لكن الجنس في “الثلاثية” مبني على مزيج صارخ من الكوميديا الفطرية والاثارة الحسية والشبقية التلقائية التي تصارع “التعليب” بهدف الاستهلاك. ويقدم باوليني سينمائيا هذا الطبق الينا مثل وجبة احتفائية دسمة تفوح منها الشهوة الغرائزية للجسد الانساني الذي لم تسجنه بعد قيود التسليع المتفاقمة في اطار صعود أنماط الاستهلاك في العالم الرأسمالي المتطور.
في “الديكاميرون” يتناول الفيلم عشر حكايات من أصل مئة حكاية يتضمنها كتاب جيوفاني بوكاشيو. ويجمع الفيلم صورا قصصية تعبر عن جماليات وعنف وصخابة مرحلة من أشد مراحل ما قبل عصر النهضة في أوروبا أهمية. ويصف الفيلم عالما مشحونا بالقذارة والخشونة والسوقية. في هذا السياق يقوم كل يوم واحد من مجموعة من سبع نساء وثلاث رجال معزولون في بيت ريفي بسرد قصة جديدة. كل هذه الشخصيات هم من الهاربين من وباء الطاعون عام 1343 والذين استقروا خلال هذه الفترة في مدينة فلورنسا. وتنبثق كل قصة تباعا من القصة التي تسبقها. وديكاميرون نفسه يظهر في منتصف الفيلم مجسدا بشخصية الفنان جيوتو والذي يعتبر من أهم رواد عصر النهضة. ونعاود رؤية جيوتو عدة مرات في سياق الفيلم وهو محاط بتلامذته ويعمل على رسم لوحة جصية Fresco من المفترض أن تكون دينية، الا اننا نراها في الواقع مكتظة بشخصيات تماثل في أشكالها اللصوص والبغايا والتجار والعشاق الذين كنا نتابع حكاياتهم في الفيلم نفسه.
أما كتاب جيفري شوسر “حكايات كانتربوري” فيقدمه بازوليني من خلال استعراض سبع حكايات يلفت شوسر نظرنا من خلالها الى ما هو مخبأ للبرجوازية الصاعدة من انتصارات وانجازات، لكنه يستشف أيضا العفن الذي ينمو في كنف صعود هذه الطبقة للهيمنة على العالم الذي تعيد تكوينه على شاكلة مصالحها وتصورها له. والفيلم الذي جرى تصويره في بريطانيا يقدم خليطا عشوائيا من قصص الفلاحين، والاقطاعيين، ورجال الدين، والشياطين مع لقطات تمثل أجزاء قصيرة من تجارب حياة شوسر نفسه والتي يوحي الفيلم بأنها قد تكون السبب وراء اختيار بازوليني لقصص محددة من كتابه. ويجري سرد القصص في الفيلم بطريقة تختلف عن تلك التي في الكتاب والتي يقوم بسردها أشخاص معينين. هنا، القصص تتتالى لكن من دون الأخذ بالاعتبار تتابعها في كتاب شوسر نفسه. وعلى الرغم من العشوائية الظاهرة في سرد هذه الحكايات، فهي كلها تنطلق من حدث أصلي واحد، وهو وصول مجموعة من الحجاج، بما فيهم شوسر نفسه الى كانتربوري.
في “الليالي العربية”، يتبع الفيلم مغامرات بطل أساسي يختاره بازوليني من ضمن عشرات الشخصيات التي يحفل بها كتاب “ألف ليلة وليلة”. هنا نتابع الفتى الشاب نور الدين في سياق رحلة غرائبية تجمع بين عوالم الأنس والجان والحقيقة والخيال. يقع نور الدين في غرام زمرد، وهي فتاة تختاره سيدا لها في سوق النخاسة. زمرد يجري خطفها بعد يوم من لقائها مع نور الدين، لكنها تنجح بالهرب من خاطفها وتتخفى كرجل، ثم تصبح فيما بعد “ملكا” في احدى ممالك الشرق الأقصى. عدد من الذين يقابلهم نور الدين وهو يبحث عن زمرد يحكون له ولنا بعضا من قصص الحب التي عاشوها، والمآسي كما الأفراح التي مروا بها في رحلة حياتهم هذه . وفي بحثه الطويل عن حبيبته يتعلم نور الدين الكثير عن ملذات الجسد والحياة، كما عن أوجاع الحب والفراق.
ما يميز “الليالي العربية” عن الفيلمين الاخرين يكمن في التغير الدائم لمواقع القصص التي يقدمها لنا. فالفتى الذي يبحث عن خليلته، يدور في انحاء مختلفة من عوالم أزمنة وأمكنة كتاب “الف ليلة وليلة”. فينتقل الفيلم بنا من الشام الى بغداد الى اليمن الى الحبشة الى بلاد فارس الى سيام، مصطحبا ايانا في بانوراما من السينما الخالصة التي تجسد مظاهر ساحرة من العمارة، والملابس، والطقوس، والعادات الاجتماعية لحضارات متشابكة في روابطها مع بعضها البعض، وذلك على الرغم من غنى تنوعها الثقافي والديني واشكال السلطة المهيمنة فيها.
تعبر الأفلام الثلاثة بوضوح عن شغف وانحياز بازوليني بشكل واضح للطبقة التي كانت تشكل “طبقة الناس العاديين” في القرون الوسطى، وبشكل خاص شغفه بكل ما له علاقة بطبقة الفلاحين وحياتها. وفي وسط زمن كان فيه الانسان مسخرا في عمله لخدمة الامير او الاقطاعي، وكان عموم حياته في الواقع مكرسا بشكل مباشر لخدمة من هو في السلطة، فان بازوليني يبدو مهتما بالحيز الاقل تبعية وربما الاكثر استقلالية في حياة فلاحي و”عامة” تلك الفترة. وهذا الحيز بالظبط هو الذي يعادل لدى بازوليني ما يمكن وصفه “بحيز الحياة” الذي يحتفي به في ثلاثيته، وهو عفوية الجسد الجنسية والحسية. وهو، بالمفارقة، يبدو الحيز الذي لم تكن تهتم الطبقة الاقطاعية بفرض هيمنتها المطلقة عليه.
سالو أو الفاشية في القمة
من المفارقات الهامة، ان استيعاب فيلم بازوليني الأخير “سالو” لا يمكن أن يتكامل الا بعد مشاهدة أفلام “ثلاثية الحياة”. فقط عند ذلك يمكننا البدء بتمييز الزخم السياسي والايديولوجي لتوصيف بازوليني للحياة في مرحلتين من تاريخ البشرية: مرحلة ما قبل الرأسمالية، ثم المرحلة الأعلى للرأسمالية متجسدة في شكلها الأكثر قبحا وهي الرأسمالية الفاشية. ففي المرحلة الأخيرة، يفقد الانسان كل انسانيته ويتحول الى عبد مطلق، مفرغ حتى من حيز القدرة على أن يكون “كائنا جنسيا لنفسه”، ليتحول بالمطلق الى كائن جنسي مهمته الترفيه لمتعة الطبقة المهيمنة: المرحلة التي يصبح فيها جسد الانسان محرما الا للمتعة السادية للفاشية المطلقة. وفي نفس السياق يصبح الانسان ممنوعا بالمطلق من التعبير عن أي رغبة جنسية خارج نطاق متعة هذه الطبقة. وليس أقوى في الفيلم من المشهد الذي يجسد فيه بازوليني صورة شاب يجري “ضبطه” من قبل الفاشيين وهو يمارس الجنس سرا مع حبيبته، ليتم اعدامه على الفور. ولكن قبل اعدامه، يرفع الشاب قبضة التحدي بوجه الفاشيين، ليرسم بازوليني لنا من خلال فعله هذا واحدة من أقوى الصور السينمائية للتمرد كفعل مقاومة في صلب صراع الانسان من أجل الحفاظ على أصالة انسانيته.
يبقى “سالو” واحدا من أصعب، ان لم يكن أصعب الأفلام للمشاهدة في تاريخ السينما. وصعوبة مشاهدة الفيلم لا تأتي ببساطة من قساوة المشاهد وتلميحاتها. فما نراه في الفيلم نرى ما هو أكثر دموية منه هذه الأيام في العديد من الأفلام التجارية العبثية والسينما السائدة. لكن “سالو” يضعنا في مواجهة مجازية مع قسوة وقبح من النوع الأشرس. فهو يجسد وجها لفاشية من النوع الذي لم تعد قساوته حيزا من تاريخ بعيد يرقد في ثلاثينات وأربعينات القرن المنصرم، بل أضحى يحتل حيزا وجوديا يجثو ويعيش معنا، بل ويهيمن على ارادتنا ويحدد مصائرنا على كل المستويات. صرخة بازوليني ضد الفاشية كلفته حياته عام 1975، لكنها جعلت من فيلمه الأخير رمزا لواقع تعيشه الانسانية اليوم بكل وحشيته تحت نير الهيمنة شبه المطلقة للرأسمالية وأدواتها القمعية الفجة والناعمة على السواء.
فبعد أن قدم بازوليني ما وصفه هو نفسه “بثلاثية الحياة” والتي تناول بحب ضمنها زمن الارض والزراعة، ولحمة الانسان مع تراب هذه الارض وحيواناتها وقسوتها. وعلى الرغم من توصيفه لهذه المرحلة أيضا بزمن العنف الاكثر شراسة وحدة، فان هذه الأفلام الثلاثة أعادت تقديمنا الى عالم لم تكن البشرية قد تقلصت فيه بعد على يد الرأسمالية، وفي وقت واحد، الى مجرد مستهلِك، وطاقة لتصنيع البضائع الاستهلاكية، ومادة للاستهلاك. في “الثلاثية” اذا نجد صورة الانسانية قبل ان تصبح أيقونة رمزية للاستهلاك كآلهة معاصرة. مع “سالو” في المقابل تتكامل الصورة أمامنا حيث نميز طبيعة مرحلتين مفصليتين من تاريخ البشرية: مرحلة ما قبل الرأسمالية، والمرحلة الأعلى للرأسمالية متجسدة في شكلها الأكثر تكاملا وقبحا. وربما كان الخيال الذي تعبر عنه اليوم أفلام مثل “ألعاب الجوع” (Hunger Games) هو الأقرب في أيامنا هذه الى محاولة وصف عالم المستقبل بعيون الغد الفاشي المخيف. لكن عالم “ألعاب الجوع” يبقى لطيفا جدا بالمقارنة بسواد العالم الخانق الذي رسمه بازوليني لنا كرؤية خاصة للعالم الذي اغتاله بوحشية بعد شهور من انجاز تصويره ل”سالو”.
ففي المرحلة الأخيرة، يفقد الانسان كل انسانيته ويتحول الى عبد مطلق، مفرغ حتى من حيز القدرة على أن يكون “كائنا لنفسه”، ليتحول الى كائن يعيش من أجل الترفيه على و”تمتيع” الطبقة المهيمنة: المرحلة التي يصبح فيها حتى جسد الانسان محرما عليه، وملكا مطلقا للمتعة السادية للفاشية. ومن يرى في هذا الكلام مبالغة فليرجع الى الأشكال الاوضح تعبيرا عن الهيمنة الفاشية التي تقودها وتسيرها الرأسمالية في مرحلتها الامبريالية في العقدين الماضيين: فما جسده فيلم “سالو” هو قطرة في بحر ما رأيناه من صور ووثائق الأمس القريب في السجون الأميركية في أبو غريب وغيرها في العراق، وممارسات فاشيات داعش (وأخواتها) في سورية والعراق وليبيا وتونس.
“سالو” هو فيلم صدم وما زال يصدم مشاهديه ويرسم اطرا غير معهودة لقدرة السينما على جعلنا نعيد النظر برؤيتنا لنفسنا، لغرائزنا، ولمكاننا الحقيقي في العالم الذي نعيش فيه.
في ذكرى ميلاده المئوية، يعيش بازوليني معنا اليوم من خلال أعمال سينمائية تعيد دوما تذكيرنا بأن صراعنا من أجل الحياة هو صراع ومقاومة ضد كل ما يفقدنا ارتباطنا مع اصالتنا الانسانية التي بدأت من تراب الأرض التي ولدنا منها ونعيش عليها وتعيش فينا ونموت فيها.