في “الغرفة الزرقاء” تتلاعب السينما بالأدب
يعدّ الروائي البلجيكي جورج سيمنون من أكثر الكتاب المشاهير لدى القارئ العربي، بفضل الترجمات العديدة التي ظهرت لعدد كبير من رواياته “البوليسية” المكتوبة بدقة وعن معرفة، وربما أيضا قربه من مصادر الكثير من أحداثها وشخصياتها بحكم عمله السابق كمحام.
كَتَب سيمنون أكثر من مئتي رواية وعددا آخر من القصص القصيرة، وكان من الطبيعي أن تجذب مؤلفاته السينمائيين، فيظهر نحو 23 فيلما عن روايات له. صدرت رواية “الغرفة الزرقاء” The Blue Room عام 1964، وتحوّلت إلى فيلم سينمائي مرة من قبل، فقد أخرجها المخرج المكسيكي والتر دوينر في فيلم أنتج عام 2002، وأثار في ذلك الوقت الكثير من الاعتراضات من جانب الأوساط المتزمتة في المجتمع. بسبب جرأته في تصوير مشاهد العري.
المشاهد الإيروتيكية المثيرة التي ملأ بها المخرج فيلمه المكسيكي، جاءت أقل كثيرا في النسخة الفرنسية الحديثة من الفيلم الذي أخرجه الممثل والمخرج الفرنسي ماتيو أمالريك وقام بالدور الرئيسي فيه، فهو يستغني عن المشاهد المباشرة العارية (رغم وجود العري في واحد أو اثنين منها)، لكي يركز أكثر على مغزى ما يمكن أن نطلق عليه “الارتباط الشبقي” بين رجل وامرأة، جوليان وإستر.
جوليان متزوج ولديه ابنة ويعيش مع زوجته، ناجح في عمله كتاجر، أما إستر، فليس من الممكن اعتبارها نموذجا للمرأة الفاتنة الجميلة التي يمكنها أن تغوي وتسحر وتسلب الألباب (تبدو زوجة الرجل أكثر جمالا منها مثلا)، لكن لها بالتأكيد شخصيتها الساحرة وجاذبيتها الخاصة، فهي من النوع الذي يخفي تلك الفتنة القاتلة تحت قناع من الهدوء الظاهري. وإستر متزوجة من طبيب ناجح، لكنه يعاني من بعض المشاكل الصحية في القلب، وهو يملك صيدلية في تلك البلدة الصغيرة التي تدور بها الأحداث.
هذا الارتباط الشبقي بين جوليان وإستر، يبدو من بداية الفيلم، قوة دافعة نحو الهلاك لا يملك لها جوليان دفعا. والعلاقة بينهما وتطورها يبدو قدريا، فجوليان كان يعرف إستر منذ أن كانا معا في المدرسة الثانوية، أي قبل سنوات بعيدة، لكنها -كما تذكره في الفيلم في مشهد تال– بأنها فشلت في أن تلفت نظره رغم كل محاولاتها لجذبه إليها، أو لفتت نظره وحاولت بشتى السبل أن تقيم علاقة معه. غير أنه وجه اهتمامه إلى فتاة أخرى غيرها هي على ما يبدو التي سيتزوجها فيما بعد، فهي تتمتع بالجمال والثراء. والآن، يختلي جوليان وإستر في غرفة فندق (الغرفة الزرقاء) يتواعدان على اللقاء فيها بانتظام في تلك البلدة الصغيرة، التي يستطيع سكانها أن يلاحظوا أي تصرف غير عادي.
لا يهتم المخرج أمالريك بتصوير مشاهد الجنس في حد ذاتها، بل يجعل الارتباط الجسدي نوعا من العذاب بالنسبة للرجل، فهو يبدو مسحورا بشخصية إستر وجاذبيتها. لكنه في الوقت نفسه، يريد أن يكبح جماح نفسه، يهاجمه شعور خفي بالذنب، يبدو في إجابته حينما تسأله إستر: هل تحبني.. فيقول لها: نعم. لكننا نستطيع أن نلمح أن ذهنه كان مشغولا بالجانب الآخر من حياته.
أما إستر فهي تحقق أخيرا، متعة الإحساس بامتلاك الرجل الذي كان مستعصيا عليها في الماضي، وهي لم تنس ذلك قط. لقطات قريبة (كلوز أب) لوجهي البطلين، جوليان يتطلع إلى وجه إستر في المرآة.. صوت أنفاسهما يرتفع تدريجيا، مع ارتفاع صوت الموسيقى.
وتقول له -من خارج الكادر- “هل أؤلمك”؟ ويجيبها هو بهدوء وفي تردد: كلا.. لكننا نرى قطرة دم قانية تسقط فوق ملاءة بيضاء. هذه القطرة تمهيد بصري لما سيقع.. “سيكون هناك دم”!
وهذا تحديدا ما يحدث، فهناك جريمة تقع لكننا لا نرى شيئا، بل نعود من خلال بناء سينمائي متشابك، ننتقل خلاله، بين الأزمنة المختلفة، كي نطّلع على تفاصيل أكثر من شخصيات الفيلم ومأزقها المشترك.
ما نشاهده في المشهد الأول ليس من الحاضر بل من الماضي، ولكنه يقع في الحاضر الآن، فقد قبض على جوليان وأصبح يخضع لتحقيق طويل مع مفتش شرطة أمامه مجموعة ضخمة من الخطابات المتبادلة بين الرجل والمرأة، ودفتر يحوي يوميات كانت تدونها إستر.
وستظهر إستر فيما بعد، بل وستحدث مواجهة مع جوليان، ونعرف من خلال استجواب الضابط، ثم الخضوع لجلسات من جانب جوليان أمام طبيب نفسي يوجه له أسئلة كثيرة يقيس بها سلامة قواه العقلية، ثم مناقشة مع القاضي في المحكمة (وهو الجانب البارز دائما في روايات جورج سيمنون)، أن جريمة قتل مزدوجة وقعت راح ضحيتها زوج إستر وزوجة جوليان.
فهل تم ترتيب الجريمة بالتبادل؟ إستر تقول لجوليان في إحدى رسائلها إليه عقب موت زوجها، بعد تناوله جرعة مضاعفة من الدواء الذي كان يتعاطاه “الآن جاء دورك”.. فما معنى هذه العبارة؟ وهل كانت تعكس اتفاقا؟ وهل قتلت إستر زوجها وأصبحت الآن المديرة الفعلية للصيدلية التي تتقاسم إدارتها مع والدة الزوج القتيل؟
زوجة جوليان كانت تعشق نوعا معينا من الحلوى، طلبه لها عن طريق الصيدلية، وجاء الصندوق واستلمته والدة زوج إستر، وسلمته إستر لجوليان الذي يعترف بأنه فض غلافه في سيارته، لكي يتأكد من صحة الطلب.
هذه الحلوى هي التي تسببت في مقتل الزوجة، فقد ثبت أنها كانت مسممة. لكن جوليان يصرّ بشدة على أنه لم يرتكب الجريمة، كما تنفي إستر أن تكون قد قتلت زوجها أو وضعت السم في الحلوى لزوجة جوليان. وعندما يجمع المحقق بين الاثنين يكون كل ما يشغل بال إستر هو أن تتطلع برغبة وشوق إلى جوليان غير مقدّرة تماما لخطورة الموقف.
وعندما تعترف بأن الهدف من علاقتهما كان الزواج، يسألها المحقق: كيف كان سيحدث هذا؟ تقول إنه بعد وفاة زوجها كان يمكن أن يطلق جوليان زوجته. وعندما يسألها المحقق: وماذا كان سيحدث للزوجة والابنة في هذه الحالة؟ ترد بكل بساطة: كانا سيعتادان على هذا الوضع.. فهذه الأمور تحدث كثيرا. هنا تفلت أعصاب جوليان وينشب أظافره في عنقها يريد أن يخنقها.
إنه يشعر بفداحة الثمن وبالمأساة التي انتهت إليها هذه العلاقة المدمرة، لكن إستر تبدو مدفوعة بشكل جنوني، بفكرة الحب الأبدي الذي لا فكاك منه، فهو قدر محتوم.
وتشي نظرتها الواثقة إلى جوليان بنوع من الجنون، لعله جنون الاستحواذ أو جنون “الفكرة الثابتة”، بل وحتى بعد صدور الحكم عليهما بالإدانة والسجن، تقول لجوليان بكل هدوء، بل بسعادة: أترى.. لن يستطيعوا التفرقة بيننا!
إن جمال هذا الفيلم ليس في موضوعه، فهو ليس فيلما عن جريمة غامضة، بل أساسا عن تلك العلاقة التي تأتي فجأة فتقلب حياة المرء رأسا على عقب، عن الضعف البشري، وعن الرغبة عندما تستبد بالمرء فيصبح على استعداد لأن يتخلى عن الكثير من قناعاته الثابتة، بل وعن حياة مستقرة، لكي يخوض مغامرة غير مأمونة العواقب، بل وتبدو من البداية محكوم عليها بالفشل.
إننا لسنا أمام تشريح لما يعرف بـ”الجريمة الكاملة” التي يكشف عنها الستار تدريجيا، بل تحليل لسيكولوجيا الشهوة والسقوط، ثم الإحساس بالندم، ولكن بعد أن أصبح الحبل فوق العنق، أي بعد أن يكون السيف قد سبق العذل!
هذه الأفكار يتم تقديمها والتعبير عنها سينمائيا، من خلال ذلك الشكل البديع الذي يكسر الحدث، ويقدم ويؤخر في تصوير المواقف المختلفة التي تخدم الفكرة، فالسرد يسير بشكل متعرج، والعودة إلى الماضي هي التي تسقط الكثير من الضوء على الحاضر، بل إن أهم مواقف الفيلم ومشاهده هي التي تدور في الماضي، أحيانا على صورة لمحات خاطفة.
لكنها لا تفلت أبدا من المخرج، فعلى الرغم من التفريعات الكثيرة داخل الفيلم، والتلاعب بالزمن من خلال مونتاج ذكي ينتبه إلى كل التفاصيل، حيث يعيد المونتير تركيب الفيلم خالقا إيقاعا سريعا لاهثا، فإن تفريعات الفيلم تصب دائما في الفكرة الرئيسية وفي موضوعه الذي لا يغيب لحظة عن بال المخرج.
وهو ما يرجع أيضا إلى متانة السيناريو وتماسكه. ويراعي أمالريك الاقتصاد في الزمن، فلا يعيد ولا يكرر الفكرة الواحدة، ويحصر زمن الفيلم في أقل مساحة زمنية ممكنة (75 دقيقة فقط).
ويعود أمالريك إلى المنسوب التقليدي القديم للصورة السينمائية التي حددتها الأكاديمية الأميركية لعلوم وفنون السينما عام 1932، وتعرف حتى اليوم بـ”المنسوب الأكاديمي” الذي يظهر الصورة ضيقة، لكي توحي بجوّ السجن، وبالاختناق الذي يشعر به جوليان، وكذلك بحالة الحصار من جانب المحقق والقاضي والطبيب النفسي، مع التركيز على اللقطات القريبة، لنقل المشاعر وتحويل مشاهد التحقيق إلى ما يشبه المبارزة.
ولا شك أن الفهم العميق للدور من جانب ماتيو أمالريك، ساعده على ذلك التقمص البديع لشخصية جوليان.. الرجل الضعيف المشدود إلى المرأة القوية المهيمنة، حتى في الفراش، والتي تتصف أيضا بالعنف أحيانا حيث تعض شفته كلما قبلته.
كذلك ينجح في التعبير بنظرات عينيه في لقطات (الكلوز أب)، عن ذلك الإحساس بالذنب والحزن العميق. كما نجحت ستيفاني كليو في دور إستر، وقدمت أداء مختلفا عن الأداء التقليدي في دور المرأة المغوية التي تقود بثبات ودون أدنى إحساس بالإثم، إلى التهلكة!