فيلم “وظيفة رجل”: الحفاظ على الكرامة بخسرانها
تقف المرأةُ الأربعينيةُ مرتديةً ثوباً قصيراً على الجلدِ مع الحرفيّ في غرفة المعيشة الفارهة، متقدمة في العمر وعاديّة الملامح ولكنّها ثرية، وهو تعلوه ملامح الجوع ولكنّه شاب بوسامة مُنهكة وبقامة ملفتة، وبعد دقائقٍ تطلب السيدة من الحرفيّ ما كان كل ما في الحالة يُهيئ له، كان بالإمكان لهذا المشهد أن يُصبح مقطعاً من فيلم “بورن” مكتمل الأركان و”زيادة”، ولكن المخرج الفنلندي آليكسي سالمنپيرا(هو الكاتب أيضاً) جعل فيلم وظيفة رجل”- حسب ترجمة دور السينما في أمريكا- واحداً من أكثر الأفلام قتامةًفي عام إنتاجه.
يوها (تومي كوربيلا) متزوج من كاتيا (الممثلة ماريا هيسكانِن) ولديهما 3أطفال، تعاني كاتيا من الاكتئاب، في الحقيقة هي تعاني أكثر من الاكتئاب، إنها تريد مالاً لتعيش بطريقة أفضل، أفضل قليلاً وليس كثيراً، لكنّ يوها يُطرد من عمله الكان مصدراً شحيحاً للرزق أصلاً، فيضع إعلاناً يكتبه بخط يده بأنه حرفيّ ماهر في أعمال الصيانة المنزلية التي لا يؤديها غالباً إلا الرجال، فتتواصل معه السيدة صاحبة العرض المغري، وبعدها يقرر يوها أن يمتهن ما جرّبه في ذلك اليوم الغريب: رجل “عاهر” للنساء مقابل مبلغ من المال.
الأفلام الوحيدة
السينما الفنلندية من أقل السينمات الأوروبية رواجاً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إجمالاً مقارنة بالفرنسية والإيطالية والبريطانية، ولهذا أسباب متعددة منها سياسية واجتماعية وهناك ما له علاقة بالسينما الفنلندية التي غالباً ما تُقدم أفلاماً محلية صرفة، وهي سينما مُنكفئة على نفسها بعيداً عن تفانين السينما خارج حدودها.
يبدأ الفيلم بمشهد للبطل يُمارس مهمته الرجولية الخالصة في مصنعٍ لمواد البناء، وبين عمله وبيته نشاهد العلاقة المتوترة مع كاتيا، رغم الحب بينهما، وقلة الواردات وثلاثة أفواه صغيرة تطلب الكثير، وأمّ في نفسية سيئة يمنعها حتى من تغيير غيارات الرضيعة، كل تلك التفاصيل الضاغطة دفعت بيوها في وسط وظيفته السريّة، التي ليست سريّة تماماً لأنّ صديقه أوللّي (الممثل ياني فولانِن) يعمل معه كقوّاد وكسائق شخصي، ويُنشئ يوها مع صديقٍ له حساباً الكترونياً في أحد مواقع التعارف مع وصف مُختصر يؤكد بأنه : رياضيّ، 35 عاماً، الطول 188والوزن 85 كيلو، وبأنه “رجل فنلندي يُرافق النساء في منتصف العمر”.
وتتابع طلبات النساء، وفي كل موعدٍ يذهب إليه تنحبس الأنفاس بفضولٍ عن شكل الزبونة القادمة: ملامحها، عمرها، تفضيلاتها الجنسيّة، وتخمين السبب الذي جعلها تلجأ إلى الحصول على علاقة جنسية مدفوعة الثمن.
وتأتي الإجابات متنوعة في كل مرة: فانتازيا، تسلية، تقدم في العمر، فراغ عاطفي، لكن المرارة هي الجوّ الأغلب لتلكم النساء، ويرمي سالمِنبِرا بقصصه الفجة في وجوه المشاهدين، تلك الفجاجة التي تصل ذروتها ونحن نشاهد السيدة التي أرسلاها والدا صبيّة مصابة بمتلازمة داون، فقد كانا حزينان على ما يبدو من أجل ابنتهما المحرومة من الجنس، وبالتالي لم يريا حرجاً بأن يشترانه من رجلٍ فقيرٍ يبيعه.
يذهب يوها في مواعيده شبه اليومية بزيّ رجلٍ عاديٍّ: بدلة كحلية لا تتغير، وحذاء بنيّ، وحقيبة جلدية مهترئة بداخلها الأدوات اللازمة: سوط صغير، وأعضاء صناعية مختلفة الأحجام ، وعطور، ومزلقّات، وأوقية، وأفلام بورن، وهذه الأدوات المفرطة في جنسانيتها خلقت، يا للغربة، فيلماً يخلو تماماً من المشاهد الآيروتيكية على عكس ما هو مُتوقع، وكلما مرّ الوقت غاص يوها في القرف، ويتبدّى له يوماً بعد اليوم أنّ التضحية ليس بالضرورة أن تُجدي.
ماذا تقول الوظيفة لصاحبها
إنّ الدعارة واحدة من القضايا الـ”الكليشّاوية” التي يسهل كثيراً تحولها إلى أفلام مُسطّحة، تُكررّ الشائع والمُستهلك دائماً، ودائماً ما تتقاطع هذه الأفلام مع عدد من القضايا: النسويّة، وحقوق الإنسان، والأدوار النمطية للنساء والرجال، بل وحتى السياسة، ولكنّ (وظيفة رجل) نغمة مختلفة كليةً، فيلماً بعيداً عن هذا السياق، حتى عن سياق الأفلام التي تناولت دعارة الرجال على ندرتها.
نجحت كاميرا سالمنپيرا في تصوير جو الاكتئاب الذي غيّم على الفيلم منذ البداية: السقوف المنخفضة، والحجرات الخانقة، والمساحات التي يغلب عليها تدرجات البني والزيتي المتّسخ، ذلك اللون الكئيب الذي كانت تلوّن به شركة ناشيونال ثلاجاتها في الثمانينات، بل حتى اللون الأبيض اكتسب روح الأكفان والجليد، وفي بيت يوها وكاتيا نرى هناك الغسّالة التي اشتراها بنقوده الجديدة وكيف كان هديرها له وقع صفّارة إنذار ودوران صحنها الداخلي يُذكرنا بدوّامة بحرية تلتهم سيّئي الحظ.
على الرغم من شجار يوها مع زوجته، فإنّ كل مشهد خارج بيتهما وحياتهما يحيلنا لها، في المشهد الذي تطلب منه الزبونة خلع خاتم زواجه الذي يؤلمها أثناء المساج، اتضح لنا أنّه يؤلم يوها أيضاً، تؤلمه حياته الشخصية المُتمثّلة بالخاتم الذي يُسبب خلعه نزيفاً اضطره للبس ضمادة كبيرة، في الحقيقة إنّ “الموتيفة” المتكررة في معظم مشاهد يوها مع زبوناته هي الدماء، دماء تنزّ منه، في مشهد التعرّي مع الفتيات العابثات، وفي مشهد تلك السيدة البدينة التي كانت تعتليه ولم يرف لها جفن وهي ترى الدماء تغرق المخدة، دماء يوها التي ترمز لخصوصيته وخجله وكرامته المهدورة، كما رآها سالمنپيرا، على طول الفيلم وعرضه، ليس للأمر علاقة بالمنظومة القيميّة، ولا بالصح والخطأ، الأمر نابعٌ في أصله من ذات يوها الذي لم يرد هذه البحبوحة الجنسية من الأساس.
أن تحافظ على كرامتك بخسرانها
لم يخرج سالمنپيرا في الأفلام الخمسة الروائية التي أخرجها عن دائرة العائلة والعلاقات الإنسانية، وهو مثل آكي كوريسماكي– مخرج فنلندا الأشهر والأهمّ – يُقدم هِلسِنكي كمدينة فظة لا ترحم، لا تشبه هلسنكي التي نسمع عنها ، نحن القابعون في الشرق الأوسط، في الأخبار والتقارير والوثائقيات.
“وظيفة رجل” فيلم ابن زمنه. إنّه ينتمي بشدة للعصر الحديث، حيث أنّ لحصول المرأة على خدمات جنسية من عاملي جنس ارتباط وثيق بتغيير أوضاع النساء سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ولكن يوها الذي امتهن الدعارة لم يجعلنا نُفكّر بها على الإطلاق، إذ أنّ دائماً ما تُؤطر الإنسانية قصص الدعارة والمشتغلين بها لأنسنتهم وإذابة سياجات الشيطنة التي تُحيط بهم، (وظيفة رجل) أول فيلم أشاهده يفعل العكس: يزج بموضوع ضخم وشائك كالدعارة لتكثيف معانٍ ذاتية لتصبح هذه “القضية” وسيلة لا غاية.
وقد نجح سالمنپيرا بالنجاة بفيلمه من تصنيفه تحت قضية معيّنة وفرزه ليجعله فيلماً إنسانياً ونبيلاً وشخصياً جداً، فيلماً عن حسابات الإنسان حول مفهوم العار الشخصي، عن كيف تتداخل المعاني، وكيف تنبذ صاحبها، عن المنسيين، الواقعين في هامش الحرب وهامش السلام، وحافة مدينة مثل هِلسنكي، ورغم فرادة الفيلم إلى أنّه لم يحظَ بشهرة عالمية كما يستحق، كما أنّ لجنة الأوسكار لم تقبله للمنافسة عن فئة أفضل فيلم أجنبي في 2008.
كيف انتهي فيلم “وظيفة رجل”؟ في الحقيقةِ لا يهمّ، كيفما كانت النهاية فإنّها لن تُغير من حظ يوها، ولن تُعيد له دمائهِ التي سالت في بيوت الزبونات وأماكنهنّ السرية، وفي مهنته التي لم يُحبها ولم يريدها رغم كونها المِخيال الجنسيّ لملايين الرجال الذين لم يكن يوها من بينهم للأسف.
* كاتبة وناقدة من اليمن