فيلم “هي” أو التبشير بموت الإبداع العاطفي

ينتهي المطاف بالإنسان تعيسا عندما لا يحقق طبيعته الاجتماعية، أي أن حميمية الروابط بينه وبين الآخر التي تصير خافتة حد العدمية، ومرد ذلك فردانية متوحشة تجعل من الإنسان كائنا أنانيا لا يبحث إلا عن خدمة مصالحه وإشباع أهوائه الذاتية، لذا يصبح الآخر في هذا السياق مجرد وسيلة تستهدف تحقيق الاعتبار الذاتي.

 لقد نجح فيلم “هي” Her لمخرجه سبايك جونز في بسط التصور الاستشرافي لواقع أصبحت فيه العلاقات الإنسانية موسومة بالجانب الخدماتي على حساب الجانب الحميمي، ففي ظل مجتمع رأسمالي يرفع شعار “كل شيء يباع و يشترى”، أصبح الفرد يرى في الآخر مجرد وسيلة خدماتية تخدم وظيفة تلبية حاجاته.

ويعرض الفيلم في هذا الصدد أمثلة مخيفة لواقع مستقبلي يعجز فيه الإنسان عن الإبداع العاطفي، وقد تم عرض هذه الفكرة من خلال تسليط الضوء على طبيعة العمل الذي يقوم به “ثيودور” (لعب دوره خواكين فونيكس) الشخصية الرئيسية في هذا الفيلم، حيث يعمل كمحرر رسائل حميمية لصالح الأزواج الذين تفرقهم المسافات، وتجعل هذه الوظيفة من ثيودور وسيطا بين الناس، يتكلم باسمهم، وهؤلاء يشترون لسان المحرر وإبداعيته، فهم يتكلمون بلسانه وليس بلسانهم، أي أن خطابات الرسائل تعبر ظاهريا عنهم و باطنيا ليس عنهم.

التضحية الضرورية

قدم سبايك جونز (الذي زاوج بين الإخراج و كتابة السيناريو في هذا الفيلم) نموذج حياة يبعث الرعب في قلوب المشاهدين، فقد صَور واقعا تغيب فيه مشاهد “الحياة معا”، وهذا النوع من العيش يتطلب تضحية الشريكين من خلال التخلي عن بعض الأهواء الذاتية بغية إحداث توافق يسمح بتشارك الحياة، بتعبير آخر، يتطلب الوضع أخذ الفرد حالة شريكه بعين الاعتبار، ويغيب هذا الشرط مثلا في حالة صديقة ثيودور “إيمي” التي انتهى المطاف بها مطلقة، وقد وصفت هذه السيدة أسباب طلاقها بالقول أنها أسباب سخيفة لا تتعدى حدود مشاجرة  حدت بها كما حدت بزوجها إلى التمسك برأيهما إلى النهاية، بل اعتبرا أن العدول عن الرأي يُعد هزيمة تجعلهما يخضعان لعبودية الآخر. والحال أن رفض التنازل في هذا الصدد يقود استلزاميا إلى حياة العزلة حيث ينظر الفرد فقط إلى نفسه في إقصاء تام للآخر.

وعن قصة ثيودور (الشخصية المركزية في الفيلم)، فهي تحكي عنه باعتباره ذاك المخفق في حياة الزوجية والمشرف على توقيع أوراق طلاقه، حيث يطور مع توالي الأحداث علاقة حب مع “سامانثا” الصوت الآلي لجهازه الخلوي، وتجسد هذه القصة فكرة السعي إلى إقامة البديل الآلي للآخر، فإذا عجز الإنسان عن التعايش مع شريكه بسبب الأنانية التي لا تقبل التنازلات، فالحل يتمثل في صناعة شريك مطرز على المقاس، أي أننا ملزمون بحكم قانون الطبيعة أن نبحث عن شريك يفهمنا، يشاركنا اهتماماتنا، يؤازرنا، ومجملا يمدنا بجرعات العاطفة التي نحتاجها كمطلب حيوي محتوم.

لقد طور ثيودور علاقة كان مصيرها الفشل منذ البداية، فقد بحث عن ضالته في شريك ليس من نفس طينة البشر، فقد تخلت عنه “سامنثا” في الّاخير، وهي دلالة رمزية تعكس انسياق الإنسان نحو الوهم، وكأن لسان حال المخرج يقول إن الذات تجلد نفسها لأنها تبحث عن السعادة من خلال تكنولوجيا تشبع كل احتياجاتنا، بينما لا تشبع في الواقع ذلك، لقد أدرك ثيودور في آخر المطاف أنه لم يفهم عمق طبيعته البشرية، فهو كائن يبحث في الواقع عن الآخر الذي يرضيه، بينما لا يلقي بالا إلى ضرورة أن يرضي الآخر أيضا حتى تتحقق علاقة التكافؤ التي تضمن انتشالنا من الوحشة و العزلة.

لعبة المفارقات

الفيلم يعرض فكرة مضمونها أن التكنولوجيا تسرقنا من المجتمع، تغتال أرواحنا وتوهمنا بفكرة الشريك على المقاس، مما يقودنا إلى قطع جسور الروابط الحميمية مع الآخرين من بني جلدتنا، وهذا العمق الفلسفي في التناول تم ترجمته بنجاح مميز على المستوى الاخراجي، فقد نجح سبايك جونز في عرض قضايا الفيلم بالاعتماد على لعبة المفارقات، حيث ألبس المخرج شخصياته أزياء كلاسيكية تنتمي إلى زمن الستينيات من أجل تصوير مفارقة إقحام الماضي في حياة المستقبل، فالأزياء المعتمَدة حافلة بالألوان وتحيل إلى الدفء الذي يميز ماضينا، حيث كنا لا نزال نبقي على روابطنا التواصلية الحميمية، في مقابل برود قارس يسم عالمنا الداخلي في حياة المستقبل التي يعرضها الشريط، كما أن خيار وضع خلفية موسيقية هادئة قد فعَّل بنجاعة عملية جعل المُشاهد يتماهى مع حالات ثيودور النفسية التي تعكس الوحشة و الخواء الروحي.

لقد تم بناء نص الفيلم حول مفارقة مركزية يمكن تلخيصها في: إن البشر يظهرون عكس ما يبطنون، فهم يسوقون السعادة التي يوفرها التقدم التكنولوجي،  بينما في الواقع يغرقون أكثر فأكثر في بحر الوحشة والانعزالية.

* كاتب من المغرب

Visited 42 times, 1 visit(s) today