فيلم “هرجْ ومرج”.. ولعبة الدوائر المغلقة

ختارت نادين خان فى فيلمها الروائى الطويل الأول “هرج ومرج” أن ترسم ملامح عالم مغلق ومنعزل، شخصيات بسيطة محدودة الطموحات، تعيش حياتها يوماً بيوم، وتكاد تكون محاصرة فى دائرة مقفولة لا يمكن أن تبرحها، عالم المهمشين من جديد فى تجربة خاصة بها لمسة سخرية واضحة، ولكنها أيضاً مغلّفة بكثير من التعاطف.

لا يعنى ذلك أن التجربة كاملة الأوصاف، هناك ملاحظات بالطبع خصوصاً على طريقة رسم الشخصيات، ولكن معناه أن مخرجة جديدة حاولت أن تقدم شيئاً مختلفاً، نجاحها الأهم فى أنها نقلت الى مشاهد الفيلم حالة الكثيرين الذين لا يفعلون شيئاً تقريباً، يعيشون على هامش المدينة، أقصى مايسمح لهم أن يستفيدوا من قمامتها، يرتبون حياتهم فيما بينهم، يتحايلون على الرزق، ويخلقون مباهج صغيرة، ولكنهم يفشلون بالقطع فى أن يصنعوا من الهرج والمرج نظاماً متماسكاً.

لم أتعامل مع الفيلم الذى كتبت نادين خان قصته، وكتب له السيناريو والحوار محمد ناصر على، باعتباره عملاً يقدم معادلاً خيالياً محلّقاً لمنطقة عشوائية وأشخاص مهمشين، هناك لمسات من هذا الخيال هنا وهناك، مثل تلك الإذاعة التى تبث  الأغنيات وتقدم أخبار السرقات والحوادث، ومثل تلك السيارة التى تنقل الى المكان المياه والحلوى وأنابيب البوتاجاز واللحوم.

تعاملت مع هذه اللمسات باعتبارها إطاراً كاريكاتورياً لتفاصيل واقعية تخفف من خشونة المعالجة، كل العلاقات واقعية، الشخوص الجالسون فى الطرقات يمكن أن تراهم فى أى مكان، الأطفال الذين يصنعون عالمهم وقانونهم موجودون أيضاً، بناء الفيلم واقعى تماماً، حتى تلك السيارات التى تنقل المؤن لها أصلها فى مناطق لا يصل إليها الماء إلا عن طريق “الجراكن”، ظل الواقع قوياً بتفاصيله الى درجة أن اختيار مكان مغلق ومحدد، وتجريد الزمان والمكان،  لم يستطعا أبداً أن يلامسا حدود الفانتازيا، الحقيقة أن أغرب ما ينقله الخيال يمكن أن يكون فقط مجرد كاريكاتير لأصل واقعى فى تلك المناطق المصرية الهامشية المليئة بأعجب مما رأيناه فى الفيلم.

ولدان وبنت

سيكون من التلخيص المخلً أن نقول إن الصراع فى “هرج ومرج” لا يزيد عن محاولة ولدين الفوز بإحدى البنات، ليس هذا معنى الحكاية، وليس هذا الصراع سوى الوسيلة لرسم ملامح شخصيات ومكان يحاول أن يصنع قانونه بلا جدوى، الهدف أن تصل إليك حالة الفوضى وأن تدور فى إطار محدد متكرر، يفترض أنها سبعة أيام فى حياة هؤلاء الذين لا يغادرون أماكنهم، وإذ نظن أن السرد سيقطع المسافة من بداية الأسبوع الى نهايته، نكتشف أخيراً أن السرد لم يكن سوى عودة عكسية، من نهاية الحكاية والأسبوع الى بدايته.

فى مشهد قبل العناوين، نسمع أصوات أطفال دون أن نرى وجوههم، يحملون بندقيتى صيد، ويتداولون حول الأهداف المطلوبة، تنزل العناوين مع موسيقى البيانو، سيبقى هؤلاء الأطفال على مدار الفيلم نموذجاً للفوضى القادمة من فوضى حالية، من صيد الحمام الى السرقة وضرب قنابل المولوتوف.

فى الفجر تظهر لمبة واحدة مضيئة تعلن عن ليل لا يريد أن يذهب، أمام بقايا المدينة من عبوات بلاستيكية فارغة، يقوم زكى (محمد فراج) بتوجيه الأطفال غاضباً الى عملية فرز العبوات، غريمه منير (رمزى لينر) يستقبل مقعداً ألقته إليه منال ( آيتن عامر) من بلكونة قريبة، يسأل زكى عن سيجارة، تمر جنازة مجهولة فى ضباب بداية اليوم.

الولدان هما زكى ومنير، والبنت هى منال، والجنازة هى التى ستفتح أمامنا باب الرحلة الى المكان والناس، يستمر السرد فى اختيار فترات من أيام الأسبوع، ثم تنغلق الدائرة فى المشهد الأخير، عندما يتكرر مشهد البداية، نكتشف أننا عدنا فى فلاش باك طويل ولم نتقدم الى الأمام، وأن يوماً مثل الإثنين أو الأحد ليس إلا الإثنين والأحد السابقين، الحقيقة أن لعبة ايام الأسبوع المكتوبة على مساحات سوداء خادعة تماما، كل الأيام متشابهة إذا كنت  خارج الزمن. 

أيتن عامر بطلة الفيلم

تخدم هذه البداية معنى الدائرة المحكمة التى حدثتك عنها فى بداية المقال، الإنطلاق من نقطة لتعود إليها من جديد، يقدم هذا المشهد أيضاً أبطال الحكاية الثلاثة، ويرسم ملامح المكان المنعزل الذى يبدو خارج الخريطة.

لا نعرف الكثير عن منال، لا نعرف ما إذا كانت متعلمة أم جاهلة، كل ما نراه فتاة جميلة تعيش مع والدها كبير الحتّة المعلم سيد (صبرى عبد المنعم)،  من الواضح أنها شخصية متقلبة، فى مشهد نراها أقرب الى زكى، وفى مشهد آخر تتقبل  منير سواء عندما ينقل لها الأنبوبة من خلال أحد مساعديه، أو بأن تلعب معه بلاى ستيشن، حضور آيتن عامر على الشاشة واضح، ولكن الشخصية كانت بحاجة الى لمسات إضافية تبرر تقلباتها الغريبة بين زكى ومنير.

زكى لديه حجرة صغيرة لممارسة التمرينات الرياضية مع شريكة الكوتش، نستطيع أن نخمن أنه يرتزق من بيع عبوات القمامة الفارغة مثلما رأيناه فى مشهد البداية، موقفه من منال أيضاً متقلب، يحبها بالتأكيد ولكنه يعتقد أنه تلعب به وبالآخرين، يقول إنه لايمكن أن يرتكب جريمة من أجل إنسانة مثلها، عندما يلتقيان يتشاجر معها، تبكى ثم تضحك، يبدو تقلب الشخصيات جزءا من حالة الهرج والمرج فى الفيلم، ولكنه كان فى حاجة الى مقدمات وأسباب.

منير لا يفعل شيئاً تقريباً سوى الجلوس على مقعد فى الشارع، حوله بعض الشباب أبرزهم توك توك (بأداء مميز من أسامة محمد عطية) الذى يرتزق فيما يبدو من تنظيم مباريات كروية بين منير وزكى، والحصول على نسبة من الجائزة (قد تكون لحوماً أو عصائر)، ومن المراهنات أيضاً، فى خلفية اللوحة يظهر الطفل بندق شقيق الكوتش وأصدقاؤه من الأطفال، يصيدون الحمام، ويسرقون، ويحرقون إذا استدعى الأمر، أما الصلة الوحيدة بين هذا العالم المغلق والعالم الخارجى فهى تلك السيارات التى تحمل الوقود والطعام والحلوى، يتدافع الجميع للحصول على نصيبه منها، وينقل الميكروفون أخبار وصولها وكأنه عيد الأعياد.

نادين خان المخرجة

 المعلم سيد

إذا كنا قد أخذنا على الفيلم نقص بعض اللمسات فى شخصية منال  بالتحديد، فإن نقطة الضعف الواضحة فى البناء كله هى شخصية المعلم سيد، يفترض أننا أمام سيد الحتّة، ولكننا نشاهد طوال الوقت رجلاً عادياً تماماً، لديه محل صغير للدخان، ولديه عشيقة متزوجة يطلقون عليها أم هند، يزورها ويقيم معها علاقة بعلم زوجها نظير بعض علب المعسّل ! هناك توتر واضح بينه وبين ابنته التى تناديه باسم المعلم سيد، ربما بسبب عشيقته المتزوجة.

أقصى ما يفعله المعلم سيد لصالحه هو أن يتخطى الدور فى الحصول على أنابيب البوتاجاز، نراه أيضاً  يتفق مع توك توك على تنظيم مباريات الكرة بين فريقى منير وزكى فى مقابل الحصول على كميات من اللحوم، ليس لشخصية سيد هذه السطوة المفترضة للسيطرة على هذه المنطقة المجردة من الاسم.

يتضح ضعف الشخصية درامياً عندما تخضع لابتزاز منير الذى سرق جهاز سيد النقال، وهدده بإذاعة ما سجله عليه لعشيقته أم هند، اعتبر منير أن إعادة الجهاز الى سيد ثمنه الوحيد الزواج من منال، ولكن بعد أن يكسب منير مباراته ضد فريق غريمه زكى، كبير الحتة يسقط ضحية الإبتزاز الغريب بمنتهى السهولة، ورغم أنأهلالحتة كلها والزوج نفسه يعرفون علاقة سيد وأم هند، إلا أن سيد يخشى الفضيحة، وأم هند تسكب الغاز على جسدها فى محاولة فاشلة للإنتحار!

ساهمت الطريقة المرتبكة التى قدمت بها شخصية سيد فى إضعاف الحبكة، بدا الصراع وهمياً لأن المعلم ضعيف وخفيف، منير وفريقه سيكسبان المباراة، وفجأة يموت الكوتش (رأيناه فى مشهد سابق يحقن نفسه بمادة غامضة)، نعود الى مشهد البداية لتظهر معالم الجنازة، وداع الكوتش، منال تلقى المقعد لمنير، ربما يكون قد فاز بها بمنطق الإبتزاز، وتحقق له ما قاله فى مشهد سابق عندما طلب من زكى أن ينتقل الرهان من العصير الى اللحم الى منال، ولكن هل يمكن الحديث عن انتصار وسط هذا الهرج والمرج؟ وهل يفرق كثيراً ان تتزوج منال من منير أو من زكى والجميع يعيشون داخل دائرة أقرب الى السجن الكبير؟

عناصر جيدة

رغم الملاحظات التى كان يمكن أن تقدم للفيلم ضبطاً أفضل للشخصيات، إلا أن المخرجة نجحت الى حد كبير فى خلق هذا الجو الخانق، وقدمت أيضاً لمسات ساخرة خففت كثيراً من المعالجة، كل مشاهد وصول سيارات المؤن  ومباريات الكرة قدمت بإتقان بمساعدة مونتاج دينا فاروق، هناك ما يقترب من مذاق المشاهد التسجيلية، الصورة ثرية بإضاءة عبد السلام موسى  الذى ابتعد عن الألوان الدافئة، وديكور عاصم على، وملابس مروة عبد السميع، لدينا عناية واضحة بالتفاصيل وبحضور المكان وارتباط البشر به.

أداء الممثلين كان أيضاً جيداً، محمد فراج الموهوب لديه إمكانيات واضحة لتقديم أطياف واسعة من الشخصيات الشعبية المتنوعة، رمزى لينر الذى قدمه فيلم “بالألوان الطبيعية” يرسخ أقدامه بدور مميز، آيتن عامر كانت ملائمة فى شخصية الفتاة المتقلبة، الثلاثة نجحوا بالتعبير بالوجه والإيماءة وحركة الجسد بديلاً عن الكلمات فى مشاهد كثيرة، ربما ساهمت شخصية المعلم سيد المرتبكة فى الأداء الفاتر من صبرى عبد المنعم، ولكن أسامة محمد عطية خطف الأضواء من الجميع فى كثير من الأحيان، لديه حضور كبير، وقدرات كوميدية واضحة.

لابد من التنويه كذلك بتميز حوار الفيلم مما منح الفيلم هذه الواقعية الحميمة، وبموسيقى حسن خان،  قد لا تكون التجربة مكتملة تماماً ، ولكنها تكشف عن مخرجة تعرف كيف تستخدم أدواتها، أراها متأثرة بالطبع بعالم والدها  المخرج محمد خان فى الإهتمام بالإنسان فى المكان، وفى نقل الحالات والأجواء لا الحواديت، وفى الإهتمام بثراء الصورة وشريط الصوت،  لدينا فقط فى “هرج ومرج” قوسان من سخرية لاذعة وغرابة مقبولة، ولكنها لم تجعل الفيلم خارج دائرة سينما التفاصيل الصغيرة، والتى تمنح البطولة دوماً للشخصيات العادية.

Visited 30 times, 1 visit(s) today