فيلم “نجد”.. دراما كلاسيكيَّة في البادية

براءة ومكيدة، حسرة وحزن، وذكريات بعيدة لكنَّها حاضرة كأنْ لمْ تدخل في حيِّز الذكرى .. هذه هي الخطوط التي نسج منها “نجد” الفيلم السعوديّ بناءه الدراميّ. لعب مؤلفه على إحدى أيقونات القصص الكلاسيكيَّة ليقدم لنا قصةً وأشياء أخرى. وبرز المخرج في ألطف تلك الأشياء الأخرى وهي تصويره للمجتمع السعوديّ في خمسينيَّات القرن العشرين.

الفيلم يدور حول “نجد” (حياة الفهد) السيدة العجوز الطاعنة في السنّ، والتي تقبع في مشفى في “الكويت”. والتي يُعرض عليها مبلغ مُغرٍ من المال لتتخلَّى عن ملكيَّة بيت زواجها القديم لصالح الدولة لاستغلاله. “نجد” -التي عاشت طوال عُمرها تنكر ملكيتها للبيت- تواجه الآن إلحاح ابنتها في بيع البيت للاستفادة من أمواله. وفي ظلال مرضها البادي ورغبة المحامي والابنة والطبيبة -التي تعلَّقت بأمر السيدة العجوز- في معرفة سرّ البيت القديم، وسبب إنكارها لملكيته تبدأ “نجد” في رواية القصة القديمة التي مضى عليها خمس وستون عامًا.

يعود بنا الفيلم إلى العام 1950 لنرى قصة “نجد” الشابة (ميساء مغربي) التي يتعلَّق بها الشاب “خالد” (ماجد مطرب) الذي يعمل في مجال تجارة التمر. وبعد تحقيقه لبعض النجاح في العمل، ورغبته في تأسيس أسرة بمشاركة “نجد” يتقدَّم لطلب الزواج بها من والدها “سليمان”. ويُفاجأ “خالد” برفض الوالد تزويج ابنته له؛ فهو قد طعن في السنّ ولا يريد أن يزوج ابنته من رجل يعمل عملاً مؤقتًا لا ثابتًا. لذلك يفكر “خالد” في الالتحاق بالجُنديَّة ليتخرج منها موظفًا في الدولة. ثم تقع المفارقات العديدة في قصتنا التي تمتد امتدادات بعيدة.

عمل المؤلف “خالد الراجح” بدا متماسكًا قويًّا. يسترعي فيه الانتباه أمران: الأول هو الاعتماد على قصة كلاسيكيَّة عتيقة تتركب عناصرها من شاب مجتهد طيب، وشابة بريئة، وأب ذي عُسرة ماليَّة، وعجوز يستغلّ الوضع كلَّه. هذه القصة من أكثر القصص كلاسيكيَّة وتقليدًا وهذا يعني أمرين أولهما أنَّها قصة ناجعة وذات تأثير على النفس الإنسانيَّة التي سُرعان ما تتفاعل معها وتتقبَّلها بل تسابق الممثلين أنفسهم في الشعور بها وإحداث التغيير في القصة وكأنَّ المشاهدين تحولوا إلى محل الممثلين أنفسهم؛ هذا ما تحدثه القصص الكلاسيكيَّة واستغلال عناصرها في التأليف.

لكنَّ ما يعنيه أيضًا اللعب على مثل هذه القصص هو ضرورة التجديد أو على الأقلّ الإتقان حتى لا تنقلب كلّ الأهداف التأثيريَّة في المُتلقي إلى مضارّ قد تودي بالعمل كليَّةً. وهذا يقع عِبؤه على التأليف من ناحية، وعلى التمثيل والإخراج من أخرى. لكنَّ فيلم “نجد” قد عبر هذا الفخّ بسلام وقدَّم تناولاً جيدًا لكلاسيكيَّة قديمة؛ لعلَّ ما أضاف لها البكارة والتجديد هو دورانها في أجواء الصحراء والبادية على خلاف أجواء المدينة المُستهلكة التي اعتادتْ العين على النظر إليها. وهذه الأجواء العربيَّة البدويَّة كنز للسينما العربيَّة لو أجادتْ استخدامها على مستوى التجربة البصريَّة.

ثاني ما يسترعي الانتباه في تأليف الفيلم وهو الاعتماد على الانتقال الزمنيّ في سرد الأحداث فنحن لا نشاهد خطًّا زمنيًّا فيلميًّا مستويًا، بل نرى زمنَيْنِ معًا الأول تقع أحداثه عام 2019، والثاني عام 1950. الأوَّل هو المُتسبب في ظهور الثاني وحكيه، والأول ضيِّق الأحداث غير مُمتدّ، أمَّا الثاني فمُمتدّ لشهور بعدها. وثنائيَّة السرد تقتضي الكثير من الجهد التنسيقيّ كي تستطيع جذب انتباه المشاهد وهذا ما حدث ونجحت فيه التجربة، بل إنَّها في لحظات نجحت في نقل التجربة شعوريًّا إلى حدّ الإثارة.

ويعيب التأليف ملمح من ملامح الحوار يتعلَّق بالواقعيَّة وهو تساوي الحوار رغم التباعد الزمنيّ إلى حد كبير؛ فحوار الأمس هو حوار اليوم في الفيلم. كما أنَّ الحوار الذي دار في الخمسينيَّات من القرن الماضي باللهجة المصريَّة هو نفسه حوار اليوم الذي يدور على ألسنة العامة في مصر. ولمْ يراعَ هذا الأمر مع أنَّه أمر معيب للتجربة.

استطاع الفيلم من خلال استغلال أدواته -التي منها القصة الكليَّة التي تدور- من تسريب بعض المعاني، ورصد بعض اللحظات التاريخيَّة التي من الواضح أنَّها القصد الحقيقيّ من الفيلم. وهي إبراز التطور الحادث على الأراضي العربيَّة السعوديَّة منذ الخمسينيَّات حتى الآن، ولحظة إدخال التعليم المدنيّ بجوار التعليم الدينيّ.

وفكرة الاستثمار الأجنبيّ -خاصة الأمريكيّ- الذي قُدِّم في الفيلم على أنَّه نفع محض. ولعلَّ الأخير قد رُكِّز عليه من خلال اسم الشركة “شركة الزيت العربيَّة الأمريكيَّة” (أرامكو) الذي تكرر في الفيلم، وكون المشروعات الأجنبيَّة داخلة في نطاق التأثير البنائيّ للقصة في مستوى الماضي. وهناك مشهد يسترعي الانتباه فيه ينظر عربيّ إلى زجاجة مياه غازيَّة “كولا” ثم يمدّ يده ليشرب منها؛ ومعلوم أنَّ شركتَيْ المياه الغازيَّة العظميين من رموز أمريكا.

وقد أجاد المخرج “سمير عارف” في نقل الواقع السعوديّ في مرحلة الماضي، مُهتمًا بالتفاصيل التكوينيَّة للصورة، وبأداء الممثلين الخالي من الأداءات الصارخة، وباختيار جيد لأماكن التصوير وبما فيها، كما استطاع إدارة تصوير سينمائيّ متوازن. رغم وجود أمور أهملتْ أو نُفِّذت أقل كفاءة مثل مشهد القتل ومشهد استرجاع لحظة القتل ثانيةً.

وهناك أشياء لا يمكن أن تمرّ مثل الخطأ الفادح في الكتابة في أول مشاهد الفيلم حيث كُتب الفعل “يُشترط” هكذا “يشطرت”! وحيث كُتبت كلمة “صكّ” -أيْ حُجَّة البيت- هكذا “سك”. ولا أدري أين كان الجميع حينما كُتبت؟ .. كما لحن مُعلِّم “القرآن الكريم” في آية من سورة “الإخلاص” والأصل أنَّه مُعلم يعلِّم “القرآن” فكانت النتيجة أنْ خرجت الآية ملحونًا فيها.

وقد اكتمل بناء الفيلم بعنصر التمثيل الذي أجاد فيه الجميع تقريبًا. وقد ظهر اختيار غريب لممثل مصريّ كي يؤدي دور مُعلِّم جاء ليُعلِّم الصغار في مشروع التعليم الجديد الذي تبنَّتْه الدولة. ولا حاجة لبيان غرابة الاختيار؛ فمجرّد سماع صوته أو رؤية أدائه سيتبين مدى ما في الاثنين من بلاهة ظاهرة على خلاف المأمول من الشخصيَّة أصلاً.

هكذا استطاع فيلم “نجد” أنْ يبني بنيانًا جيدًا ومتماسكًا من عناصر كلاسيكيَّة ليربطها بمعانٍ؛ مُقدِّمًا عملاً يستحق المشاهدة، ويستحق الاهتمام.

Visited 216 times, 1 visit(s) today