فيلم كلينت إيستوود الجديد.. “يا ما في الحبس مظاليم”!

الممثل، النجم، المخرج، المنتج الأمريكي الأسطوري كلينت إيستوود يعود وهو يقارب الرابعة والتسعين من عمره، ليقف مجددا وراء الكاميرا، متحديا الزمن والوهن الجسماني الطبيعي، ليثبت أن المبدع يمكنه أن يستمر فبي الإبداع طالما أن عقله لايزال يقظا، يفكر ولديه القدرة على الابتكار والتأمل والتجسيد. وهذا في حد ذات أمر جدير بالترحيب والثناء من دون أدنى شك. لكن تناول الفيلم نفسه يجب أن يتخلص من طغيان مشاعر التعاطف المسبق مع مبدعه الذي قد يكون هذا آخر أفلامه كما يرى الكثيرون، وإن كنت آمل أن يتمكن إيستوود من العودة مرة أخرى ليهزم كل التوقعات.

ومع ذلك، يجب أن أعترف بأنني لم أشعر بالمتعة وأنا أتابع فيلم كلينت إيستوود الجديد “المحلف رقم 2”- Juror 2 (وهو في حد ذاته، اختيار سيء لاسم الفيلم)، ولكن الأمر يتجاوز الاسم، إلى سياقه أي هيكله الذي يحمل بناء الفيلم طوال ما يقرب من ساعتين.

كان المرء يأمل أن إيستوود يريد أن ينهي مسيرته الطويلة في العمل السينمائي (أكثر من ستة عقود) بفيلم “كبير”، يرسخ في الذاكرة، ولكن ما حدث أنه أنتج وأخرج في الحقيقة- كما يبدو- من وجهة نظري الشخصية وطبقا لخبرتي الخاصة على الأقل- عملا يشبه سهرة تليفزيونية، يطرح من خلاله، سؤالا أخلاقيا في سياق غير مقنع كثيرا رغم براعة الأداء، والأهم عندي، انه غير ممتع كثيرا بل يشبه مشاهدة مباراة في لعبة الشطرنج يشوبها الكثير من الرتابة والروتينية، كما أن أي مشاهد مدرب ولو قليلا على مشاهدة هذا النوع من الأفلام، يمكنه أن يدرك كيف ستنتهي قصته.

من ناحية، يبدو الفيلم كما لو كان عملا ينتمي إلى الماضي، عتيق الطراز، ثقيل الوطأة، سواء في موضوعه ذي النزعة الأخلاقية الواضحة، أو بنائه الدرامي وأسلوب إخراجه التقليدي، فمعظم ما يحدث، يدور داخل قاعة محكمة في بلدة بالجنوب الغربي من الولايات المتحدة، وما يكتنف ذلك من مبارزة تدور بين ممثلة الادعاء، وممثل الدفاع، على نحو يدفعنا للمقارنة مع المسلسل الأمريكي البارع الممتع “محامي اللينكولن” The Lincoln Lawyer الذي يتفوق في كثير من حلقاته كثيرا على هذا الفيلم من زاوية المتعة، والإثارة الذهنية، والحبكة وتطورها ومسارات الشخصيات. ولكن هذا موضوع آخر على أي حال. 

أما حبكة “المحلق رقم 2” فهي تدور حول المأزق الوجودي الذي يجد الشاب “جوستين” نفسه فيه، كما لو كانت المقادير قد تآمرت ووضعته وسط تلك الأحداث الملتبسة الغريبة في ليلة ماطرة كئيبة.

إلا أن الفيلم لا يبدأ بالحادثة المحورية التي ترتبط بها مصائر الشخصيات. ولكننا سنرى أولا كيف يقع الاختيار على “جوستين” وهو صحفي شاب لكي يصبح المحلف رقم 2 ضمن 12 عضوا تضمهم هيئة المحلفين، يتعين عليهم التوصل إلى حكم فيما يتعلق بجريمة قتل تبدو واضحة كل الوضوح.

 جوستين غير سعيد بهذه المهمة فهو يريد أن يظل الى جوار زوجته الشابة الجميلة “أليسون” الحامل، وسنعرف فيما بعد، أن هذا حملها الثاني بعد أن فقدت توأما قبل أكثر من سنة. لكن ما يحدث أن جوستين يقبل القيام بدوره ضمن أعضاء هيئة المحلفين، ويتابع القضية باهتمام، ونتابعها نحن من خلال سياق سردي يحاول إيستوود أن يجعله أقل ثقلا، عن طريق الانتقال السريع بين محامي الدفاع، وممثلة المدعية، في مقاطع قصيرة تتقاطع معا، تلخص لنا القضية.

المتهم أو الشاب “جيمس”، صاحب تاريخ عنيف وضلوع في المخدرات، تشاجر مشاجرة حادة في تلك الليلة مع حبيبته “كندال” في حانة أمام بعض الشهود ثم تبعها إلى الخارج حتى موقف السيارات، وتركها تسير بمفردها تحت النطر عائدة إلى بيتها، ثم قاد سيارته وابتعد.

تتقاطع مشاهد العودة إلى الماضي، في ضوء إفادات الشهور في المحكمة، لنرى أن الأمر انتهى بالفتاة جثة هامدة ألقيت أسفل جسر صغير في منطقة مهجورة.

يدرك “جوستين” الآن، أولا أنه كان موجودا في الحانة نفسها في تلك الليلة، أراد أن يشرب رغم انه اقلع عن الشراب بعد أن عولج طويلا من الإدمان، لكنه لم يشرب رغم حالته النفسية السيئة بسبب فقدان طفليه التوأم قبيل ولادتهما، وثانيا هو يتذكر أيضا أنه صدم بسيارته عند الجسر نفسه، ما تصور أنه غزال، لكنه ربما لم يكن غزالا بل الفتاة نفسها.

من البداية إذن يكشف الفيلم عن “القاتل” الحقيقي للفتاة، ولو من دون قصد. فهل سيعترف بالحقيقة أم سيصمت ويسعى لتأكيد التهمة على حبيب الفتاة “جيمس”؟

عندما يستشير ربيبه المحامي “لاري” (يقوم بالدور كيفر سوذرلاند)، يخبره هذا بكل حسم وحزم، انه إن فعل- فلن يصدق أحد أنه ذهب وجلس في الحانة في تلك الليلة من دون أن يقرب الخمر، وبالتالي بدلا من تخفيف الحكم عليه بسبب اعترافه، سينال حكما بالسجن المؤبد لقيادته السيارة تحت تأثير الخمر، وبالتالي ستدمر حياته بالكامل!

جوستين يشعر بتأنيب الضمير، وهو الوحيد الذي يعترض على إدانة “جيمس” من بين المحلفين زملائه، الأمر الذي يلفت أنظارهم، ولكنه في الوقت ذاته، لا يريد أن يدمر حياته وحياة أسرته الصغيرة، فيختار أن يلقي بظلال الشك على ما يتفق عليه سائر المحلفين من إدانة جيمس لعله ينال البراءة أو حكما مخففا. ولكن هل سينجح في مسعاه؟

ممثلة الادعاء تعتبر هذه القضية فرصتها التي سترفع من أسهمها وتكفل لها النجاح في الوصول إلى منصب المدعي العام للولاية عن طريق الانتخابات. هنا نصبح أمام الفكرة الأخلاقية الثانية، وهي هل يضحي المرء بالعدالة وينقذ نفسه، أو يتمسك بالعدالة ويفقد مستقبله ومستقبل أسرته؟ وهل العدالة هي الحقيقة وأنها تعمل؟ كما يقول محامي الدفاع لزميلته السابقة في الجامعة التي أصبحت خصمه الآن، أي ممثلة الادعاء طبقا لما تعلمه كلاهما من البروفيسور نيلسون؟ أم أن العدالة لا تتسق دائما مع الحقيقة كما سيقول لها جوستين في المشهد ما قبل النهائي؟

أفكار أخلاقية جيدة تقتضي التفكير، لكن الفيلم يظل يدور حولها مرارا وتكرارا، لينتهي من دون إجابة واضحة، كما أنه يظلل فيلمه (طبقا للسيناريو الذي كتبه جوناثان أبرامز) بشخصيات أخرى تمتلك دوافع، بعضها مقنع مثل الرجل الأسود الذي فقد شقيقه المراهق بسبب إدمان المخدرات لذا يقرر من البداية وقبل أي مداولات، إدانة جيمس.

غالبية المحلفين يرغبون في الانتهاء ن القضية في أسرع وقت والعودة إلى أعمالهم، ولكن هناك محقق شرطة متقاعد بينهم، يقوم بالتحري والبحث، ليتوصل إلى استبعاد أن يكون جيمس قد ارتكب الجريمة، ويصر على أنها نتيجة حادث صدم بالسيارة.

في الفيلم بعض الحشو أو المشاهد التي يخلقها السيناريو لا أرى أنها تساهم في تطوير الحبكة، منها مثلا تكرار زيارة مكان الحادث أو الجريمة عند الجسر: يذهب إليه الشرطي المتقاعد، ويذهب جوستين، وتذهب ممثلة الادعاء، ويذهب أعضاء لجنة المحلفين جميعا في حدث نادر بناء على طلبهم.

الأداء جيد هذا أمر لا شك فيه، فايستوود ممثل أساسا، يجيد في كل أفلامه تحريك الممثلين. هنا يبرز أداء “نيكولاس هولت” في دور “جوستين” الذي يتمحور أداؤه بين البراءة والتردد والالتفاف، بين الشعور بالأسى على الضحية الذي يمكن أن يقضي بقية عمره في السجن لجريمة لم يرتكبها بل نتيجة خطأ كبير ارتكبه جوستين نفسه، وبين رغبته في حماية هذا الشخص- الضحية وإنقاذه من المصير المنتظر ولكن من دون الكشف عن الحقيقة حرصا على سلامة ومستقبل أسرته.

يبرز أيضا كريس ميسينا في دور محامي الدفاع “إريك”، وتوني كوليت في دور ممثلة الادعاء “فيث” التي تحتل مساحة أكبر من الفيلم، كونها شخصية أكثر تركيبا، فهي تتطلع للوصول الى منصب المدعي العام، وبالتالي تسعى بكل طريقة لكسب القضية بل وتعتبر إدانة جيمس من البداية أمرا مقضيا، في حين أن إريك يوقن من خلال الملابسات، أن جيمس بريء، ويسعى للتشكيك في الأدلة وشهادات الشهود، وداخل غرفة المداولات يلعب جوستين دورا مماثلا، ولكن مراوغا أيضا.

هنا نرى مباراة في الأداء بين الممثلين الثلاثة في فيلم يشوبه الطابع المسرحي بسبب غلبة الحوار والاعتماد الأساسي على الأداء وحركة الممثلين داخل ديكورات محدودة، رغم الاجتهادات الواضحة في صبغ الصورة في المشاهد الخارجية خصوصا التي تدور في الليل، بصبغة غموض خاص، مع التركيز على استخدام اللقطات القريبة للوجوه لتكثيف المشاعر المختلفة. أما مشاهد العودة إلى الماضي التي يكشف من خلالها ما يفترض أن يكون قد وقع، وما وقع حقيقة، تارة على مقع شهادة أحد الشهود، وتارة أخرى من واقع التداعيات في ذهن جوستين نفسه، فهي تبدو تقليدية ومدرسية تماما.

 هل يتميز الفيلم بالتشويق؟ ليس كثيرا، فالمشاهد يعرف مسبقا ما يرمي إليه الفيلم، أي أنه لن يلجأ لما هو متوقع، أي اعتراف جوستين وإطلاق سرح جيمس، بل سينتهي بتعقيدات ذهنية أكبر، فاهتمام السيناريو بمداعبة عقل المتفرج بمثل هذه التساؤلات التي يطرحها حول مفهوم العدالة، مع التشكك في كون العدالة يمكن أن تكون خالصة فيما البشر المنوط بهم تطبيقها تتنازعهم نوازع ذاتية (حماية مصالحهم، الترقي الوظيفي، والاشتغال بالسياسة.. إلخ).

هذا بالقطع عمل لا يشبه سوى من السطح فيلم سيدني لوميت البديع “اثنا عشر رجلا غاضبا” الذي كان رغم الديكور المحدود، يفيض بالحيوية وينتقل بين عدد من الشخصيات المتباينة المعاصرة لبيئتها الأمريكية بشكل شديد البراعة والتأثير.

ومع ذلك فلا شك أن الفيلم يستحق المشاهدة، والتوقف أمام ما يصوره خصوصا ما يطرحه من تشكك في أحد جوانب الفخر في الثقافة الأمريكية السائدة، أي ما موضوع دولة القانون، فكرة العدالة، وكيف يصعب كثيرا تطبيق العدالة من خلال النظام الذي قد يقضي بمعاقبة البريء لمجرد الاشتباه أو طبقا لنظرة مسبقة منحازة.. فما يتم الحديث عنه أكثر من مرة في الفيلم، هو أن السلطات استبعدت من البداية احتمال أن يكون المسؤول عن الجريمة شخصا آخر غير جيمس، حبيب القتيلة. فما يقوله الفيلم هو إن القانون غير محايد، وبالتالي “ياما في الحبس مظاليم” كما يقول المثل المصري!

Visited 31 times, 1 visit(s) today