الفيلم العراقي “غير صالح”.. آخِر أرواح المدينة

Print Friendly, PDF & Email

“كل شيء ينزلق من بين أصابعي، هيَّ، الحياة، الفيلم، المدينة.”

على وقع النسق الشعري لتراجيديا المشهد العراقي ينتقل فيلم “غير صالح” (2005) باكورة افلام المخرج عدي رشيد الروائية الطويلة من التأمل الشخصي بخيالات مستنزفة لواقع دامي الى امكانات الصورة الوثيقة التي تلتقط الفوضى المأساوية لغزو امريكا العراق في العام 2003 وتراكمات ما سبقه من محن متوالية ضمن اطار لوحة مستدامة لأنسان هذه الارض يشتبك فيها المعاناة الشخصية المضنية والتاريخ الحافل بالأسى متلمسًا شهادة فنية يتقطر من اللون الحائل لصورتها جودة تسخر بمرارة من الصلاحية المنتهية للشريط الخام.

تبدو مسيرة دقائق الفيلم الاول في تاريخ السينما العراقية بعد حقبة النظام السابق تَبَصُّرَ في الهوية الانسانية للفرد العراقي حين يَتَرَصّد اللحظة الفارقة سياسيًا واجتماعيًا مُرددًا اسئلة وجودية مُلحة تعتصر الروح بحثًا عن اجابة شافية بعد ان اصابتها لعنة العيش في وطن النعيم المفقود. كل شيء في (غير صالح) يمتد من حقائق ملموسة لواقع جديد صادم باختلافه الجذري ليضرب على موضوعات اساسية لازال الاشتباك دائر حولها مع تعدد فصول المأساة العراقية مثل الانتماء وخسارات الذاكرة القريبة والبعيدة وجذورها المغروسة بالألم والامتداد الحضاري للروح بين التقدم والنكوص، والحقوق والحقائق في ظلال التاريخ المضطرب.

في سرد الفيلم تختفي المتن والهوامش ولا يتبقى سوى اطارات ذكية ترسم من خلال افراد وعي أمة عرفت بوضوح تشتتها المُزمِن ولكنها كلما اقتربت من اكمال تشييد الاوتاد الجامعة لفضاء المعمار الذاتي لهويتها الا وتشظت تحت مطرقة الخيبات وسوء النوايا وخبث الاخرين ولؤم الطامعين.

من العنوان (غير صالح) ينكشف الاسم عن تعقيدات تقاطع التجربة الشخصية والسياق الاجتماعي والسياسي ليرصد سمات الاغتراب العراقي المعاصر، تشكلها رؤية سينمائية تتحرك من واقعية مفرطة تؤطر جنون الحرب ووقعها المنظور وغير المنظور بالصورة الوثيقة الى رمزية درامية مؤثرة تخلق عوالمها الشعرية عدسة مدير التصوير المميز زياد تركي والتي تعرف ببراعة كيفية اظهار مفترقات طرق النفوس لإغناء خيارات الرحلة الجوانية بصريًا بما يتيح التقرب بوضوح من ومضات حضور ذاكرة الوعي ثم خيبات تلاشيها.

قصة الفيلم عن حسن وهو مخرج سينمائي شاب يسعى للتعبير عن علاقته الروحية وانثيالاته العاطفية بالمدينة الأثيرة على نفسه من خلال صناعة فيلم -لا تتوفر له سوى عدد محدود من بكرات شريط خام قديم وغير صالح للعرض- ليوثق فيه رحلته الفكرية عن الحياة ببغداد بشكل صور وثائقية تلتقط ما حدث من دمار إنساني وذهني وتدمير للممتلكات والاستباحة المفجعة والمتعمدة للمؤسسات الثقافية والفنية كالمتحف العراقي ودار الكتب والوثائق والمسارح وحرقها بشكل همجي في اعقاب الغزو الامريكي بنيسان من العام 2003. فالتوازي بين السقوط الجسدي لضحايا الحرب وتدمير ركائز الثقافة والحضارة يقدم صورة متكاملة حاول المخرج ضمن حكاية الفيلم ابرازها كتجلي بارز للهمجية التي تسحق كل شيء. هكذا وبالسعي المشترك مع افراد العائلة والاصدقاء سيتتبع السرد تعقيدات العيش في واقع العراق الجديد الرازح تحت الاحتلال من خلال نماذج انسانية مختلفة.

مثل بغداد المتشبثة ببقايا ثوبها الممزق تبتغي الشخصيات ان تستخرج من مادة منتهية الصلاحية فيلمًا يغمر روحه وذوات صانعيه أُمنية البحث عن الامل. يسير عدي رشيد وحيدر حلو وفارس حرّام بالنص السينمائي الذي كتبوه على ايقاع شعري يحاول اجتراح الكلمات لاستخراج النجوى كتيار غالب على الحوار، فلا يقتصر على تجسيد الصوت الداخلي للشخصية بل ويعكس واقع العالم المحيط عليها. يرصد الفيلم صورة وحشية الواقع من خلال فنتازيا الجنون الساخرة بشخصية ناصر حيث ينقل الينا كمشاهدين سريالية العراق المحلقة في سماء الهشاشة النفسية، فيحمل المجنون الجندي الجريح مرة للتفاؤل بالاستشفاء/ الامل بحلم جديد يُتيحه السلام، وأخرى نتيجة الاحباط واليأس حين يلقيه بالنهر كمسار لرحلة العودة الى الاهل والديار من خلال الموت الذي ألفت ملامحه ارواح العراقيين حتى بات شريكهم الابدي.  

لا يملك (غير صالح) سيناريو تقليدي بل يصنع الصوت الداخلي للشخصية خطاب الواقع السينمائي ومن خلاله تنتظم انساق الاحداث، فبقدر ما هو خامل دراميًا فإن الصبغة العاطفية لتيار الذات تعمل على استخراج الكامن في النفوس، تُنميها شعوريًا موسيقى المؤلف الموسيقي المعروف غابرييل يارد الذي عرف كيفية التقاط الافكار والاحاسيس وأرواح المدينة وطبائع الاشخاص موسيقيًا. فينبري الانسان في الفيلم لبث هواجسه ومحاورة اشيائه وتحريك المكان ومراجعة الزمان. سلوكه هو انعكاس لصدمة البلد بعد عقود من الحروب العبثية والديكتاتورية الخانقة والحصار القاتل حتى باتت لحظات الغزو رصاصة اخيرة لإسكات ما تبقى من جسد وطن انهكته كثرة الندوب.

كادر الفيلم ضمن الحكاية يسعى لإيجاد نفسه بالدأب لصناعة الفيلم المستحيل، فينضح من جهدهم حوار ضمني مبطن عن ثمن الابداع وحوافزه وانعكاساته في مدينة تعج بالخراب، تبدو فيها الارواح معلقة على استار اللحظة يختطفها الموت بلا مبالاة. ان مصداقية العمل السينمائي جاءت من استدراجه للواقع الحقيقي الذي نشأت عليه صورة (غير صالح) ليكون اساس الرؤية الفنية وجوهر المعالجة السينمائية التي قاربت ظروف انجازه. يقول المخرج عدي رشيد عن ذلك في لقاء صحفي: “علينا العودة إلى الوراء لمعرفة كيف صُنع الفيلم مباشرة بعد احتلال بغداد. في التسعينيات كان لدي أنا ومجموعة من الأصدقاء حلم بصناعة فيلم على شريط 35 ملم. وكنت أعمل في معهد الفنون الجميلة رغم توقفي عن الدراسة. عرفت بوجود مادة خام وأشرطة في مخازن دائرة السينما والمسرح، لكنها غير صالحة للتصوير والاستعمال، أي أن ألوانها منتهية الصلاحية. استخدمت هذه المواد رغم ذلك في تصوير فيلم “نبض المدينة” قبل الاجتياح الأميركي. وعند القصف احترق ما صورته مع أصدقائي، واحترقت ايضًا مواد التصوير الخام ونُهِبَ بعضها الآخر. سرقوها لبيعها كـ “خردات فضة”. فلملمت ما احترق أنا وأصدقائي واشترينا ما سُرق منها وما نُهب”.

عمل التصوير السينمائي والطبيعة اللونية للشريط السينمائي ومنهجية الاخراج والأداءات الهادئة والمتماسكة لكادر التمثيل على رسم ملامح الشخصيات في افق وجودها القلق وصراعاتها الخاصة حيث الخوض في تضاريس التجارب العاطفية بتجلياتها المختلفة وفق الهموم اليومية للعيش وتعقيدات التواصل وانقطاعات الديمومة الشعورية خصوصًا مع تلويحة أشباح المعضلات السياسية والاجتماعية المقبلة. الفيلم بسماته التنبؤية للمستقبل العراقي القادم من خلال توزيع الضوء وظلاله في الكادر حيث يتسع حجمها او يقصر تبعًا لترددات اطوال الهواجس الانسانية اكتسب قوة حضور في الذاكرة ازدادت مع مرور السنين حيث تجلت القدرة البصرية على رصد الخطوط العريضة للعيوب المزمنة والتي مر بها البلد لاحقًا، مدركًا بشكل مُخيف مَرْأى الخسارات المقبلة.

انطلق فيلم غير صالح من جوهر الارتباط بين المدينة (بغداد) وناسها. حلق في فضاء علاقة وجدانية شخصية يفضي اليها وهج تفكير عميق تتشكل منه طبيعة السرد. فيسعى لوصف اجوائها زمن الحرب وما بعدها. يلتقط صدمات الرعب على الارواح وملامح الوجوه. يوثق صراع الحياة والموت. يتقصى في ثنايا الذاكرة المفجوعة حتى ليغدو الفن أمنية صعبة.  

“تيقنت وأنا أعبر هذه الأحداث أن كاميرا واحدة وعتيقة لن تحيط بكل شيء. لكن ماذا افعل لهذا الشعور بالذنب؟ ان يكون تحت سريري كاميرا بينما فقدان الامل يبحث في الشارع عمن يؤرخ. اعرف انني اقل من ان أُوْقِفَ هذه الاحداث. انني اصلًا لم احلم بذلك.”

Visited 7 times, 1 visit(s) today