فيلم “عيار ناري”.. طلقة في رأس الحقيقة
قول فردريك كوبلستون في كتابه تاريخ الفلسفة “لا وجود لحقيقة مطلقة، فمفهوم الحقيقة المطلقة هو اختراع من اختراعات الذين لا يقنعون بعالم الصيرورة، ويبحثون عن عالم ثابت لا يتغير”.
وبعد التأمل في مقولة فريدرك لابد أن نعي ضرورة فك الارتباط بين مصطلح الحقيقة والمطلق وربط الحقيقة بالمعرفة. فلا وجود لحقيقة مطلقة إلا في أذهان الدوجماتيين هؤلاء المسئولون بشكل أساسي عن تأخر المجتمعات، وفى كل مرة ينتصر فيها العلم على ُملاك الحقيقة المطلقة يتقدم المنجز البشري خطوة، ويتفكك بنيان المسلمات مع عجلة الزمن الدائرة. أي ببساطة إن الثابت في جوهره متحول والحقيقة التي تراها دامغة هي في جوهرها زيف وخديعة كبرى تظهرها الأيام.
حول هذه الإشكالية يحاول صناع فيلم “عيار ناري” حشر مضمونه في قالب فلسفي وجدلى حول ماهية الحقيقة في محاولة لزحزحة أفكار تأصلت في الوعي الجمعي أثناء ثورة الشعب المصري وهذا في مجملة توجه إيجابي قد يخلق سينما تطرح مقومات لتفكير جديد خارج الأطر النمطية (من حيث المضمون)، لكن الأهداف لا تتحقق بالنوايا الحسنة فقط، والفيلم الجيد لا يكتسب عمقه من أماني صناعه في خلق عمل يثير الجدل ويعيد اكتشاف الحقائق من وجه نظره، ولكن بقدر ما يفتحه من أفاق للتأويل والتأمل وإعادة القراءة.
تدور قصة الفيلم أثناء أحداث يناير 2011 حول ياسين المانسترلي (أحمد الفيشاوي) وهو طبيب شرعي شاب موهوب في مهنته لكنه في حالة سُكر دائم هرباً من فضحية والده الوزير السابق المتهم في قضايا فساد. وأثناء قيامه بتشريح جثة شاب “أحمد مالك” قُتل في أحداث لاظوغلي جراء مواجهات المتظاهرين مع قوات الأم، يكتشف الطبيب أن العيار الناري الذي قتل هذا الشاب قد أطلق من مسافة قريبة جداً مما ينفي أن يكون هذا الشاب قد قتل على يد قناصة الأمن، فيكتب تقرير بذلك إلا أن صحفية شابة “روبي” تنجح في الحصول على التقرير وتنشره في جريدتها فيتسبب ذلك في موجة غضب عامة ويجد ياسين نفسه متهماً من قبل المتظاهرين بتزوير تقارير الشهداء إرضاءًا للسلطات إلا أن مديرة مصلحة الطب الشرعي “صفاء الطوخي” تضطر أمام هذا الضغط الشعبي لإصدار تقرير أخر منافي للتقرير الأصلي الذي كتبه ياسين لتهدئة أهل الشهيد والمتظاهرين أمام باب المشرحة، هنا يقع ياسين في ورطة بين ضميره المهني وبين رضوخه للموجه العالية.
لكنه وبعد إيقافه عن عمل يحاول استكشاف الحقيقة من خلال تتبع أخو القتيل الذي يلعب دوره “محمد ممدوح” وأمه العجوز “عارفة عبد الرسول” لنكتشف في النهاية أن الشهيد المزعوم ما هو إلا شاب عاق وضيع اعتدى بالضرب على أمه لإجبارها على بيع البيت ليتمم زواجه من جارته التي حملت منه سفاحاً يعود الأخ الأكبر من عمله في المحاجر فجأة ليجد أخيه يضرب أمهما ضربا مبرحا، يدخل معه في عراك ينتهي بموت الأخ الأصغر ، تستغل هذه الأسرة أحداث الثورة لتقديم القتيل على أنه من الشهداء هربا من جريمة القتل أو طمعا في التعويض . أحداث الفيلم مشابهة لحادثة سمعنا عنها بالفعل، امرأة قتلت زوجها بمساعدة عشيقها ثم وضعا جثته ضمن ضحايا أحداث ماسبيرو لكن شقيق القتيل كشف الأمر وتوجه للنيابة العامة حينها التي أمرت بالقبض على الزوجة وعشيقها.
ربما اقتبس المؤلف هيثم دبور فكرة فلمه من هذه الحادثة. أما ما لم يقتبسه دبور هو ذلك السيناريو المليء بالثغرات والفجوات التي أضاعت الحبكة وهي الركن الأساسي الذي يعتمد عليه سيناريو تقليدي كهذا.
بل أن سيناريو هيثم دبور أجبرنا أن نتعامل معه بهذه الطريقة للتلقي فعلى مدار أحداث الفيلم يحاول الطبيب تتبع الأخ لدرجة أنه يراقبه على طريقة المخبرين ويظهر له من وراء الجدران، أما كان أولى به وهو رجل طب جنائي له حيثية أن يتوجه للنيابة العامة طالباً فتح التحقيق واستخراج الجثة ومتهماً مديرة المصلحة التي تكن له العداء بتزوير تقريره وتوقيعه خاصة أن مقذوف العيار الناري الذي قتل به الشاب خرج من سلاح ناري يختلف مقذوفه عن بنادق القنص الرسمية. هذه واحدة.
أما أم القتيل فنجدها تشاهد التليفزيون وتستمتع بصوت فريد الأطرش وتستعد لعرس ابنها الأخر وتعد الطعام. والمفروض أنها كأي أم طبيعية مكلومة على فلذة كبدها مهما كان آثما، ولكن السيناريو فبرك هذه الأفعال ليضلل المشاهد ويخلق حاله مفتعلة من الغموض. وكيف تسمح مديرة مصلحة الطب الشرعي لصحفية مبتدئة بدخول المشرحة وتصوير زجاجة الخمر الخاصة بأحد الأطباء مخبأة في ثلاجة الموتى حتى وإن كانت لا تحبه؟ ألا يضعها هذا هي نفسها تحت طائلة المسائلة بصفتها مديرة لهذا المكان وقد يكلفها هذا التسيب الأخلاقي منصبها لأنها المسئولة الأولى عن سير العمل وانضباطه فكيف تغامر بمستقبلها الوظيفي وتفعل هذا ؟ لكن السيناريو أراد ذلك ليكمل حبكته التي لم تتلاق خيوطها.
حدثت الجريمة بين الأخوين على مرأى ومسمع حي شعبي كامل والغريب أن الجميع لم يتكلموا نساء أو رجالاً وهذه معجزة تستحق الدراسة.
حصل شقيق الشهيد على شقه وحصلت الأم على عمرة فى أقل من أسبوع من استشهاد ابنهم معجزه أخري.
قدم السيناريو شخصيات نمطية مستهلكة كشخصية الصحفية الشابة المتحمسة ورئيس التحرير المتسلط الذي لا يؤمن بحماس الشاب، وعامل المشرحة المرتشي.
لم تكن الشخصيات مدروسة بشكل كافي للتوائم مع النسيج الدرامي وخاصة شخصية الأم وشخصية الطبيب والشخصيات في مجملها مبتورة من جذورها تطفو على سطح الحدث، أما كان السفر والتعمق أغوار تلك الشخصيات أنفع من السفر إلى أقاصي الصعيد لتصوير مشهد واحد في محاجر الجير لكن يبدو أن هذه المغامرة جديرة بحكايتها على أرائك البرامج الحوارية.
أهم ما يميز فيلم عيار ناري هو أداء محمد ممدوح الغارق حتى أذنيه في الموهبة وأداء أسماء أبو اليزيد المبشر أما عارفة عبد الرسول فرغم تشوش الشخصية وضعف الحوار المكتوب لها والإصرار على رسم تلك الحالة الغرائبية حولها فقد أعطت الفيلم بعضا ن الثقل وطعما خاصا كان سببه الوعي بأدوات الأداء وأصالة الموهبة. أحمد الفيشاوي الذي فاجئ الجميع بدور مغاير في فيلم “الشيخ جاكسون” يملك من الحضور والمقومات ما يجعله يتفوق على الكثير من أبناء جيله لو أمتلك التركيز والإخلاص لموهبته وما تمليه عليه من مسئولية.
“عيار ناري” التجربة الأولي للمخرج كريم الشناوي ورغم هذا نجح في تقديم صورة مقبولة وتكنيك مبشر قد ينتج عنه أعمال جيدة في المستقبل.
ما ينقص عمله الأول هو النضج والتلقائية والبساطة لأنهما جوهر النجاح أنه يريد أن يصنع كل شيء فتفوته أشياء أكثر فالإصرار على اللقطات القريبة وزوايا التصوير الصعبة والإضاءة المركبة واختيار أماكن التصوير، لم يكن الهدف منه خلق شريط ذي خصوصية، بقدر لفت الانتباه.
سخر كريم الشناوي كل ما طالته يده ليبهر عين المشاهد فأتت بعض المشاهد تحمل صوره مبالغة لطبيعتها شاذة عن التناغم البصري حتى خانته الحرفة بشكل ملحوظ فى تنفيذ مشهد الشجار بين الأخوين.. لكن ورغم كل هذا هو مخرج مبشر بكل خير.
ولا ننسى أن الموسيقى والديكور أهم من عناصر تميز الفيلم. يرى البعض أن فيلم عيار ناري يغسل أيادي الداخلية من دماء الشهداء ويحاول تشويه شهداء يناير وإزالة تلك الهالة النورانية التي أحاطتهم، ومحاولة رخيصة لتلويث دمائهم النقية وفريق أخر يري أن الفيلم يقدم وجه أخر للحقيقة دون محاباة لطرف أو جهة وأنه ناقش إشكالية الحقيقة وشرف المهنة في قالب تشويقي بعيد عن أي توجه أو معاداة لثورة يناير أو شهدائها، وهذه قضية يحسمها المتلقي حسب وعيه ورؤيته ومستوى تلقيه لهذا الفيلم.
في النهاية حاول الفيلم جاهدا أن يقدم وجها جديدا للحقائق لكن كل ما فعله أنه أزاح حقيقة ووضع مكانها حقيقة أخرى يراها مناسبة. ناسياً أن للحقائق وجوه متعددة يضعها الزمن على الأشياء وقتما أراد وعلينا فقط أن نؤمن بذلك.