فيلم “عايدة”.. عندما يعجز الفيلم أمام المرض

يفتتح فيلم “عايدة” بموسيقى بحيرة البجع للموسيقار الروسي تشايكوفسكي، وبصرخة عايدة بطلة الفيلم على طريقة مونش (لوحة الصرخة) وبملامح وجهها وشعرها الطويل. يستشفّ المشاهد بهذه البداية ما توحي به خفايا الفيلم أو أزمته أو دراماه النفسية أو الاجتماعية.. لكن يجب الابتعاد أولا عن ما يقال والتوجه إلى مشاهدة الأفلام (على طريقة رولان بارت) من الدرجة الصفر للمشاهدة، لا قراءة ما كتب عنها فقط.

وقد قيل وكتب ونقل عن صناع هذا الفيلم أنه قصة اجتماعية وبحث ضائع بين ازدواجية الهوية والدين. وأنه عن التسامح و.. لكن أحيانا يجنى على السينما والفن وحتى على الصحافة حين يحترف فيها البعض “العنعنة” (نقل فلان عن فلان عن..).

فيلم “عايدة” (العائدة) هو الثالث في مسيرة المخرج المغربي إدريس المريني للأفلام الروائية الطويلة. وتم اختياره مؤخرا لتمثيل المغرب في التصنيفات الأولية للأفلام التي ستقدم إلى أكاديمية الفنون لجائزة الأوسكار سنة 2016.

يحكي الفيلم الممتد في ساعتين إلا ربع، قصة أستاذة التراث الموسيقى “عايدة (إيدا) كوهن” (أدت دورها نفيسة بنشهيدة)، ذات الأصول اليهودية المغربية. التي تقرر التخلي عن التدريس في فرنسا لتعود إلى المغرب بعد استحالة علاجها من مرض السرطان. وتستعيد عند رجوعها ذكرياتها وأمكنتها وطفولتها، فتلتقي حبيبها الأول يوسف (أدى الدور عبد اللطيف شوقي)، بعد أكثر من 30 سنة من الرحيل. ومتسلحة بالموسيقى علما وممارسة، كما صورها الفيلم.

شكل حضور ثلة من الممثلين المغاربة البارزين رغم أدوارهم البسيطة إلى جانب نفيسة بنشهيدة وعبد اللطيف شوقي، دعما للشكل الفني والدعائي للفيلم؛ كهدى الريحاني، وإدريس الروخ، ولطيفة أحرار، ومحمد الشوبي.. وأمينة رشيد، وهو ما يظهر جليا في الإهمال والنقص الذي يلاحظ على مستوى إدارة الممثلين الآخرين في الفيلم؛ فأي فيلم بمقومات الإخراج والنص والسيناريو.. وأشياء أخرى قوية، يمكن الاكتفاء فيه بممثلين رئيسيين أو بممثل واحد فقط (كأفلام عباس كياروستامي والإخوة داردين..وغيرها).

وقد يطول الحديث إذا تكلمنا عن الفيلم من الناحية الإخراجية والفنية: عن الميزانسين والكاستينغ واللقطات وبعض المشاهد. إذ سيشدنا الحديث عن ما تغفله السينما المغربية عموما، ويظن مخرجوها أن لجان التحكيم أو المشاهد العالمي (نسبة إلى السينما العالمية) لا تهمه تفاصيلها. وكما أظهر الفيلم جهدا لتحسين بعض المقومات الجمالية على مستوى اختيار اللقطات والصوت، والموسيقى المتنوعة والمحورية في حياة الشخصيتين البارزتين. لكن مع ذلك نجد الفيلم اختارسردا ومعالجة لم تعادل على الأقل نقائصه بمحسنات جمالية أخرى.

نرى في الفيلم إهمالا للجانب التقني والفني بأدق تفاصيله في بعض المشاهد واللقطات: كحاسوب عايدة الذي تفتحه وتكتب فيه مباشرة.. أو حاسوب يوسف الذي لا يعمل أثناء تواجده في عمله. إضافة إلى حديث عايدة في الهاتف في لحظة سكون في منزلها دون أن نسمع أي أثر لصوت مخاطبها.. وكذلك ارتداء غيثة زوجة يوسف (هدى الريحاني في الفيلم) سروال “الجينز” في منزلها في الليل وهي تنتظر زوجها.. وأيضا إعدادها الشاي بسرعة خاطفة عند ضيافة عايدة عندهم.. وزجاج السيارة المفتوح عن آخره أثناء هطول الأمطار.. كما أن الميزانسين الخاص بعمل زوجة يوسف أو مقرها.. وتواجدها الدائم مع زميلتها في العمل (أدت الدور لطيفة أحرار).. لا يوضح جيدا اشتغالها في مجال الصحافة الورقية الذي أشارإليه الفيلم من خلال تقريبه، بمشاهد تصاميم أغلفة المجلة أو بجائزة الصحافة… وإلى غير ذلك في ما يؤثر على قيمة الفيلم الإخراجية والجمالية.

كما يضاف إلى ذلك إهمال الجهد التجسيدي والتعبيري للحالات في الفيلم. فتم تصوير الطب وعلم النفس بطريقة سطحية من ناحية الأسئلة ومن ناحية الحديث عن المرض، فتقابل الطبيب النفسي ليوسف (يوسف الذي لا تظهر عليه أية علامة لأزمة نفسية !) بأسئلة رتيبة ومبتذلة، مع طبيب عايدة البيولوجي الذي يتحدث عن علاقة تاريخ الإنسان النفسي بمرضه (والذي لم يظهره الفيلم كأية أزمة نفسية وتوثر عصبي على عايدة !). وهو ما يطرح سؤال: هل أزمة الفيلم نفسية أو فسيولوجية/ بيولوجية؟

لم يصور المخرج مشاهد عايدة مع أختها (مجيدة بنكيران) في فرنسا، بعد سماع الأمل في شفائها، كممثلتين داخل فيلم، بل كسائحتين خطف مخرج ما بآلة تصويره لقطات من بعيد للحظاتهما. ورغم أن القصد من وراء ذلك إيعاز دلالة الفرح عليهما، إلا أنها لم تخدم بناء الفيلم؛ فعمق التحول لم يكن بالقدر الذي يوازي اللحظات التي كانت تعيشها قبل سماع خبر علاجها وتمحورت حولها قصة الفيلم. كما لم تناقش عايدة أختها في أحد حواراتها لا عن الموت ولا عن الحياة.

لكن المثير في الفيلم أنه مغلف بغلاف ديني، ويشاع أنه عن التسامح بين الأديان وما إلى ذلك. لكن ما دور اليهودية في الفيلم ؟ ما الإضافة التي قدمتها اليهودية كدين وكطقوس في سياق الفيلم؟ وما مدى توظيفها في حوارات الفيلم (وفي شكل السيناريو والمادة الكتابية عموما)؟ ولنفرض أن شخصية عايدة مسيحية واستبدلنا لمحة الطقوسية في الفيلم بطقوس مسيحية أو بأي دين أو بدونها ! كيف يخدم هذا التغليف والحضور الديني عقدة الفيلم أو توازي الأحداث فيه ؟ ما الداعي إلى اختيار اليهودية بالتحديد في الفيلم ؟

حاول المخرج أن يفاجئ المشاهد وأن يجتهد في إبهاره على طريقة “الصدمة” في أوج عقدة الفيلم، على اعتبار أن يتجه مسار الفيلم إلى اتجاه آخر.. ولشدة مشهد المرض و”صدمة” صلع عايدة ونزيف أنفها، لم تشكل أبعاد ذلك المشهد ومدى تجاوب الممثل الرئيسي يوسف أو زوجته غيثة في ما بعد، إلا محاولة للخروج من أزمة السرد الفيلمي. فالأمرالمتوقع أن يستجيب المشاهد لحظتها لرؤية عايدة، على شفا خطوات من الموت، تعيش أيامها الأخيرة قرب منشأها. لكن المخرج حاول في آخر الفيلم أن يعتمد سمة اللامتوقع ليبني عليها مساره الفيلمي إلى نهايته التراجيدية، فتداخلت شخصية الفيلم بين وتر الحياة (الاستمرارية في الحب، ونجاح حبيبها باستعادة عشقه للموسيقى)، وبين وتر الموت التراجيدي (المألوف في المسرح) للبطل خارج خشبة المسرح (الأحداث). وبالتالي قد ينتصر المرض في كل حالاته (كما هو متوقع في حالاته الواقعية) في الفيلم، لكن يبقى كل ذلك محاولة للعيش والتعايش، ومحاولة لتجسيد الفيلم الذي لا مَخرج (ولا مُخرج) يسلكه ساكن جسده.

Visited 42 times, 1 visit(s) today