فيلم صادم في افتتاح مهرجان لندن السينمائي الـ67
أمير العمري
يجب أن أعترف في البداية، بأنني فوجئت بموضوع الفيلم البريطاني الجديد “سالتبيرن” Saltburn الذي افتتح أمس الدورة الـ 67 من مهرجان لندن السينمائي الدولي، فهو يدور مرة أخرى، في نفس الأجواء التي سبق أن شاهدناها في كثير من الأفلام البريطانية من السبعينيات تحديدا، بل ويكاد الموضوع يكون هو نفسه: الصراع الطبقي المكتوم، السخرية من الطبقة الأرستقراطية والانتقام منها ولو بطريقة وحشية (على الشاشة) والسخرية والتعريض بها من خلال الهجاء الساخر وتصوير نماذجها في صورة كاريكاتورية مبالغ فيها كثيرا كثيرا حدا. ولكن هناك الذين يمكن أن يروا في ذلك كله مدعاة للضحك والاستمتاع، فالجمهور طبقات أيضا. ومن الضحك في الساعة الأولى سينتقل الفيلم إلى الجانب المظلم الذي لا يدفع أحدا للضحك.
تقول مديرة مهرجان لندن السينمائي الجديدة “كريستي ماثيسون”، إن الفيلم راق لها وقررت أن يكون الاختيار الأفضل كفيلم افتتاح، بعد أن شاهدته مع بعض مساعديها. وماثيسون معروفة كمديرة في الوقت نفسه، لمهرجان مخصص لأفلام الشواذ (أو المثليين) في لندن، وقد تكون منتمية أيضا إلى تلك الفئة من البشر الذين ليس لدي أي شيء ضدهم، فهم يمثلون أقلية من حقها أن توجد وأن تعبر عن نفسها من خلال الأشكال الثقافية والفنية المختلفة، لكني لا أرى أن من حقها أن تفرض باستمرار، ذوقها وتوجهها الفني والثقافي الخاص على جمهور الأغلبية، وفيلم الافتتاح يجب أن يتوجه إلى جمهور الأغلبية من المهتمين بالسينما، أما هذا الفيلم الذي أخرجته الممثلة والمخرجة البريطانية إيمرالد فينيل (وهو فيلمها الثاني كمخرجة بعد “امرأة شابة واعدة”- 2020) فهو أحد تلك الأفلام التي أطلق عليها “أفلاما منحرفة” perverse ولكن ليس بالمفهوم الأخلاقي بمعنى أنها تدعو للانحراف، بل لأنها تستند إلى سياق وتفاصيل فنية ولغة سينمائية، يرمي إلى تحقيق الصدمة من دون أي سبب حقيقي كامن في صلب العمل الفني نفسها، مع المغالاة الشديدة في تصوير المشاعر، واللجوء إلى مختلف أشكال الخروج عن المألوف من أجل تحقيق الدهشة والصدمة. ولو كانت هناك فلسفة عميقة تكمن وراء لك لما كانت هناك مشكلة، أما أن يكون الهدف هو مجرد الاستعراض ودعوة المتفرج للاحتفال بالأسلوب من أجل الأسلوب، فهو ما لا أستطيع هضمه أو استيعابه.
كتبت إيمرالد فينيل سيناريو فيلمها، متأثرة إلى حد ما، بأفلام قديمة مثل فيلم “الخادم” (لجوزيف لوزي)، و”حظيرة الخنازير” (لبازوليني)، مع محاكاة أجواء أفلام مثل “الوسيط” (جوزيف لوزي أيضا)، مع الفارق الهائل بالطبع بين فيلمها وهذه الأفلام العظيمة التي أصبحت من الكلاسيكيات.
ورغم أن أحداث الفيلم تدور في 2006، إلا أنه يبدو كما لو كان ينتمي إلى الماضي، فنصفه على الأقل، يدور داخل قصر يشبه القلاع الإنجليزية القديمة بحيث يصعب كثيرا على متفرج اليوم تصديق أن هناك أسرة مكونة من 4 أفراد فقط تعيش في هذا القصر الذي لا يقل عن قصور الملوك بل ويقال لنا في الفيلم أيضا أنه كان أحد قصور الملك هنري الثامن.
القصة رغم محاولات التنويع والتبديل، مألوفة، وهي العلاقة بين الفقير والغني. وكيف يمكن أن يقع الفقير في حب الغني، لكن هذه العلاقة من وجهها الآخر، هي أيضا علاقة كراهية وغيرة حسد ورغبة في التدمير والانتقام رغم الولع الشبقي المرضي الذي يسيطر على ذهن هذا الفقير.
الفقير هو “أوليفر” (ينادونه بـ”أوللي” في الفيلم، ويقوم بالدور باري كيوجان) وهو طالب جديد في جامعة أكسفورد العريقة التي لا يدخلها سوى أبناء الأثرياء، لكنه التحق بها بعد حصوله على منحة، فهو ينتمي لأسرة فقيرة، وزملاؤه لا يدخرون وسعا من البداية، من السخرية من ملابسه التي تقول إحداهن أنه يشتريها عليها من مؤسسة أوكسفام الخيرية لبيع الملابس المستعملة، ولكن أوليفر هو الذي يروي لنا القصة، ولكنه يتلاعب خلال السرد ويكذب كثيرا كما ستكتشف.
أما الغني فهو “فيليكس” (جيكوب إلرودي) زميل أوليفر في الجامعة، ابن العائلة الأرستقراطية التي تمتلك ضيعة في الريف الإنجليزي هي التي وصفتها فيما تقدم، وفيها القصر الملكي القديم، بغرفه المتعددة، ومكتبته العامرة، وقاعاته وحدائقه.
يقع أوليفر في غرام فيليكس من أول نظرة. منذ أن تتعطل سيارة فيليكيس فيقرضه هو دراجته لكي يصل بها الى الجامعة لأداء امتحان مهم. وهو ما يجعل فيليكس يحمل لأوليفر هذا الجميل لكنه يأنس له أيضا لكونه طيعا، مختلفا عن زملائه الآخرين الساخرين الهازئين الفوضويين. وفي حوارات الفيلم بالمناسبة، أكبر كم يمكنك أن تسمعه من الشتائم القذرة بين أوساط الأرستقراطيين وأبناء الأثرياء، وهو مقصد تماما للقول إنهم أكثر انحطاطا عن أبناء الشعب!
فيليكس يتمتع بجاذبية خاصة من جانب الفتيات، ويقيم علاقات متعددة مع بعضهن، وهو ما يثير غيرة أوليفر الذي يتلصص عليه، ثم يبتكر ادعاء الشقاء وأداء دور الولد المحروم اجتماعيا طالما أن هذا يجعله ينال تعاطف فيليكس، لكن فيليكس ليست لديه ميول مثلية. وهو يدعو أوليفر لقضاء العطلة معه في ضيعته ويقدمه الى أفراد عائلته: أمه “إيسبث” (روزاموند بايك)، ووالده “السير جيمس” (ريتشارد جرانت)، وشقيقته “فينيشيا” (أليسون أوليفر)، وهناك أيضا قريب الأسرة الذي يقولون انه ابن عم فيليكس وهو الأمريكي “فيرليه”، كما أن هناك أيضا “باميلا” (كاري موليجان) التي يصفونها بأنها الضيفة المقيمة باستمرار لديهم.
تبدو جميع شخصيات العائلة الثرية كاريكاتورية، استعلائية وكلبية في نظرتها للامور، منفصلة تماما عن الواقع، تتشبث بتقاليد القرون الوسطى، تتخذ الأم من أوليفر في البداية مادة للسخرية، وتبدي احتقارا لأصوله الفقيرة، لكنها سرعان ما تتودد إليه بشكل منافق تماما، وتتخذه ألعوبة.
أوليفر تدهشه فخامة القصر، ويتقرب من “فينيشيا” شقيقة فيليكس الحائرة المشوشة المضطربة جنسيا، ولكنها تدرك أنه شخص غريب الأطوار، غامض، يتسلل في صمت ويحوم باستمرار، كما يثير وجود أوليفر غيرة وعداء “فيرليه” الذي يريد أن ينال حب فيليكس أيضا. والواضح أن فيرليه مثلي أيضا أو لديه هذه الميول مثل أوليفر. أما فييكس نفسه فسيأتي وقت يسأم من الاثنين، ويطرد الأول ويحاول طرد أوليفر لكنه يفشل بعد أن يقنعه بأهمية وجوده لرعاية أمه بعد وفاة زوجها!
من المشاهد التي تلعب دورا في تغيير دفة الفيلم من الهزل إلى الجد، عندما يصطحب فيليكس أوليفر في سيارته ويتوجه الى حيث تقيم أسرة أوليفر رغم مقاومة الأخير واحتجاجه. ففيليكس يرى أن من الضروري أن يعزي أوليفر أمه في وفتة أبيه.. ولكن أوليفر سبق أن ادعى أن والده كان يتاجر في المخدرات وزعم أنه توفي، لكي يكسب تعاطف أوليفر، وقال إن والديه من مدمني الخمر، وأنه لا يود أبدا العودة إلى منزله ويرفض حتى الاتصال بوالدته أو زيارتها لتعزيتها بعد تلقي نبأ وفاة والده، ولكن فيليكس سيكتشف الحقيقة، وان كل ما قاله له أوليفر مجرد أكاذيب. ففي اللقاء مع والدي أوليفر سيعرف أن أوليفر ليس الابن الوحيد بل له شقيقات، وأن والديه شخصيان طبيعيان تاما، كما أنهما ليسا من الفقراء المدقعين، ومن هنا سيبدأ المتفرج في التشكك في شخصية أوليفر وفي كل ما رواه لنا. ويبدأ التحول في الحبكة، مع بعض الالتواءات.
لا أريد أن أكشف باقي الأحداث وتطورات الحبكة والالتواء الذي يحدث في النهاية ويقلب الأمور.. وإن كان يمكن للقارئ أن يستنتج ما سيحدث: التدمير التام لجميع أفراد الأسرة على يدي أوليفر الذي يكشف عن نزعة مرضية للسيطرة والاستيلاء، على غرار ما أنزله بطل بازوليني في “حظيرة الخنازير” وبطل “الخادم” بأسرة السيد.
في الفيلم مناظر من أكثر المناظر صدمة، ومن دون أي ضرورة فنية أو دامية تحتم النزوع إلى مثل هذا النوع من المشاهد المقززة:
فيليكس يمارس العادة السرية في البانيو، أوليفر يتلصص عليه. بعد أن ينتهي فيليكس ويغادر الحمام، يدخل أوليفر ويزحف داخل البانيو ويلعق بقايا الماء الذي ينساب كمل يلعق غطاء البالوعة التي تحمل آثار السائل المنوي لفيليكس.
أوليفر يداعب فينيشيا، يضع يده داخلها. تحذره من أن هذا ليس أفضل وقت في الشهر أي أنها تعاني من الدورة الشهرية. لكنه لا يبالي بل يخرج أصابعه مبللة بالدم ويلعقها ثم يضع يده في فم الفتاة لتعلقها أيضا.
أوليفر يريد أن يردع الأمريكي الأسود (فيرليه) الذي لا يمكننا أن نفهم كيف يكون ابن عم فيليكس (إلا لو كان استخدام ممثل أسود يأتي اتساقا مع الموجة السائدة في المسرح الإنجليزي والسينما أيضا (أي استخدام ممثلين من السود للقيام بأدوار شكسبيرية مثل هاملت وأوفيليا وغير ذلك!!). كما لا نفهم علاقته بالعائلة ولا لماذا يعاملونه كلعبة من الألعاب التي يتسلون بها، لكن المهم أن أوليفر يعتدي جنسيا على “فيرليه” ويظل يكرر له بينما هو يرقد فوقه، يمارس الجنس معه بقوة في صورة اغتصاب: عدني أنك ستسلك سلوكا مهذبا!
بعد موت فيليكس ودفنه يذهب أوليفر إلى قبره، وأمام كومة التراب التي تغطي القبر (لا أفهم لماذا توجد كومة تراب أصلا في مقابر شخص ينتمي لعائلة من الطبقة الثرية!!) ويخلع ملابسه ويرقد فوق كومة التراب التي تمثل جثة فيليكس، يضاجعها وهو يتأوه ويبكي، وهو مشهد يستمر لزمن طويل.
وهذه الإطالة أحد عيوب الفيلم الذي لا تعرفه مخرجته لغة الاقتصاد في الزمن، وتعتقد أن ما ينقذ الفيلم من الترهل والوقوع في الصور النمطية هو الاهتمام بشريط الصوت الموسيقي الذي لا شك في جماله ودفعه للإيقاع، وتصميم الديكورات والتصوير المقن بالألوان التي تحاكي الفترة مع الاهتمام بجميع الاكسسوارات أو تصفيفات الشعر والملابس من الفترة، ولكن هذه كلها عناصر مستقرة معروف اهتمام وتميز السينما البريطانية بها كثيرا.
ومن معالم الفيلم الإيجابية أيضا، الأداء التمثيلي المقنع من جانب مجموعة المثلين وأبرزهم بالطبع، الجميلة الواثقة “روزاموند بايك” في دور الأم، رغم المغالاة الشديدة في الحوار الذي وضع على لسانها كما يحدث عندما تعلق على موت صديقتها باميلا” بالقول: “إنها يمكن أن تفعل أي شيء للفت الأنظار”!
من دون شك، جميع عناصر الفيلم الفنية، مع كل المبالغات والصور النمطية، مكرسة لإثارة الدهشة، وتحقيق الصدمة، بزعم النظر إلى الأرستقراطية الإنجليزية، من زاوية جديدة وهو ما قد يجد له صدى لدى شباب الجيل الجديد من هواة السينما، لكن عند كاتب هذه السطور، لا جديد فيها!