فيلم “شدّ أجزاء”.. نصف ضابط ونصف بلطجى!

لم أكن مشغولا على الإطلاق بعدد القتلى فى فيلم “شدّ أجزاء” الذى عًرض فى موسم عيد الفطر المصرى من بطولة محمد رمضان وتأليف محمد سليمان عبد الملك وإخراج حسين المنباوى، فالأفلام التى تتعامل مع “تيمة” الإنتقام الفردى عامرة دوما بالجثث سواء كانت مصرية أو هندية أو أمريكية، وفيلمنا معنى اسمه فى أدبيات الرماية :”إعداد السلاح لإطلاق الرصاص فورا”، والأفيش الذى يتصدره محمد رمضان يقدمه حاملا أسلحة فتاكة.

كنت مشغولا فحسب برصد حيرة صناع الفيلم فى تحويل رمضان (الذى أصبح أحد نجوم الشباك فى السينما المصرية) من نموذج الخارج على القانون ( قدّم رمضان ثلاثة أفلام متتالية أطلقت موجة أفلام البلطجية هى “الألمانى” و”عبده موتة” و”قلب الأسد”) الى  شخصية رجل البوليس الذى ينفذ القانون، حيث لم ينس مصمم الأفيش أن يضع كلمة “police” على ملابس البطل الشاب، وشخصية عمر العطار التى لعبها رمضان هى بالفعل لرجل بوليس مصرى، يعمل فى قسم شرطة الوراق، إحدى المناطق الشعبية المعروفة.

ولكن فيلم “شدّ أجزاء” ظل مترددا فى مشاهده الأولى بين أن يجعل بطله منفذا للقانون، وبين أن يصبح خارجا عليه، ثم انحاز نهائيا الى الثانية، فأصبحنا من جديد أمام بلطجى كان ضابطا، هذا اختيار فنى لا يمكن أن نناقشه، ولكنه يكشف عن فشل فى تغيير صورة رمضان، الذى حقق فيلمه الجديد رقما قياسيا فى أول يوم عرض، حيث اقترب من أربعة ملا يين جنيه مصرى، وهو الأكبر فى تاريخ افتتاح أى فيلم مصرى روائى طويل، منذ أن عرفت السينما المصرية هذه النوعية من الأفلام.

المشكلة أن هذه الثنائية بأن يكون العطار نصف ضابط (يفترض أن يطبق القانون العام) ونصف بلطجى (يطبق عدالته الخاصة وقانونه الفردى ويصبح المحقق والقاضى والجلاد معا)، قد أحدثت تناقضا دراميا واضحا انعكس على مشاهد النهاية، كما أن الصراع بين ضابط منتقم وآخر منضبط كان هزيلا وضعيفا، بل وظهر كما لو أن الضابط الملتزم مقتنع بمنطق عمر العطار، الضابط الذى قرر حرفيا أن “يخصخص العدالة لصالحه”، وأن ينتقم بنفسه لنفسه ولأسرته ولطفلته الرضيعة.

تغيير شكلى

أردت أن أقول لك إن إضافة مهنة الضابط الى الشخصية التى اشتهر رمضان بتقديمها  سابقا كانت مجرد تغيير شكلى، لأن الفارق بين البلطجى والضابط هو الإلتزام بالقانون العام، أو اختراع قانون خاص، هذا الفارق سرعان ما سينمحى عندما يلجأ الفيلم الى “تيمة” الإنتقام الفردى، ومن خلال حكاية شاهدناها تقريبا بكل اللغات: ذلك الضابط الذى يقتلون زوجته، فينتقم لها بعيدا عن مهنته، وينفذ القصاص بنفسه، تاركا خلفه عددا معتبرا من الجثث، ومتفننا فى القتل، على كل شكل أو لون.

محمد رمضان بملامحه المصرية الصميمة، وبموهبته الكبيرة التى لفتت أنظارنا كممثل، حتى وهو يقدم مشاهد قليلة فى الأفلام أو المسلسلات، نجح فى أن يعيد فكرة “البطل الشعبى”، وأن يكون على خطوات فريد شوقى، الذى كان يحقق هذه البطولة الفردية الجماهيرية، سواء كان ضابطا أم خارجا عن القانون.

نسرين أمين بطلة الفيلم

ولكن عمر العطار الذى نراه فى بداية الفيلم وهو يشترك فى حملة لضبط بلطجى يدعى محمود العراقى ( المتمكن محمد ممدوح فى دور آخر لافت)، يبدو هذا الضابط مؤمنا بأنه ينفذ القانون، ويحمى المجتمع، يحب مهنته، ويمارسها، حتى وهو يستعد ليلا للإحتفال مع زوجته (دنيا سمير غانم فى دور قصير) بعيد زواجهما، كما أن علاقته بنادر رئيسه فى العمل (ياسر جلال) منضبطة تماما، بل إن عمر يعتبر نادر أستاذه، ويقوم عمر بإنقاذ نادر من الموت أثناء محاولة القبض على العراقى، بل إن بطلنا يقتل شقيق العراقى أمام عينيه.

من المفهوم بالطبع أن يتحول عمر تماما بعد أن شاهد مقتل زوجته بالرصاص أمام عينيه، ومن الممكن أن يتجه كما شاهدنا الى تنفيذ قانونه الخاص بمتابعة الشخصيات التى ارتبطت بمأساته، ولكن السيناريو لم يجعل من الضابط نادر ندا يثرى الصراع فى مواجهة تلميذه عمر، الذى أصبح  مطلوبا للعدالة، بعد أن قتل أحد المشاركين فى الحادث، بدا كما لو أن نادر يتفهم دوافع عمر. ما رأيناه ليس منطقا ضد منطق آخر، وإنما ضابط يؤدى واجبا والسلام، وآخر ينتقم لنفسه بنفسه، بل إن عمر يقول لنادر :” العراقى قتل زوجتى لأننى قتلت شقيقه، وأنا قتلت شقيقه لأنه حاول أن يقتلك”، هنا يصمت عمر، وكأنه يسّلم بأن القانون لا يمكن أن ينتقم للضحايا، وهنا أيضا يترك نادر تلميذه يواصل مهمته الفردية، بدلا من أن يلقى القبض عليه.

 التحليق منفردا

يعنى ذلك دراميا أن عمر كان يحلّق منفردا، رغم ظهور نادر بين لحظة وأخرى ليؤكد لنا أنه يطارد عمر والعصابة التى قتلت زوجته معا، ظل الصراع الحقيقى بين عمر والأفراد الذين قتلوا زوجته، وهو صراع لا يختلف عن أى صراع آخر بين قوتين تريد كل منهما أن تفرض قانونها وتنفذه، ولو دخل نادر على خط الصراع دخولا حقيقيا لا شكليا، لحقق ذلك ثراء كبيرا للدراما.

الحقيقة أن الفيلم منحاز من الأساس لفكرة عجز القانون عن الردع، وهى فكرة تجعل من مهنة عمر ونادر نكتة لا لزوم لها من الأساس، بل وتجعل من تسليم عمر لنفسه بعد أن حقق عدالته الخاصة أمرا لا يمكن تصديقه، إذ كيف يطبق قانونه الخاص على أعدائه ثم يقبل بتطبيق القانون العام على نفسه؟!

هنا تناقض واضح وفادح يثبت أن الفيلم لم يضع ضابطا فى مواجهة البلطجية، وإنما قدم بلطجيا متنكر فى هيئة ضابط سابق، لم يقفز الفيلم ببطله من خانة الى أخرى، وكأنه يرى أن هذه الخطوة واسعة، وغامرة غي محسوبة، قياسا الى صورة محمد رمضان فى أفلامه السابقة، فاكتفى بسلوك البلطجى وألبسه لياقة الضابط وقوته البدنية ، ومساندة زملائه النفسية، وربما المعلوماتية أيضا.

فى فيلم من أشهر الأفلام المصرية التى استخدمت “تيمة” الإنتقام مثل “أمير الإنتقام”، كنا أمام منطقين واضحين: لص ينتقم من شركائه، ورجال بوليس يريدون تطبيق القانون على الطرفين، أما فى “شد أجزاء” فإن منطق البوليس هزيل حقا مرتين: مرة بتفهم نادر وضعف مطاردته لعمر، ومرة ثانية بتسليم عمر لنفسه ، مؤكدا ثقته فى أنه ما كان يمكن أن يأخذ حقه، إلا عندما خلع بدلة الضابط.

هذه إذن دراما البلطجة فى جوهرها الكامل، وكأن كلمة “police” ليست إلا كلمة مكتوبة على الملابس، المشكلة هنا فنية بامتياز، لأنك ببساطة لم تكن فى حاجة الى هذا الإكسسوار الشكلى،  الذى ينتهى بنا من جديد الى تنويعة على عبده موتة أو الألمانى.

حتى نكون منصفين، فإن محمد سليمان عبد الملك بذل جهدا واضحا فى ضبط الحبكة  وتفاصيل الأحداث من نقطة الى أخرى للوصول بشكل متدرج الى القتلة الحقيقيين للزوجة، كما قدم المخرج حسين المنباوى مشاهد حركة جيدة الصنع، وكان محمد رمضان مميزا ومقنعا سواء كضابط أو كمنتقم، كما قدم ياسر جلال الموهوب أحد أفضل أدواره، وتميز أيضا محمد ممدوح ومحمد أبو الوفا ( الذى لعب دور العقل المدبر للجريمة) ، وظهرت نسرين أمين فى دور شيماء الفتاة البسيطة التى تساعد عمر، وكانت مقنعة أيضا، ونجحت الصورة التى رسمها بالنور إسلام عبد السميع فى التعبير عن عالم رمادى يخلو من الألوان الدافئة، وكشفت الظلال ومساحات اللون الأسود على وجه عمر عن حالته النفسية فى لحظات القتل والإنتقام، كما كانت موسيقى عمرو إسماعيل من ابرز عناصر الفيلم تأثيرا وتعبيرا عن معنى الصراع والخطر والتوتر والحزن.

كل ذلك يستحق الإشادة والإعتبار، ولكنه لايمنع من العودة الى مشكلة الفيلم الفنية، إنها أزمة التردد بين عالمين، ومحاولة تكرار “تيمة” البلطجة تحت ستار هش، لم يكن ذلك فى صالح الفيلم على كل المستويات، بل لقد كان أفضل كثيرا لو جاءت “التيمة” فى غياب البوليس أصلا ، لأن وجوده بمنطق ضعيف، أوبتسليم بمنطق الإنتقام الفردى، لا يعنى سوى إلغاء وجوده دراميا وعمليا.

فى كل الأحوال، نحن أمام ممثل باذخ الحضور والموهبة اسمه محمد رمضان، يستطيع أن يقنعك بأى دور، ويتمتع بشعبية جماهيرية هائلة، المسؤولية تقع على عاتق كتاب السيناريو والمنتجين، لا نطلب منهم أن يجعلوا منه خيرّا أو ملاكا، نريد فقط أدوارا تتسق نهايتها مع مقدماتها، ولا تعانى من خلل أو اضطراب فنى، فليكن بلطجيا أو ضابطا أو حتى مطربا، المهم أن تنضبط الدراما فى نهاية المطاف، هذا مشخصاتى فريد يستحق أفلاما وأدوارا أكبر وأكثر تماسكا.

Visited 159 times, 1 visit(s) today