فيلم “سعاد”.. والهروب إلى الواقع الافتراضي
محمد كمال
أزمات عديدة متتالية صاحبت الفيلم المصري “سعاد” للمخرجة أيتن أمين والتي شاركت في كتابة السيناريو مع المؤلف محمود عزت، بداية من الخلافات التي نشبت بين صناعه ثم عدم العرض التجاري في مصر والتي تابعها سحبه من منافسات جائزة أفضل فيلم أجنبي في الاوسكار والذي اختارته اللجنة المسئولة عن اختيار الفيلم المصري وهو لم يكن قد عرض تجاريا وقتها، وسط تأكيدات على طرحه تجاريا خلال الفترة المحددة.
وتلك النقطة الاخيرة تحديدا تعتبر أزمة منفصلة تدخل ضمن معاناة صناعة السينما في مصر بشكل عام، وسط الفوضى التي تعم المشهد، وتداخل الاختصاصات، والارتباك، وسيطرة أشخاص بعينهم، فقد وصل الأمر إلى أزمات تصاحب مسألة بسيطة ترتبط بالفيلم المرشح باسم مصر في مسابقة الأوسكار.
على مستوى الفيلم نفسه لا يوجد انفصال كبير بين أزماته الواقعية وبين نظيرتها الفنية رغم جودة الفكرة والإطار العام للعمل. إلا أن المنتج النهائي للفيلم لم يكن في حدود المتوقع والمرجو من المخرجة أيتن أمين بعد تجربتها القصيرة في “راجلها” عام 2006، ثم أول فيلم روائي طويل الذي حمل اسم “فيلا 69” عام 2013 ذلك الفيلم البديع الذي يعد من أهم التجارب التي طرحت في تلك الفترة ومن هنا كانت الآمال والطموحات تجاه “سعاد” لكن يبدو أن الفاصل الزمني بينهما الذي وصل إلى 7 أعوام افقد المخرجة جزءا كبيرا من رونق ما تقدمه على شاشة السينما.
يتكون فيلم “سعاد” من ثلاثة أجزاء، كل منها يحمل اسم أحد الأبطال، وهم سعاد ورباب وأحمد، بينهم صفات مشتركة عديدة يأتي في مقدمتها أنهم أقرب إلى الشخصيات الواقعية التي نراها في الحياة العادية، يحملون داخلهم جميع المتناقضات التي نجدها في الشخصية المصرية في العصر الحالي، فقد امتاز سيناريو الفيلم بجودة رسم والتأسيس للشخصيات الرئيسية الثلاث بشكل منفصل لكن من ناحية أخرى فشل في ربط الشخصيات وخلق أحداث تسير في خطوط وأبعاد درامية محددة، وهذا ما ظهر بوضوح مع البطلة الأساسية والأولى “سعاد” التي يحمل الفيلم اسمها.
سعاد تلك الطالبة التي تدرس في كلية الطب والتي تظهر ملامح شخصيتها في المشاهد الأولى هي فتاة لها عالم موازٍ، جزء منه افتراضي يدور على مواقع التواصل الاجتماعي، والآخر تبتكره هي أمام من لا تعرفه مثل السيدات اللاتي تجلس بجوارهن في المواصلات حيث تسرد لهن تفاصيل عن حياتها وشخصيتها نكتشف بعد ذلك انها غير حقيقية، أما سعاد مع صديقاتها المقربات فهي على النقيض تماما فنجدها مستسلمة لهن وخاضعة لتصرفاتهن رغم التباين الشديد بين الصديقات فالأولى “أميرة” محافظة متدينة، والثانية “وسام” جريئة متحررة.
تعاني سعاد من القيود الاجتماعية لكن أزمتها الحقيقية تكمن في أنها تبحث عن الحب والإعجاب بها والأهم من ذلك الحضور والشعور بأنها موجودة ومؤثرة في حياة الآخرين لهذا خلقت عالما موازيا خاصا بها ومن هنا جاء هذا الرسم القوي والمحكم للشخصية وخصوصا فكرة هذا العالم الآخر الذي يمثل الهروب لسعاد من حدود عالمها الضيق الخانق.
لكن هذا الرسم المميز للشخصية أحاطته المخرجة بمشاهد تحمل قدرا من الإسهاب والتطويل والإفراط في الحوار حول حياة سعاد نفسها داخل منزلها المتواضع، فهي تنتمي لأسرة بسيطة محدودة الدخل، كما أن المشاهد التي جمعتها بصديقاتها كان يمكن اختصارها.. مشاهد حياة سعاد وعلاقتها بالآخرين جاءت في مشاهد أقل إلا أنها كانت المشاهد طويلة دون داع او بعد درامي واضح.
أرادت أيتن أمين من تلك المشاهد إظهار الواقع القبيح الفوضوي، وهنا تكمن الأزمة الثانية في هذا الجزء، لأن التعبير عن هذا جاء عن طريق استخدام إضاءات خافتة وصورة رديئة الجودة، وكاميرا مهتزة طوال الوقت، وشريط صوت سئ وكذلك المونتاج لم يكن موفقا ولم يعد هذا الأمر ملحا الآن، في ظل التقدم التكنولوجي الكبير الذي تشهده صناعة السينما فحتى إذا كان الفيلم يقدم واقعا قبيحا فهذا لا يمنع أن يقدم بتقنية عالية الجودة خاصة وان تلك التقنية السيئة طالت كل مشاهد الفيلم.
اختارت أيتن أمين في الجزء الخاص بشخصية سعاد حتى بعد وفاتها المزج بين الأسلوبين الروائي والتسجيلي أولا لعرض أدق التفاصيل في شخصية سعاد وحدود وطبيعة حياتها الضيقة، وثانيا إظهار تفاصيل الشخصيات الثانوية والتناقضات الكبيرة التي تحملها الشخصية المصرية من خلال مشاهد عشوائية تعكس ضجيج الواقع في الشارع أو حتى في التفاصيل الخاصة بأيام الحداد.
تتشابه شخصية أحمد إلى حد كبير مع سعاد باستثناء الطبقة الاجتماعية حيث ينتمي أحمد للطبقة المتوسطة فأحمد هو حبيب سعاد من العالم الافتراضي الذي تعرفت عليه من مواقع التواصل الاجتماعي ويعتبر أحمد أحد أهم أسباب أزمتها فهو لا يولي لها نفس الاهتمام والقدر الذي تحمله له سعاد وهو أيضا يزيد من شعورها بالتجاهل وعدم التواجد لكنه مثل سعاد، غارق في العالم الافتراضي، لم يعمل بشهادة الهندسة وتحول إلى صانع محتوى أو كما يسمى “يوتيوبر”.
يحمل أحمد كل التشتت والمتناقضات التي يحملها الرجل تجاه الحب وتحديدا مسألة الإعجاب بالمرأة، فهو يحب تفاصيل وصفات معينة في كل فتاة يعرفها ولا يجد القناعة الكاملة بشخصية واحدة، وليس لديه القدرة أو الرغبة في التوافق مع سلبيات شريكة حبه، نجد أن أحمد يرتبط بـ “يارا” التي تنتمي للطبقة الأرستقراطية التي يحاول الاقتراب منها لتعويض الفارق الاجتماعي، وأيضا يحب سعاد الذي يجد فيها بحكم الطبقة التي تنتمي اليها، صفات “جدعنة بنت البلد” على غرار والدته وذلك من خلال حكاية طريقة لقاء والده ووالدته قديما، حتى يمكن القول بأنه أعجب برباب بعد ما وجد فيها من سلام نفسي وجرأة وغموض.
أما شخصية رباب فهي على النقيض من سعاد وأحمد حيث أن رباب لا تعاني من أزمات مماثلة لشقيقتها بحكم الفارق العمري، فرباب عمرها 16 عاما، وهي ليست مثل أحمد، فهي الوحيدة التي تعيش في سياق وحدود عمرها وطبقتها الاجتماعية وتتجه فجأة إلى الإسكندرية لمقابلة أحمد لتخبره بأنها تحمل رسالة له من سعاد.
فكرة رحلة رباب التي جاءت فجأة إلى الاسكندرية كانت مميزة خاصة وانها تفتح المجال أمام أربعة احتمالات: الأول الفضول لدى رباب للتعرف عن قرب بشخصية حبيب شقيقتها، والثاني رغبة رباب في معرفة أمور أكثر عن شقيقتها التي رحلت فجأة خاصة وأن العلاقة بين الشقيقتين لم تكن تحمل روابط قوية، أو ان رباب لديها النية في تكمل مسيرة شقيقتها في العلاقة بحبيبها، والرابع أن يكون دافعها الانتقام لكن جاءت تفاصيل تلك الرحلة مربكة مبهمة باهتة لا تحمل أي اتجاه محدد يمكن أن نعرف من خلاله سر تلك الرحلة سوى أن رباب أهدت أحمد في النهاية أغنية كانت قد سجلتها سعاد بصوتها على الهاتف المحمول.
قد تكون أيتن أمين تريد أن تبرز فكرة أن رباب نفسها مشاعرها مرتبكة وغير محددة تجاه أحمد لكنها لم تقم بتوظيف تلك الحالة أو أبعادها على الشاشة خاصة وأن مشهد النهاية جاء على غرار المشهد الافتتاحي مع وجود رباب بدلا من سعاد لكن الفارق في أن سعاد في المشهد الأول كانت تتحدث وتتحكم في الحوار عكس رباب الصامتة التي تبدو وكأنها لم تحدد شكل مصيرها في الحياة. وهذا ما أظهره المشهد لكنه خلال مشاهد الفيلم كان تائها وسط أحداث وتفاصيل درامية لم تضف كثيرا.