فيلم “ريش”.. رؤية عبثية للعالم

ليس من الممكن تناول فيلم “ريش” (2021) للمخرج المصري عمر الزهيري، من خلال النظرة الكلاسيكية إلى الأعمال السينمائية، فهو يكسر الاستقبال “الطبيعي” بل ويكسر فكرة “الواقعية” نفسها عن قصد، ليقدم رؤية مخرجه الخاصة للعالم، أي لتلك البيئة التي يعيد خلقها وتجسيدها على الشاشة مستخدما عناصر السينما بعد أن يطوعها لرؤيته.

“ريش” فيلم ساخر، نوع من الكوميديا السوداء التي تبدأ بشكل واقعي وتمتد بعد ذلك في مشاهد يغلب عليها الطابع التأثيري في الفن، ولكنه يصل أيضا في بعض مشاهده، إلى السيريالية. إن مخرجه- عن عمد- يقوم بتجريد الموضوع والشخصيات والأماكن، يغرب الصورة لكي يقربها منا، ويغالي في تصوير التدني والتدهور الحياتي، ولكن لا لكي يتشفى بل لكي يقدم لنا نظرته الخاصة لها، أو رؤيته التي ليس من الممكن قياسها طبقا لواقعيتها من عدمها، بل لعلاقتها بعالم الكوابيس التي لا يمكن العثور لها على منطق محدد، واضح، مستقيم.

أسرة فقيرة: زوج يعمل عملا هامشيا، يهتم بالمظاهر الاحتفالية ويحلم ببناء منزل جميل، في حين يعيش في أدنى درجات السلم الاجتماعي أو ما بعدها، وزوجة صامتة شبه خرساء، ترضخ لما يعطيه لها من فتات المال يوميا للإنفاق على توفير أقل ما يمكن من الطعام البدائي، وثلاثة أبناء، أحدهم رضيع، التليفزيون الصغير المهتريء هو وسيلتهم الوحيدة للهرب من محيطهم الى عالم الكارتون أو الرسوم المتحركة.

خلال حفل يقيمه الأب للاحتفال بعيد ميلاد ابنه، يأتي بساحر أو حاوي من قاع المجتمع، وأمام صحبة من أصدقاء الحي، يقوم الساحر بتحويل الزوج إلى دجاجة، لكنه يعجز عن استعادة الزوج من “المختفىى”. وتصبح الزوجة هي العائل الوحيد يتعين عليها أن تبحث عن كل وسيلة لتدبير العيش لأبنائها الثلاثة. الديون تراكمت، وأصبحت مهددة بالطرد من الشقة بسبب عدم تسديد الإيجار.

هذا المدخل يقود إلى رحلة جهنمية لبحث الزوجة عن عمل، وما تلاقيه من اضطهاد ونبذ، ثم استغلال من جانب الرجال، ولكن هذه التفاصيل التي تصل إلى نهاية صادمة مدهشة بعد أن تكون الزوجة قد استعادت خلال محنتها، قدرتها على الحديث، وعلى أن ترد الصاع صاعين، وأن تنتقم لنفسها ممن كانوا سببا في محنتها، هذه التفاصيل على أهميتها، ليست هي أهم ما في الفيلم. فالأهم هو الأسلوب الفريد المدهش الذي يعالج به المخرج عمر الزهيري، موضوعه.

في هذا الفيلم ثلاث شخصيات هي التي يقوم عليها بناؤه الفني: المرأة/ الزوجة/ الأم، والدجاجة/ الزوج، والأماكن التي نراها وتصبح جزءا أساسيا بنيويا من تركيبة الفيلم بل ومن خلالها تتكشف لنا شخصية المرأة وما تمر به من معاناة: شقة الأسرة البدائية المحطمة القذرة والمبالغ في تدنيها- عمدا- بحيث تخرج عن سياق الواقعية رغم أن مثيلاتها يمكن أن يوجد في الواقع. مركز الشرطة الذي يبدو أقرب إلى خرابة عامة، يجلس على بابها متسول لا ينطق بكلمة، والمقهى الذي يختلط فيه الطعام بالذباب تلقى فوقه الأوراق القذرة، ومؤسسة الإسكان التي تتردد عليها المرأة لدفع الأقساط المتأخرة كلما توفر لها بعض المال، ومقر الساحر (الآخر) الذي تلجأ إليه لكي يرشدها إلى مكان زوجها المفقود، وأبنية المصنع، والمنازل المتآكلة بفعل الزمن والرطوبة.

إنها صورة تجريدية تكتسي بالغبار، بل إن النافذة الموجودة في غرفة المرأة يتدفق إليها الدخان الكثيف الخانق كلما مرت مركبة ما لا نراها في الخارج. الحجرات والمكاتب وأماكن العمل والمصانع والبيوت وعيادات الطبيب ثم الطبيب البيطري الذي تأخذ إليه المرأة الدجاجة بعد أن تمرض لعلاجها، كلها أماكن خارج الواقع وخارج الزمان. إنها ليست صورة لمصر بالطبع، بل صورة متخيلة للتدني بشتى انواعه: التدني المعيشي والسلوكي والأخلاقي. المرأة هي نقطة الضوء فيه، يساعدها أحيانا بعض أصحاب المروءة والشهامة. أي أن القيم لا تنعدم تماما.

أهم كائن لدى المرأة ربما أهم من أبنائها هو الدجاجة التي ترقدها على فراش الزوجية، ترعاها وتقدم لها الطعام وتعالجها وتشتري لها الأدوية، ففي جسدها يوجد الزوج المختفي، الذي تامل أن يرتد ويعود إليها يوما، إلى أن تيأس من تلك الفكرة وتقرر الاعتماد على نفسها، ومواجهة الحياة بعد أن تتخلى عن صمتها وسلبيتها.

فكرة الجشع والنهم للحصول على المال، تتردد في الفيلم بقسوة: دائما هناك تبادل المال، الأيدي تمتد بالأوراق المالية، وهي قديمة ملوثة ممزقة.. المال مبلل بعرض الناس: يتهافت للحصول على المال الساحر والطبيب البيطري، البائع، موظف الإسكان، الرجل الوغد الطامع في الزوجة الوحيدة، الذي يطالب بما أعطاه لها من مال قليل.

ودائما هناك الأماكن التي لا تشبه وظيفتها: في خضم تلك الرؤية “الديستوبية” نرى قسم الشرطة، والمصنع والشركة، لا يشبه أي منهم تلك الأماكن في الواقع.. لقد أصبح كل شيء خربا على نحو يتراءى لنا في أعقاب سقوط قنبلة نووية في تلك المنطقة أو المدينة التي كانت قائمة، قنبلة دمرت كل شيء، ثم هناك الحريق الذي يشي بالنهايات.. يبدأ به الفيلم وينتهي.

البشر في الفيلم، يجلسون، ينصتون، لا يتحدث معظمهم، لا يتحركون، وإن تحركوا، فإنهم يتحركون كما لو كانوا قد فقدوا الحياة، دون انفعال على الوجوه، لقد فقدوا القدرة على الكلام.. وحتى عندما يغضبون ويلقنون الرجل الوغد الذي حاول استغلال المرأة في محنتها، درسا قاسيا، يكون الغضب من دون صوت، ومن دون شتائم أو لعنات.. ضرب فقط.

الممثلون ليسوا بممثلين، فهم من الناس العاديين الذين دربهم المخرج، ليس بغرض تحقيق الإيهام بالواقع، فالفيلم رغم الكثير من المناظر المستمدة- ظاهريا- من الواقع، يعاند الواقعية كما أشرت، ويعتمد على العبث والمعابثة وإرباك المتفرج من خلال التلاعب بمكونات الصورة.

هنا شريط صوت رائع: همهمات تشبه الأنفاس المتقطعة التي تصارع من أجل البقاء على قيد الحياة.. النغمات الموسيقية المرحة التي تعلق على الحدث في سخرية.. نهيق الحمار الذي يزار بالنشوة الجنسية، والحيوانات تمرح في كل مكان، تجاور الانسان وتتلصص عليه وتقتحم حياته: الدجاجة والحمير والكلاب والقرد.

جماليات الفيلم هي جماليات الفقر أو جماليات الجوع التي حدثنا عنها جلوبير روشا في الستينيات، لكنها لا تعني فقر الصورة بل عل العكس فالصورة التي تقترب كثيرا من التأثيرية مصنوعة بمهارة ومدروسة جيدا بحيث تمنحنا شعورا بالتدني على المستوى العام، لكن الصورة لها أيضا دلالاتها الساخرة التي تغرق في العبث واللامعقول. إنها صورة غير مهتزة، لم تلتقط بكاميرا بدائية من كاميرات الستينيات التي كانت تعمل في ظروف “حرب العصابات” في غابات البرازيل والأرجنتين.

إنها تجربة أولى بديعة تنبيء بموهبة متميزة لصاحبها، المخرج عمر الزهيري، الذي يتمتع هنا بحرية كاملة في صياغة وبناء موضوع فيلمه واختبار أسلوب اخراجه، بعيدا عن القيود التي تفرضها سوق ضاقت واستحال العمل في إطارها اليوم في مصر، في ظل القيود الكثيرة المفروضة على الإبداع الفني عموما، والسينمائي بوجه خاص.

 بطبيعة الحال لم يكن يمكن للمخرج التمتع بهذه الحرية في التعبير سوى بفضل الإنتاج المشترك، فقد اشتركت 4 شركات من 4 دول اشتركت في انتاج الفيلم، من هولندا وفرنسا واليونان ومصر طبعا التي جاءت مشاركتها من خلال شركة فيلم كلينيك لمحمد حفظي، القاسم المشترك في إنتاج الغالبية العظمى من أفلام السينما الجديدة التي يصنعها المخرجون الشباب في مصر مثل: ميكروفون، فرش وغطا، فيلا 69، علي معزة وإبراهيم، اشتباك، يوم الدين، أخضر يابس، الشيخ جاكسون، أميرة.. وغير ذلك). وهو أمر يحسب له دون شك. وجدير بالذكر أن الطرف الفرنسي في الإنتاج يتمثل في  شركة Still Moving التي يديرها جوليت لوبوتر وبيير مناهيم.. والأخير فرنسي وليس إسرائيلياً. أما كونه يهوديا فمسألة لا تعني أن نتخذ ضده موقفا أو ندين الفيلم لأن هناك شخصا يهوديا شارك في الإنتاج، إلا لو كنا من المعادين لليهود لا للصهيونية وهي بالقطع، مسالة أخرى.

علينا أن نحتفل بفيلم جديد مختلف، طموح، لا يدعي، ولا يزايد، ولا يزعم أنه يقدم بيانا سياسيا، يعارض أو يؤيد، بل هو عمل فني أصيل، يعبر عن رؤية مخرجه لهذا العالم.

https://www.youtube.com/watch?v=sRnwV8eBKxs
Visited 77 times, 1 visit(s) today