فيلم “خويا”: أزمة (الذات والذات) في سينما البحث عن الهوية
يعتبر مهرجان طنجة الوطني (1-9 فبراير) الذي تحتضنه سنويا تلك المدينة الأيقونية- الذي كان العالم القديم ينتهي عند حدودها- من أهم المهرجانات القومية التي يتم تنظيمها حاليا في المنطقة العربية وذلك بعد توقف المهرجان القومي للسينما المصرية الذي كان المهرجان القومي الأعرق والأشهر في المنطقة، حيث يتواصل المهرجان الوطني منذ اربعة عشر دورة متتالية بعد ان كان ينظم كل اربع سنوات وعلى غرار نظام المهرجان المتنقل.
ولكنه منذ عام 99 حط الرحال في عاصمة الأقليم الشمالي المغربي حيث اصبح تظاهرة سنوية تضم أغلب انتاجات السينما المغربية الطويلة والقصيرة واللقاء السنوي الأهم لمتابعي تلك السينما وصناعها وشباب مبدعيها.
يعرض المهرجان هذا العام 20 فيلما طويلا وذلك بعد انسحاب فيلم “بولنوار” للمخرج حميد الزغي حيث لم تنتهي اعمال الميكساج الخاصة به، بعد أن كان عدد الأفلام 21 فيلما هم حصيلة ما انتجته السينما المغربية خلال عام 2012, منها 11 فيلما طويلا تمثل الأعمال الأولى لمخرجيها والذي ينتمي اغلبهم لجيل الشباب ليصح خمسين بالمئة من الأعمال المعروضة هذا العام باكورة إنتاج الجيل الجديد من مخرجي السينما المغربية.
وإلى جانب الأعمال الأولى ثمة أسماء مخضرمة تعود للشاشة من خلال أفلام جديدة على رأسها مؤمن سميحي بفيلمه “طنجاوي” وهو تجربة متواضعة سينمائيا تدور في الستينات من القرن الماضي وتحكي عن الشاب الطنجاوي العربي السالمي الذي يعشق المسرح ويحب مدرسته الفرنسية ويعترف لابيه أنه ملحد ثم ينجو من القمع السلوطي للحركة الطلابية الشهيرة في ذاك الوقت.
ويقدم المخرج حسن بن جلون تجربته الجديدة “القمر الأحمر” عن حياة الموسيقار المغربي الكفيف عبد السلام عامر، بالأضافة إلى كل من نبيل عيوش بفيلمه “يا خيل الله” الذي سبق وأن عرض في مهرجان كان الدورة الماضية, و”زيرو” لنور الدين لخماري الذي يعتبر استكمالا لمشروعه حول الذات والمدينة والذي كان فيلم”كازانجيرا” عام 2009 أهم ملامحه.
خويا
خويا هو التجربة الروائية الطويلة الأولى للمخرج كمال الماحوطي وهو مخرج فرنسي من اصول مغربية ولد عام 63 ودرس السينما في جامعة باريس وقدم من قبل عدة تجارب قصيرة منها”حدث ذات مرة في 14 يوليو” و”وطني الضائع” وكان فيلم”خويا” قد فاز بجائزة المهر كأفضل مخرج عربي بمهرجان دبي في دورته الماضية.
ينتمي الفيلم في إطاره العام إلى سينما المؤلف في أكثر أشكالها تحققا، فالماحوطي ليس فقط مخرج الفيلم ولكنه كاتب السيناريو بمشاركة إيما راكان وهو نفسه المنتج ومصور الفيلم ومهندس الصوت بل إن الممثلين الرئيسيين في الفيلم من عائلته نفسها.
خويا في اللهجة المغربية تعني”أخي” أو”يا أخي” فهي صفة ولفظ نداء في نفس الوقت وهي الصيغة التي يخاطب بها بطل الفيلم الرسام مو بنصلاح- و”مو” هو الأختصار الفرانكفوني لأسم محمد- الشخصية الأخرى في ذاته وليس أخاه الشقيق المدفون في المغرب كما سيتضح لنا.
التيمة الرئيسية للفيلم هي أزمة صراع الهوية وهي التيمة الأشهر في تاريخ السينما المغربية والأكثر إلحاحا سواء على المخرجين المغتربين أو المقيمين، ومشكلة هذه التيمة كما تتجلى في فيلم خويا هي في تكرار بعض العناصر والموتيفات التي يتم من خلالها التعبير عن الأزمة ودلالاتها وتشعباتها.
إزدواجية وجدانية
يستخدم الماحوطي فرضية الأذدواج في الشخصية في جانبها الفلسفي الوجداني وليس النفسي المرضي لكي يعبر لنا عن حالة الأنقسام او التشرذم التي يعاني منها بطل فيلمه، ويعتمد على صراع ساكن متعدد المستويات يبدأ المستوى الأول من داخل نفسية بطله الذي نسمع صوته الداخلي في البداية يكتب خطابا لأخيه الذي لا ندري من هو ولا أين يعيش!
المستوى الأول يتم التعبير عنه بالصوت الداخلي للبطل من ناحية وعملية الرسم التي يقوم بها للوحات التي تعبر عن وجه واحد يتكرر في كل اللوحات وينظر إليه في حزن وشفقة وذلك في أحجام مختلفة وبألوان كابية ومنطفئة دلالة على حالة الحزن الداخلي التي يعاني هو نفسه منها.
في هذا المستوى يكون الصراع كامنا في رغبة شخصية التخلص من حالة الأزدواجية التي تلعنه من داخله، انه مغربي مقيم في باريس مع أسرته منذ سنوات طويلة لكن ثمة ذلك الشعور الملح في داخله بالأنقسام بين بلد المنشأ وبلد المعيشة، في الخطاب الذي نسمعه يُكتب داخل مو ثمة تكرار للأعتذار للأخ البعيد، ثمة تأكيد على براءة شخصية مو من ذنب تعذيب الأخ أو سوء الظن به.
ولكن عندما لا يبدو الخطاب كافيا يبدأ مو في محاولة التخلص من الأخ/ الأخر الذي يعيش في داخله عن طريق رسمه، ثم عن طريق إخراجه جسديا منه بأستخدام الألوان والطين.
يكرر المخرج موتيفة الخروج من الجسد عن طريق دهن الرسام لوجهه بالألوان ثم طباعة الوجه على الورق كماحولة لاخراج ملامح الأخر من ملامح الذات، ثم في مشهد تال عندما يذهب إلى المغرب نجده يغطي جسده بالطين الفخاري ثم يتلوى على كفن واسع كأنه يخرج من جسده ذلك الأخر الذي يعذبه.
وفي حين يستخدم مو ملامحه الملونة على الورق كعمل فني في البداية, نجده في المرة الثانية يقوم بعملية تكفين لذلك الجسد الذي انطبع بالطين على قماش الكفن ثم ثنيه ودفنه في ارض المغرب الحمراء رغبة منه في اعلان وفاة الأخر/ المغربي في داخله أو التأكيد على ذلك الموت الذي تحقق بالفعل منذ المغادرة الأولى.
المستوى الثاني من الصراع يدور مع الأسرة التي يستخدم المخرج فيها أسرته نفسها في خيط واقعي يميل للتسجيلية حيث نسمع الأب والأم في حوارات مطولة يتجادلان حول فكرة العودة، فالأب يريد ترك باريس والرجوع إلى الوطن الأول، أما الأم فتقول أنهم استقروا هنا منذ سنوات وأنها لا تحتمل أن تترك أبنها بمفرده.
يقدم المخرج هذا المستوى عبر لعبة صوت-بصرية، حيث يجعلنا نتابع مشهد مطول للأب والأم في حديثهم الطويل المضجر عن فكرة البقاء أو السفر، وفي المشهد التالي يجلس مو معهم على المائدة والكل صامت لكن شريط الصوت يذدحم بالأصوات المتجادلة والمتناطحة على فكرة العودة أوالبقاء, وكأن الأصوات تتصارع في داخله، تؤرقه وتزيد من عذابه وانقسامه وتفتته الداخلي.
يتداخل هذا المستوى مع مستوى آخر من الصراع وهو حبيبته الفرنسية, فمو يحب زميلته الفرنسية في العمل التي تبدو امرأة ناضجة رقيقة شقراء، انها تمثل فرنسا أو المهجر بكل ملامحه الملونة الحسية والعاطفية المغوية، وفي المقابل ثمة خطيبته المغربية، التي يصر أباه على أن يعود للمغرب كي يتزوجها.
وبقدر جمال الحبيبة الفرنسية بقدر شباب وجمال الخطيبة المغربية المنتظرة حيث يُحكم المخرج عنصر الأذدواجية من خلال الفتاتين وانقسامه النفسي والمعنوي بينهم, ويحطم فكرة الجمال الفرنسي في مقابل اللاجمال المغربي أي نمطية فكرة غواية المهجر في مقابل كآبة الموطن.
الذات والذات
على المستوى البصري يستخدم المخرج أسلوب إعادة اللقطة بالمونتاج المعتمد على المزج في مشاهد مو كي يكشف لنا عن إذواجيته، وكأنه يشبه شخصين في جسد واحد، حيث نراه يضئ الممر الذي يقود إلى مرسمه ويتحرك فيه ثم مزج سريع لنرى نفس اللقطة له تتكرر وكأنه شخصين.
هذا الأسلوب الذي يستخدم في البداية هو المقدمة البصرية لمسألة الأذدواج الوجداني الذي تعانيه الشخصيه والذي يقودنا مع مشاهد دهن الجسم والرسم المتكرر لوجه واحد والخطاب إلى الوقوف على أزمة الشخصية والخروج من الأطار الضيق لفكرة افتقاد أو تأنيب الأخ البعيد.
لا يتوقف المخرج كثيرا عند فكرة وجود الأخ من عدمها, فعندما يذهب مو لزيارة المغرب نجده يفتح صندوق أمانات البريد لنجد الخطابات التي كنا نسمعه يكتبها في باريس كلها محفوظة ومختومة ولم تصل ليد الاخ.
في هذا المشهد يقدم لنا المخرج اللقطة من داخل صندوق البريد وكأن شخصا أخر ينظر إلى مو في عينيه وهو يستقبل الخطابات، لتتجلى اقصى آيات الأذدواجية حيث يرسل شخصا ما خطابات لنفسه ويسافر إلى بلد أخر كي يستقبلها ايضا بنفسه.
وعندما يقرر مو دفن الكفن المليئ بالطين الذي يجسد ملامح جسد الأخر أو روحه يقوم بدفن الخطابات مع الكفن وكأنه يتخلص نهائيا من ذلك الصوت الذي يعن عليه ويؤرق مهجره.
ويوهمنا المخرج بأن الصراع انتهى, بعد اعتذار مو للخطيبة المغربية عن الزواج وبعد أن تحسم الأم قرارها بالبقاء مع الأبن في فرنسا، وبعد أن يتم دفن الكفن والخطابات، وبعد إقامة مو معرضه الناجح وخروج الوجه الذي يؤرقه من الداخل إلى عيون الجميع.
لكن يأتي المشهد الأخير ليهدم ذلك الأطمئنان الزائف والقرار الحاسم, فمو لم يتخلص من الأخ/ الأخر/ الذات المغربي الذي جاهد طوال الأحداث كي يتخلص منه، اننا نراه في مرسمه يعلق مجموعة من صور أشعة “أكس راي” التي تمثل صدره ورئتيه ويقف أمامها كي يرسم شخصا بجناحين كأنه ملاك أو روح بشرية ملونة.
يستخدم المخرج شكل الصدر والرئتين في الأشعة اللذان يمثلان شبه جناحين ليزيد عليهم رأسا وجسدا رقيقا شفافا لندرك عبر هذا المشهد الموحي والقصير والمليئ بالدلالات أن مو لم يتخلص من الأخ/ الذات الأخرى، فمهما فعل سوف تظل تعيش في داخل رئتيه وفي صدره ودمه لأنها هو.
على الرغم من الشعرية الواضحة في التعامل مع تيمة الفيلم إلا أنا نظل أمام نفس الموتيفات والعناصر التي طالما وسمت سينما البحث عن الهوية أو معاناة الذات والذات، بداية من عنصر الصدام مع الأهل الراغبين في العودة للموطن، وعنصر الأذدواج بين حبيبة المهجر وخطيبة المنشأ اي استخدام الأنثى كدلالة على الوطن أو المكان والأنقسام بينهم, كذلك الحديث المباشر عن فكرة اللغة في مشهد يتجول فيه مو في شوارع المغرب وتستعرض عينيه مناطق تراثية واثرية بينما يتسائل من داخله لماذا لا يتمكن من التحدث بالعربية والتعبير بها بدلا من الفرنسية!
ولكن ما يعيب فيلم الماحوطي هو ذاته ما قد يميزه في نفس الوقت وذلك عبر الأصرار على حالة الأذدواجية وتوظيفها في كل التفاصيل, بداية من اذدواجية اللغة حيث يكتب مو بالعربية خطاباته لأخيه/ ذاته الأخرى بينما يتحدث بالفرنسية طوال الوقت، وحيث يريد الأب العودة وتريد الام البقاء وحيث الحبيبة الفرنسية والخطيبة المغربية، أن جزء من ميزات الفن هو صب نبيذ قديم في كئوس جديدة وهو ما حاول الماحوطي في أول أفلامه أن يصنعه متحديا نمطية العناصر المستخدمة والتيمة المكررة في سينما اتخذت من أزمة الهوية قضيتها الأولى.