فيلم “خارج الخدمة”.. رؤية سينمائية مصرية مخيفة للتدهور
أصبح من النادر خلال السنوات الأخيرة أن تغامر السينما المصرية بإنتاج فيلم يخرج عن المواصفات التجارية السائدة، بل وحتى كبار المخرجين أصبحوا يميلون أكثر، إلى الاعتماد على قصة درامية مثيرة ينتج عنها مضمون اجتماعي بسيط، من خلال نفس الشكل التقليدي القديم.
مع ذلك، يمكن القول بثقة إن فيلم “خارج الخدمة” للمخرج محمود كامل، الذي آثر مخرجه التعبير عن رؤية وليس حكاية قصة، تجربة سينمائية رفيعة بل وأحد أفضل أفلام 2015 المصرية. إنه شهادة فنان على عصره، من خلال أسلوبه الخاص الذي نضج كثيرا ودخل منطقة أعمق، بلغة سينمائية أكثر قدرة على التعبير عن الواقع، وأكثر اقتصادا وبلاغة في استخدام الصورة والحركة والموسيقى والأداء التمثيلي.
حالة التدهور
يستند الفيلم على سيناريو كتبه عمر سامي، لا يروي قصة ذات مغزى اجتماعي تتضمن حكمة أو مقولة أخلاقية مباشرة، بل يكثف حالة نفسية ومزاجا عاما سائدا يشي بما وصلت إليه “الحالة المصرية” من تدهور على مستوى العلاقات بين الأفراد.
هذا فيلم عن “الانفصال” بين الإنسان والواقع، وبينه وبين من يتحكمون في صنع القرار، انفصاله عن مجمل السياسات الجارية التي تصعد وتهبط، دون أن تؤدي إلى تغير ملموس في حياة البشر. هنا تصبح العدمية اختيارا، والغرق في غيبوبة المخدر قرارا واعيا. يصور الفيلم الحالة العبثية والرغبة بالهرب من الواقع، التي تجمع شابا من الطبقة الهامشية في المجتمع، وامرأة من البورجوازية الصغيرة كلاهما فقدا الأمل في رؤية أي تغيير حقيقي. الشاب “سعيد” ضائع، هائم على وجهه، أدمن المخدرات فأصبح أسيرا لها، يسير غائبا عن الوعي، يتحدث بصعوبة، ويجاهد لكي يقف على قدميه، يلجأ إلى السرقات الصغيرة للتحايل لسد حاجته من المخدرات، تراكمت عليه الديون وأصبح مطاردا من قبل من يمدونه بالمخدر. ذات يوم، يسطو على مكان ما، لا يجد فيه سوى بعض التماثيل وصورة قديمة لجمال عبد الناصر، كما يعثر على ما يسمى بـ “فلاش ميموري” أو ذاكرة كومبيوتر. يبيع الصورة والقطع الصغيرة مقابل مبلغ زهيد، ويعود ليفحص المواد التي تختزنها تلك القطعة الصغيرة، ليكتشف وجود لقطات لامرأة تقتل فتاة صغيرة، سيعرف بمساعدة أصدقائه الصعاليك، أنها تقطن قريبا من شقته المتداعية التي يغلق بابها على نفسه هربا من مطاردة تاجر المخدرات الشرير “ممدوح” الذي منحه مهلة قصيرة لرد ما بدده من مال، وإلا تعين عليه مواجهة مصيره.
يتوصل “سعيد” الى شقة المرأة، يهددها بالإبلاغ عنها ويبتزها مطالبا بمبلغ ستة آلاف جنيه.. المرأة تنظر إليه لا تجده خطرا بقدر ما ترى أمامها إنسانا بائسا، فتدعوه للدخول، لتبدأ علاقة غريبة بين الاثنين.. هي علاقة تشكك وترقب وابتزاز من جانبه في البداية، ثم تتحول الى سيطرة من قبل المرأة عليه، ثم شراكة بين “سعيد” و”هدى” التي تعيش وحيدة منذ وفاة زوجها قبل 18 سنة. تدعوه “هدى” إلى تناول الشاي معها، ثم تعطيه مبلغا من المال وتطلب منه أن يشتري لها الحشيش، ويبدأ الاثنان رحلة تدمير ذاتي تدريجية، تجرب خلالها هدى كل أنواع المخدرات، يهددها سعيد بين حين إلى آخر، يقوم باغتصابها بالقوة مرة ومرتين، ولكنه يعود في كل مرة، ليجدها في انتظاره. لقد عثر سعيد لديها على المأوى والصحبة والرغبة المشتركة في تدمير الذات.
الأحداث السياسية المضطربة التي تشهدها البلاد تتابعها “هدى” من خلال ما يعرض على شاشة التليفزيون، بينما يبدو سعيد غير مبالٍ بما يجري، ولكن “هدى” مجرد متفرجة على الأحداث، وعندما تسأله بطريقة عابرة ذات مرة، عن رأيه في الحكومة وفي الإخوان، يردد كلاما إيجابيا عن الإثنين بطريقة آلية تكشف عدم مبالاته. ومع تطور العلاقة والأحداث وصولا إلى الاطاحة بحكم الإخوان المسلمين، يكون الإثنان قد بلغا مستوى من الإدمان يبشر بموت قريب.. لقد آثرا الانصراف تماما عما يحدث في الواقع.. فلا شيء في الحياة يتغير بالنسبة لهؤلاء البشر.
يتطلع الإثنان في أحد المشاهد الى شاشة التليفزيون، وفجأة ينفجر سعيد في الضحك، تنظر إليه هدى في دهشة، ثم تتطلع لتشاهد مجموعة من رجال الأمن يضربون رجلا بقسوة شديدة في ميدان التحرير ثم يسحبون جسده ويلقون به في القمامة. دهشة هدى تزول لتنفجر بدورها في الضحك مع رفيقها.
الجريمة الغامضة
مدخل الفيلم هو تلك الجريمة الغامضة، لكن سعيد الذي يمني نفسه باستغلال الجريمة للحصول من “هدى” على مبلغ كبير يتكفل بتسديد ديونه سيكتشف أن هذه الأمنية صعبة التحقق أيضا، فهدى كانت تلعب دورا صغيرا في فيلم من اخراج احد معارفها. وهي لم تكترث لتهديده لها، ولم تحظر دخوله مسكنها حتى بعد اغتصابه لها، فقد شعرت بالحاجة الى وجوده، ودربت نفسها على تطويعه وترويضه. إنها تكبره في العمر بشكل ملحوظ. وهو يعبر عن رغبته الجنسية من خلال العنف. ويتكرر اغتصابه لها. لكنه تدريجيا ومع الافراط في الإدمان يفقد قدرته الجنسية دون أن يفقد إصراره على ابتزازها للحصول على المال الذي يكفل له اتقاء شر ممدوح وصبيانه.
هناك مشهدان جيدان في الفيلم لكابوسين من الكوابيس التي تطارد سعيد ويعكسان ما يصدر عن خياله كمدمن.. بل إن الفيلم بأكمله يبدو مثل رحلة داخل عقل مدمن.. يهذي أكثر مما يتكلم، يسير بطريقة لاهثة، مقوس الظهر، كأنه يهرب من شيء يطارده طول الوقت، يحني رأسه، يهرش في جسده، نظراته تائهة وعيناه غائرتان. تدريجيا أيضا تبدأ ملامح “هدى” في التغير، بعد أن تغرق في تعاطي المخدرات معه، إلى أن تسقط مريضة. وفي أحد أفضل مشاهد الفيلم يتصل “سعيد” بصديق له من الطفولة.. طبيب في زمن التدني.. يناديه سعيد بـ “مصطفى”، مشعث الشعر واللحية، يرتدي ملابس رثة، ويقول إن “الميكروباص” الذي استقله قضى ساعة في الطريق بسبب الأحداث المتصاعدة في الشارع، يحمل كيسا من البلاستيك يخرج منه سماعة طبية وجهازا لقياس الضغط.. وعندما يحتاج لكتابة الوصفة الطبية، يطلب من سعيد ورقة وقلما.. ثم يدخل في مساومة معه على الأجر، بطريقة سوقية فظة!
الشخصيات القليلة في الفيلم تخدم الفكرة وتتيح الفرصة للتركيز على الفكرة الأساسية، والحدث السياسي يبدو فقط في الخلفية، وما يعرضه التليفزيون لا نسمعه تماما في معظم الأحيان، والصراع السياسي لا يعني هدى التي تكتفي بالمشاهدة بل هي مدمنة مشاهدة، أما سعيد فهو مستغرق في هروبه الدائم، وسرعان ما يصل الياس بـ “هدى” إلى أن تصبح هي أيضا مدمنة هروب بالمخدرات مثله. والجملة الأخيرة في الفيلم التي تقولها هدى بعد عودتها من الخارج في ذلك اليوم المشهود إن “الشوارع لم تكن مزدحمة كما كانت تتخيل.. بل يبدو أن الناس خائفون من النزول”. هنا يتعمق الإحساس بالانفصال عن الواقع. وسرعان ما تستغرق هدى في غيبوبة المخدر من جديد وينتهي الفيلم دون نهاية درامية مغلقة. وهو ما يشي باستمرار الوضع على ما هو عليه.. فلا شيء يتغير في حياة المصريين!
العناصر الفنية
ينجح المخرج محمود كامل في تجسيد مشاهد الفيلم بأسلوب واقعي صارم، سواء من ناحية اختياره الأماكن الخارجية الطبيعية للتصوير، أو استخدام الاضاءة الخافتة الشاحبة الضبابية غير المباشرة والألوان الباردة الباهتة في ديكور شقة “هدى” التي تدور فيها معظم الأحداث، كما يختار مع المصور، زوايا التصوير التي تخفي أكثر مما تكشف، وتسمح بخلق تكوينات خاصة (الممثلين من ظهورهما، انعكاس صورة سعيد في زجاج الخزانة، المروحة التي تخفي نصف شاشة التليفزيون). والفضل في تلك الصورة الصادقة الطبيعية التي جاء عليها الفيلم يرجع بلاشك، إلى براعة مدير التصوير الفنزويلي أرتورو سميث، الذي يعرف كيف يتحرك بالكاميرا بحرص شديد في المشاهد الداخلية، أو يقترب بأسلوب الفيلم التسجيلي بالكاميرا المهتزة من الشخصيات في الشوارع، مبتعدا عن الزوايا الغريبة التي تكسر الطابع الواقعي، وهو مثلا لا يستخدم الزاوية المرتفعة سوى مرة واحدة عندما نرى سعيد من وجهة نظر “هدى” وهي تتطلع إليه وعصابة ممدوح يضربونه ويركلونه ثم يلقون به أرضا وهي زاوية مشابهة كثيرا للزاوية التي شاهدنا منها على شاشة التليفزيون، رجال الأمن وهم يضربون الرجل في ميدان التحرير.
ومن أفضل عناصر الفيلم الحوار الذي يتمتع بدرجة كبيرة من التلقائية بحيث يساهم في ترسخ الطابع الواقعي للشخصيات، ويحافظ على طريقتها في الحديث. وقد ترك المخرج بلاشك، مساحة للارتجال في الحوار أثناء التصوير وهو ما ساهم في صبغ الكثير من مشاهد الفيلم بمزيد من البساطة والعفوية.
وكعادته يثبت تامر كروان أنه أحد أفضل مؤلفي موسيقى الأفلام في السينما المصرية، فهو يستخدم نغمات تعبر عن الحالة الذهنية للبطلين، تجنح حينا الى التوتر المكتوم في مشاهد الشك عند “سعيد”، وحينا آخر إلى التعبير عن المشاعر القوية بالخوف والاضطراب.. إننا نشاهد أولا كيف يستيقظ سعيد ليرى أن هدى تقوم بتقييده بالحبال في المقعد، ثم تقوم باخصائه بسكين كبير، قبل أن نكتشف معه أنه مجرد كابوس. وفي المشهد التالي مباشرة يجري “سعيد” ويواصل الجري في الشارع كأنه يهرب من شبح مخيف لينتهي بين أيدي ممدوح وأفراد عصابته الذين يعتدون عليه بالضرب المبرح. في هذا المشهد تتصاعد الموسيقى لتعبر عن الاضطراب والخوف. ويحسب للمخرج محمود كامل أيضا تحكمه في المناطق التي يستخدم فيها الموسيقى بحرص ودون إفراط، وبراعة تامر كروان في جعلها تتسلل تحت جلد الصورة دون أن تطغى عليها.
ولعل العنصر الأهم الذي يجعل هذا الفيلم يبقى طويلا في الذاكرة، هو عنصر التمثيل. هنا يتفوق ويبرع جميع الممثلين، وأولهم أحمد الفيشاوي في دور “سعيد” بانحناءة ظهره، وطريقته الخاصة في السير التي تحاكي طريقة المهمشين المدمنين، وطريقته الخافتة المرتبكة المتلعثمة في الحديث، وانفجاره في الغضب أحيانا عندما تستبد به حاجته للمخدر. يتماثل الفيشاوي مع الدور، سواء من الناحية الشكلية أو السلوكية، بدرجة نادرة في السينما المصرية، كما تؤدي شيرين رضا دور “هدى” بطريقة تكشف عن حضور خاص فهي امرأة قوية لكنها لا تقوى في البداية على مقاومة عنف سعيد، لكنها بشخصيتها القوية المهيمنة تفرض نفسها تدريجيا عليه، مع لمسة من الشفقة والحزن الغامض ورثاء النفس أيضا.
يتميز كذلك أداء أحمد ثابت في دور موزع المخدرات عادل، ومحمد صالح في دور “عمهم” تاجر العاديات، ومحمد فاروق الذي أدى ببراعة كبيرة واقناع دور “ممدوح” بطريقة ذكرتنا بأداء “محمود اسماعيل” نجم أفلام مثل “توحة” و”سمارة” و”بياعة الورد” و”بنت الحتة” من روائع الخمسينات والستينات.