فيلم “بلاش تبوسنى”.. حكاية من زمن “اللخبطة!”
ليستْ مجرد قبلة رفضتها ممثلة ثم اعتزلت، ولكنها كوميديا ساخرة عن تصرفات مضطربة متناقضة، بطلتنا تبدو ممثلة موهوبة، ولكن تنعكس عليها كل “اللخبطة” التى نتجت عن تغيرات اجتماعية واضحة، ليست “القبلة” إلا أحد معايير اختبار هذه التحولات، لو أخذ الفيلم رحلته إلى مستويات أعمق، لكانت النتيجة أفضل، ولكنى أراه، فى صورته الساخرة الجسورة هذه، عملا مهما يشهد على زمنه، وأعتبره أحد أفضل أفلام 2018.
أحمد عامر، مخرجا ومؤلفا لفيلم “بلاش تبوسنى”، اختار أن ينطلق من حكاية رفض القبلة إلى استتابة الممثلات، واعتزالهن. نظرته الساخرة لم تتجاهل أيضا نماذج من صناع الأفلام والمنتجين، وعبر سرد متماسك إلى حد كبير، نضحك ونتأمل فيلمين فى وقت واحد: فيلم بعنوان “السراب” من إخراج شاب يقدم عمله الأول، يُدعى تيمور تيمور، وفيلم تسجيلى يخرجه شاب اسمه إبراهيم، موضوعه “انحسار القبلة فى الفيلم السينمائى المصرى”، وكانت منتشرة فى أفلام الأبيض والأسود، كما تدل على ذلك تلك القبلات المتتالية، التى يعرضها الفيلم من أفلامنا القديمة، بما يذكرنا بطوفان القبلات المتتالية القديمة، التي انتهى بها فيلم “سينما باراديزو الجديدة”.
يظن إبراهيم أنه قد عثر أخيرا على فيلم جديد فيه «قبلة»، يفترض أن تؤديها الممثلة فجر أمام بطل الفيلم، ولكنه يجد نفسه أمام مشكلة حقيقية، فبعد إعادات متكررة، وتدخلات ورجاءات، تمتنع فجر عن تصوير القبلة لأنها حرام، بعد أن كانت قد وافقت على الفيلم والقبلة، بل إن تاريخها حافل بأفلام مليئة بالقبلات والرقصات، لم يعرف أحد أنها رأت حلما فسره أحد المشايخ في اتجاه رفض التمثيل، وضرورة الاعتزال.
من هذه الذروة البارعة، وبلمسات السيناريو اللامعة، سواء في رسم مواقف متكررة ضاحكة لفشل تصوير القبلة، أو في ربط ما نراه حاضرا بماضي الشخصيات، وأسباب تحولاتها، أو ربط ما يبدو روائيا من السرد، بما يفترض أنها أجزاء تسجيلية من فيلم المخرج إبراهيم، وبما يتيح للشخصيات أن تتحدث مباشرة إلى الكاميرا، نكتشف أخيرا أن رفض القبلة جزء من تغير ما في اتجاه المحافظة، وأن الجيل الأقدم، الذى تمثله في الفيلم والدة فجر، ووالدة المخرج تيمور، ويمثله أيضا المخرجان خيرى بشارة ومحمد خان، واللذان يظهران باسميهما وصفتهما، كان أكثر تفتحا وتحررا، وإن تغيرت وتحولت ممثلات من جيل أكبر من فجر، مثل الحاجة سوسو، هي لم تعتزل، ولكنها تؤدى الأدوار بشروطها؛ حتى لو اقتضى الأمر أن ترفض أن تحتضن، كممثلة في دور الأم، ابنها القادم من السفر
.
فطن الفيلم إلى تناقضات هذه الحالة السينمائية: من ادعاء وسذاجة الممثل الذي يبحث عن «شبشب الشخصية»، إلى رغبة فجر أن تصل إلى الشخصية من خلال قميص النوم، وصولا إلى المنتج الذي يريد استكمال الفيلم بأية وسيلة، ويمتلك ماضيا تتراكم فيه أفلام الهلس، ولديه قصة حب قديمة مع الفنانة/ الحاجة سوسو، وهناك أيضا تفاصيل العمل في الاستديو، وحضور خيري بشارة ومحمد خان، وتصوير فيلم تسجيلي بالتوازي مع فيلم «السراب»، وتقديم شخصيات مثل مساعد المخرج والمونتير واللبيسة ومسجل الصوت بلمسات كوميدية، كل ذلك منح الفيلم حيوية متدفقة.
ولكن هذا الاستغراق في الحالة السينمائية، منع الفيلم من فرصة ذهبية للخروج إلى الدائرة الأوسع، لاكتشاف أسباب هذا التغير في المجتمع، من الانفتاح إلى المحافظة، اكتفى الفيلم برصد انعكاس ذلك على السينما، ولكن الوصول إلى استتابة الممثلات، والسينما النظيفة، لا يمكن فهمه إلا ارتباطا بتحول عام.
يلامس الفيلم من بعيد هذا المعنى دون أن يعمقه، مفسر الأحلام المتدين مثلا، والذى سيفسر أحلام فجر، لا نعرف عنه شيئا، ولا يبدو كجزء من تيار منتشر، ومصممة الأزياء التي تحولت إلى أزياء المحجبات، مع أنها هي نفسها سافرة، شخصية ثرية جدا، كان يمكن بسهولة ربطها ببيزنس من نوع جديد
.
والفيلم التسجيلي الذى يصوره إبراهيم، كان يمكن أن يستوعب تحليلا تاريخيا واجتماعيا بل فنيا، ومن خلال شخصيات حقيقية، تضع رفض القبلة في سياق اجتماعي واقتصادي، بدلا من أن تبدو مجرد لعبة فكاهية، ليس مطلوبا بالطبع أن يتحول الفيلم إلى دراسة علمية، ولكن اقتصار اللعبة على السينما وصناعها وممثلاتها، دون إشارات أوسع للمجتمع، حرم الفيلم من الخروج من الخاص إلى العام، وجعل الأمر يبدو وكأن لخبطة «فجر» ترجع إليها وحدها، وليست جزءا من لخبطة مجتمع، وقد كان لدى الفيلم ومعالجته كل الأدوات الذكية، التي تتيح له الانتقال السلس من الخاص للعام.
على كثرة مشاهد الفيلم البارعة فى ظُرفها ومغزاها، فإن أفضل مشاهد الفيلم في رأيي هو مشهد تبادل الجميع للشتائم فى المقهى، يبدأ الأمر بسباب مساعد المخرج لفجر بصوتٍ عال، يلومه المخرج، فيؤكد مدير التصوير السباب، يصل الصوت إلى الزبائن، يلومون الثلاثة على قلة الأدب، يفقد الثلاثة أعصابهم، فيسبون الزبائن، يتخلى الزبائن عن الأدب، فيردون السباب، كأن الجميع يرتدون أقنعة، ما إن تسقط حتى تظهر تناقضاتهم، والسباب في المشهد صامت بالطبع، في لفتة ساخرة، للمحافظة على أخلاق الجمهور.
يحسب لهذه التجربة جرأتها ومعالجتها الكوميدية الجيدة، ويحسب لها كذلك أداء الممثلين المميز، وخصوصا ياسمين رئيس في دور فجر، ستنافس بالتأكيد بهذا الدور وتحولاته على لقب أفضل ممثلات العام، وهناك أيضا محمد مهران في دور مخرج فيلم «السراب»، كأنه بأدائه يعبر عن أزمة جيل بأكمله، ولا تفوتني الإشادة كذلك بعناصر فنية مميزة كالملابس والموسيقى التصويرية.
“بلاش تبوسنى” فيلم مهم وممتع وجريء، أكبر دليل على صدق رؤيته لتناقضات الناس فى بلادى، أنه أجيز عرضه، ولكن للكبار فقط فوق الثامنة عشرة، فقد خافت الرقابة أن يدخل جيل الإنترنت الخجول الذى لا يعرف شيئا عن الجنس، فيلما جريئا، يفتح عينيه على القبلات والعياذ بالله!.. عجبي!
* نشر المقال أولا في جريدة “الشروق” المصرية بتاريخ 8 مارس 2918