فيلم “بسبوسة بالقشطة”.. القضبان والإنسان

السجان والسجين السجان والسجين

تمرُّ الأزمان ويبقى الإنسان هو المشكلة الكبرى التي لا تُحلُّ. الإنسان بكلّ تعقيداته؛ الإنسان مُنشئ المشكلات والساعي لحلِّها. ويبقى الفنُّ يذكرنا بحقيقة مؤكدة يمكن تلخيصها في الجملة الآتية: الإنسان هو الإنسان. فمهما ظنَّ هذا الإنسان أنَّ أخاه الإنسان غيره ومُختلف عنه يجد في قرارة نفسه أنَّ الظاهر هو الاختلاف أمَّا العُمق هو الاتفاق، وأنَّ بين البشر دائمًا مُشتركًا إنسانيًّا أعظم شأنًا، وأمتن علاقةً من أيَّة فواصل حتى لو كانت القضبان.

إنَّ حديدًا شُكِّل ليصير قضبانًا يستعمله الإنسان ليعزل بعض أفراده مكانيًّا لا يستطيع أن يعزل نفسًا عن نفس، ولا فكرة عن فكرة، ولا تأثيرًا يسمع ساكن الهند صداه من ساكن القاهرة.. فهذا هو الإنسان.

فيلم “بسبوسة بالقشطة” فيلم قصير- أو هكذا يقدمه صانعوه- فهو في الحقيقة بين الفيلم الطويل والقصير أيْ أنَّه من نوع الأفلام المتوسطة. الفيلم من تصنيف أفلام الدراما الإنسانيَّة. إنتاج عام 2020. من تأليف أحمد زين، وإخراج عبادة البغدادي، مونتاج وتلوين نازر مصطفى، وموسيقى تامر سينجر، ديكور وتزيين عمار ظريفة. ومن تمثيل خمسة ممثلين: هشام عبد الحميد (السجين خالد حسن)، محمد شومان (أمين الشرطة محمد)، محمود السعداوي (أمين الشرطة سيد)، محمد عبد اللطيف (المقدم عاطف السنهوري)، ماما نور (زوجة الأمين محمد).

الفيلم يدور في سجن شديد الحراسة؛ ففي الزنزانة 403 يقبع سجين هو دكتور الفلسفة خالد يفصله جدار وقضبان حديديَّة عن سجَّان هو الشاويش محمد. ويعرض الفيلم تطور علاقتهما من طور الغُربة الشديدة لطور التلاقي الإنسانيّ. هذا هو الفيلم تمامًا دون أيَّة أحداث.

أمَّا عن أحداث الفيلم فلدينا سجين مضت عليه خمسة أعوام في سجنه دون اتهام مُحدد، وبعد هذه المُدة يدخل عليه الضابط عاطف ليبلغه أنَّ وجوده دون اتهام لا يمكن أن يستمرَّ مدةً أطول، خاصةً أنَّه يعرِّض الأمن لألسنة المنظمات الحقوقيَّة والإعلام. لهذا فالحلّ أنْ يؤلف هذا السجين تهمته بنفسه له ولخمسة آخرين اقتِيدُوا معه في اليوم نفسه. وترك له الضابط الحريَّة في أن يقضي على حياته بأيَّة تهمة يريدها، بل أبلغه أنَّ في الأمر ميزة؛ حيث إنَّه بالفعل قد قضى أعوامًا عدة في السجن من مدة العقوبة التي سيفضي إليها اتهامُه الذي سيكتبه!

وعلى الجانب الآخر من القصبان نرى الأمين محمد يُعاني هو وزوجه من مرض السرطان الذي يهدد حياة ابنهما الوحيد. ويحاول الأمين محمد أنْ يجد مُتبرِّع كبد، وأنْ يقنع الضابط عاطف أن يتوسَّط له ليُدخل الولد مشفى الضبَّاط بدل مشفى صفّ الضبَّاط الذي يتبعه بترتيبه الوظيفيّ ليلقى ابنه عناية أفضل. لكنَّ الضابط يُخلي مسئوليته ويتعلَّل دومًا بالقضاء والقدر.

وفي ظلّ وجود مشكلة على جانبَيْ القضبان؛ واحدة للسجين، وأخرى للسجَّان يبدأ النقاش بينهما ليعرض السجين وساطة لإدخال ابن السجين مشفى ومحاولة تقديم مساعدة من خلال طبيب صديق له. وبعد رفض من السجَّان لمساعدة الخائنين وإعلان أنَّ الدولة هي التي ستنتصر له يلين للسجين ويقبل عرضه. ويبدأ الحديث يجد طريقًا بين هذين النفسَيْن؛ ليكتشفا أنَّ ما بداخلهما واحد حتى إنْ ادَّعتْ ملابسهما، وموقعهما من القضبان، واختلاف مستوَيْهما الثقافيّ والاجتماعيّ أنَّهما على طرَفَيْ نقيض. لكنَّ الرياح لا تجري بما تشتهي السُّفُن فهل ستؤدي المُفارقات العديدة في رحلة كلٍّ منهما إلى افتراقهما ثانيةً أمْ أنَّ المُشترك الإنسانيّ سينتصر في نهاية القصَّة؟! هذا ما يعرضه الفيلم.

الفيلم ليس سياسيًّا إطلاقًا لا بالعموم، ولا تحت التصنيف السينمائيّ. الفيلم ينتمي إلى نوع الأفلام الواقعيَّة، وتصنيفه دراما إنسانيَّة، ويدخل تحت تصنيف جُزئيّ هو أفلام السجون. وليس معنى دوران الأحداث في سجن أنَّه سياسيّ بالقطع فغالبية أفلام السجون إمَّا تكون أفلام حركة وإثارة، وإمَّا تكون أفلامًا إنسانيَّة (كالفيلم الأشهر الخلاص من شوشانك). والفيلم قد اختار التصنيف الأخير ليُقدِّم تجربة إنسانيَّة خالصة، ورسالة معنويَّة مُؤثرة.

بل إنَّ أبرع ما في الفيلم أنَّه خلص للغرض الإنسانيّ. ودليل هذا أنَّه لمْ يُركِّز على أيّ جانب سياسيّ أبدًا، بل قد قصد إلى إهمال كل الإشارات السياسيَّة فلا حديث إلا عن الناس وهمومها من خلال نموذجين يجمعهما مكان واحد. وكذلك هو لمْ يستغل وجود ضابط وسجين ليعرض معاملة سيئة أو إهانة بل إنّ الضابط في الفيلم ظهر في صورة مُخففة للغاية. والفيلم يعرف هدفه فليس معنى أنَّه فيلم إنسانيّ أنْ يبتزَّ مشاعرك؛ فمثلاً لمْ يتعرَّض إلى مشهد تعذيب واحد، كما أنَّه لمْ يستجدِ تعاطفك من خلال إظهار الطفل المُصاب بالسرطان في أيّ مشهد من مشاهده. ومعنى كل ما سبق أنَّ الفيلم إنسانيّ خالص، يُركِّز على قضيَّة واحدة هي المُشترك الإنسانيّ دون غيره، وأنَّه لمْ يخرج أبدًا عن هذا الغرض قيد أنملة.

يمتاز السيناريو الذي قدمه الفيلم بالتركيز على الهدف رغم أنَّه قد تشعَّب أكثر مما يلزم الفيلم القصير أنْ يكون عليه -لذلك فهو فيلم متوسط، بل هو أقرب للطويل من حيث الموضوع والأحداث لا من حيث عدد دقائقه-. وبالعموم استطاع أنْ يقدِّم قصة من واقع الحياة المصريَّة قد تحدث في أيّ زمن من الأزمان، وقد تحدث الآن، ولا مانع من حدوثها فمنذ متى لمْ يكنْ الإنسانُ ظالمًا؟! ومنذ متى لمْ يكن الإنسانُ مَظلومًا؟!

جاء الحوار في الفيلم مُميزًا للغاية حيث استطاع أنْ يعبِّر عن كل ما أراد دون الدخول في حيِّز الابتذال والإسفاف الذي نجده دائمًا في القصص التي تظهر فيها الشرطة. وامتاز أيضًا بالواقعيَّة الضروريَّة التي يقتضيها اختلاف الثقافات والمستويات بين شخصياته. خاصةً مُراعاته للهجات الفرديَّة، ولهجات الطبقات المُختلفة. واستمع إلى كيف يتحدث الأمينان محمد وسيد معًا، وكيف يتحدث الضابط وحده، وكيف يتحدث الأمين محمد عندما أنشأ علاقة مع السجين خالد.

وقد يبدو أنّ أضعف ما الفيلم سيناريو وحوارًا هو ما قبل النهاية مباشرة. لا أقصد مشهد النهاية، بل من بدء المؤامرة على السجين، ومشهد الوقيعة وحواره، ومشهد الضابط الذي يدخل على السجين في غاية غضبه. فقد شهدت هذه المشاهد أضعف حلقات الفيلم من حيث السبك الفنيّ، ومن حيث الحوار الدائر على ألسنة الشخصيات الضابط والسجين والسجَّان.

الفيلم القصير مُختلف عن الفيلم الطويل في آلياته الكتابيَّة والإخراجيَّة، وروحه العامة. والفيلم -وكذلك أيّ عمل فنيّ- كُلَّما كان أقصر كُلَّما احتاج إلى تكثيف في الأدوات ووسائل التأثير بشدة -وللعلم هناك أفلام قصيرة أقلّ من دقيقة-. وهنا يأتي تميُّز فيلمنا هذا إنَّ تميُّزه الأكبر يتمثَّل في سرّ الصنعة الفيلميَّة وهي “الاهتمام بالتفاصيل”. والفيلم اهتمَّ اهتمامًا بالغًا بالتفاصيل الصغيرة، مما صنع له تميُّزًا فنيًّا وجودةً.

نشهد تميُّزًا إخراجيًّا كبيرًا نراه في التحكُّم في عناصر التصوير الذي امتاز ببراعة في اختيار الزوايا التصويريَّة من جانب، وفي حساب مساحات الشاشة (المساحة الأماميَّة والخلفيَّة لمحلّ التصوير)، وكذلك في استخدام الكاميرا المحمولة التي صاحبت غالب المشاهد. ويجب التنويه على امتياز مدير التصوير الذي أدار هذه العمليَّة كما كان مسئولاً عن شيء بالغ الأهميَّة هو الإضاءة وتوزيعها؛ حيث امتاز الفيلم بتوزيع بارع لإضاءة المشاهد مما يدلُّ على خبرة ولمسة جماليَّة. وكذلك الديكور والتزيين الذي كان له الدور الأكبر في موقع التصوير. وواضح تمام الوضوح أنَّ موقع التصوير موقع مصنوع لا حقيقيّ؛ وهنا يأتي تأثير التزيين والديكور في إدخال إيحاء الحقيقيَّة على المَشاهد. إلا أنَّ التأثير الحقيقيّ والذي أدخل الفيلم في مكانة أعلى كان تأثير التلوين في مراحل ما بعد الإنتاج. وكذلك كانت الموسيقى ذات دور وإنْ لمْ تكنْ ذات إبداع.

كل هذه العناصر لن تكون مؤثرة إلا بدخول العنصر التمثيليّ على الفيلم. وهنا يجب تحيَّة كل المُشاركين الخمسة؛ فجميعهم قام بدوره كما ينبغي. ولعلَّ دقَّة الاهتمام بالتفاصيل الذي امتاز بها دورا محمود السعداوي (سيد)، ومحمد عبد اللطيف (الضابط) أمر لافت للانتباه جدًّا، مما يدلُّ على مهارة تمثيليَّة حقيقيَّة. وكم قد يعجبك لكنة الأمين سيد أثناء حديثه وانحناءات صوته. والتميُّز الأشدّ تقاسمه محمد شومان وهشام عبد الحميد؛ وقد يعجبك كثيرًا الأداء الحركيّ والصوتيّ المُحكَم من محمد شومان الذي ظلَّتْ الكاميرا تتابعه متى تحدث. كما أنَّ الحسّ الفنيّ كان ملاصقًا للأستاذ هشام عبد الحميد الذي قدَّم دورًا جادًّا وجيِّدًا.

في النهاية تدلُّ هذه التجربة السينمائيَّة على إمكان صُنع أفلام قصيرة -وطويلة بالقطع- جيدة، بل تستطيع المنافسة العامة في السباق السينمائيّ. فلماذا نقف دومًا عند أوهام البيع والشراء وإرضاء الجمهور؟!

اصنع فنًّا حقيقيًّا من أناس ذوي حسّ فنيّ ومهارة، واعرضْه عرضًا لائقًا وسيجد طريقًا للجمهور وغير الجمهور. ففي النهاية يبقى الإنسان هو الإنسان.. هو الذي يصنع وهو مَنْ يشاهد.

شاهد الفيلم كاملا

Visited 293 times, 1 visit(s) today