فيلم “بتوقيت القاهرة”.. أسلوب المسلسلات أفسد الحبكة!

شاهدت مؤخرا الفيلم المصري “بتوقيت القاهرة” لمخرجه أمير رمسيس، وهو فيلم مختلف قليلا في طموحه عن مجمل ما يقدم في السينما المصرية من أفلام يغلب عليها العبث والرغبة في الإضحاك بأي شكل كان. وكان الفيلم قد قوبل بالترحيب من جانب كثير من تصدوا للكتابةعنه ربما لهذا السبب وحده، فقد أصبح مجرد “الاختلاف” في الطموح الفني سببا كافيا للحماسة لعمل سينمائي ما مع التغاضي عن كثير من عيوبه ونقاط ضعفه، وهو أيضا أمر غير صحي!

 الفيلم يوحي من السطح، بأنك أمام بناء سينمائي مركب متعدد الأوجه والشخصيات والأجيال. وقد يكون هذا صحيحا، لكن المشكلة أن الفيلم الذي يستوحي فيه مخرجه بوضوح مثلما يفعل غيره من شباب المخرجين المصريين، تجارب الأميركي روبرت ألتمان، والمكسيكي اليخاندرو غونزاليس، فهو يعتمد على ثلث أو أربع قصص، تتقاطع وتتداخل معا، تحدث كلها في يوم واحد، والمفترض أن حياة الشخصيات بعد هذا اليوم تتغير، فمنها من ينال جزاءه، ومنها من ينال حريته التي كان يبحث عنها وينشدها!

تكرار أفكار قديمة

غير أن النظرة الدقيقة للفيلم يجعلنا نستطيع أن نرصد أن “التوليفة” المصنوعة التي تدور حولها أحداثه أقرب ما تكون إلى توليفة المسلسلات التي يتم تضخيم مواقفها، ومدها والتطويل فيها، خاصة أن التعبير عن “الأفكار” التي يريد الكاتب- المخرج، توصيلها للمتفرج ليست سوى مجموعة من الأفكار المستهلكة التي أكلت عليها كثيرا السينما المصرية وشربت في الماضي، رغم تطعيمها بنكهة سطحية من الحاضر بخصوصيته. ففكرة ذهاب فتاة مع حبيبها الى شقة صديق له لممارسة الجنس قبل الزواج بعد أن فاض بهما الكيل وهما مخطوبان منذ 3 سنوات وعاجزان عن الزواج، هي فكرة قديمة تحتوي كل ما سبق أن تم تناوله في كثير من الأفلام الميلودرامية، ومنها تساؤلات مثل: هل سيقبل المجتمع أن تمنح فتاة جسدها لمن تحبه، بل وهل يقبل الشاب نفسه الارتباط بها بعد ذلك، أو نظريا، الارتباط بفتاة في المستقبل تكون قد فقدت عذريتها؟ وهل إذا قبلت أن تمارس معه الجنس سيحترمها بعد ذلك، وهل يقبل أن يحدث هذا لشقيقته مثلا.

ولعل المشكلة لا تكمن فقط في الدوران كثيرا حول هذه الأفكار من خلال حوارات طويلة ومرهقة في مشاهد جامدة من الناحية السينمائية، بل في تحايل المخرج- المؤلف عندما يصطنع بعض التفاصيل الجانبية مثل تصوير الفتاة “سلمى” (أيتن عامر) وكأنها مصابة بنوع من الوسواس القهري، يجعلها تصر على ضرورة أن يقوم حبيبها “وائل” بتنظيف كل قطع الأثاث في الشقة من التراب المتراكم عليها حتى يمكنها الاسترخاء، أو أنه يجب أن يترك دائما مسافة بينه وبينها، أو خوفها من أن يأتي أحد من الجيران، أو خشيتها من عامل تحصيل فاتورة الكهرباء، أو الذهاب في خيالها إلى مشهد هزلي وهزيل مقصود للترفيه عن المتفرج، نرى فيه رجال الشرطة يحضرون للقبض على الشاب والفتاة وهما في “حالة تلبس” كما يقولون،  وكيف يصر الضابط على أن يتغطيان بالملاءات البيضاء، حسب ما هو شائع في “جرائم” الزنا كما هو مستقر في خيال الفتاة. وكل هذه الألاعيب والتحايلات مقصود بها توصيل فكرة واحدة هي أن الفتاة مضطربة ومتوترة، لا تشعر بالارتياح في الإقدام على التجربة الجسدية الأولى رغم حبها للشاب دون تحفظات، ورغم كل ما تراكم لديها من رغبات مكبوتة!

يحيى والساعة

هناك أيضا قصة ذلك الرجل المتقدم في العمر “يحيى” (نور الشريف) الذي يعاني من فقدان الذاكرة بفعل مرض الزهايمر، وكيف أنه أصبح لا يتذكر سوى المشاعر الإيجابية فقط دون أن يتذكر الأشخاص. نراه يحمل ساعة حائط كبيرة ويركب سيارة يقودها في الطريق من الاسكندرية الى القاهرة لكن السيارة تتعطل فيركب مع شاب من شباب هذه الأيام- كما يقولون- يدعى “حازم”، يقوم بتوزيع المخدرات، يحترف رواية قصص تثير التعاطف معه على زبائنه كلما سأله أحدهم عن السبب الذي دعاه لامتهان هذا العمل الخطر الذي يضعه في أوساط الاجرام ويعرضه كما سنرى بالفعل، للمخاطر.

يطلع يحيى  حازم على صورة لامرأة يتذكر أنها لعبت دورا كبيرا مؤثرا في حياته لكنه لا يتذكر أي شيء عنها ومن تكون، وفي الوقت نفسه هو على يقين أنه سيعثر عليها في مدينة القاهرة التي يقطنها عشرون مليونا من البشر! بعد وصولهما الى القاهرة، وبالصدفة يقرر “حازم” الذي يمثل ضياع قطاع من جيل الشباب والذي يطارده أفراد العصابة التي يعمل لحسابها، أن يطلب منه توصيل قطعة من المخدر للممثل المتقدم في العمر الذي ابتعدت عنه الأضواء “سامح” (سمير صبري) لكي يجد يحيى أمامه تلك المرأة التي جاء للبحث عنها بعد سنوات طويلة من الانقطاع، وهي الممثلة السابقة ليلى سماحي (ميرفت أمين) دون أن نعرف شيئا عن طبيعة علاقتهما السابقة.

ولكي يتم إحكام الموقف، تكون ليلى قد جاءت الى زميلها في التمثيل قبل أن تعتزل، لكي تطلب منه أن يذهبا الى المأذون لكي يطلقها، فهي على قناعة بأن زواجهما قبل سنوات بعيدة أمام الكاميرا في أحد الأفلام، هو زواج حقيقي، ورغم أنه يسخر من الفكرة يؤكد لها أنه مسيحي وأنه لا يمكنه تطليقها أصلا لأنه لا يملك أي وثائق زواج من الأصل، الا أنها تصر أن تبقى معه، وأن تفسد عليه متعة الاختلاء بصحفية شابة جاءت لاجراء حديث صحفي معه، ويبقى هذا المشهد الذي يعاني من الترهل والافتعال والإطالة والجمود، يتركه المخرج ليذهب الى القصص الأخرى، ثم يعود إليه باستمرار بلا كلل، كما يفعل مع كل مشاهد فيلمه الذي كان من الممكن أن تروى قصته فيما لا يزيد عن 40 دقيقة، أي في فيلم قصير!

أسلوب المسلسلات

لكن المشكلة تتمثل في غلبة أسلوب كتابة وإخراج المسلسلات، ولا يبدو أيضا أن المونتاج يتدخل كثيرا في مسار الأحداث بالشد والضبط والتحكم في الإيقاع، فالمخرج يترك الممثلين يؤدون كيفما اتفق، ويكررون ويعيدون عبارات الحوار المليئة بالأخطاء والتناقضات، مما يؤدي إلى سقوط الإيقاع بل وسقوط الفيلم في الدوران حول الفكرة باستمرار.

يتكرر كثيرا الحديث عن مشكلة العلاقة بين الحب والجنس قبل الزواج، وهل هو مقبول أم مناف للصواب، وتكرار لفكرة زحف الفكر الظلامي على ادمغة أبناء الطبقة الوسطى، كما نرى في حالة الممثلة “ليلى” التي تأتي الآن بكل سذاجة لكي تطلب الطلاق من ممثل تزوجها في مشهد تمثيلي من قبل، وتكرار آخر في تصوير “يحيى” الذي يفترض أنه يبحث عن الزمن الماضي الذي كان أجمل من الحاضر بالضرورة (وهي فكرة رجعية أصلا) وعليك أن تستنتج هذا فقط من وجود الساعة القديمة التي يحملها يحيى دون أن تفهم بالطبع مغزى عنوان الفيلم “بتوقيت القاهرة” (وهو عنوان مقتبس من برنامج تليفزيوني كان يقدمه المذيع اللامع حافظ الميرازي)، فالأقرب الى المعنى المقصود هو “يحدث الآن”!

ثم نعرف أن الفتاة “سلمى” التي ذهبت مع حبيبها “وائل” الى شقة صديقه للاختلاء للمرة الأولى معا، هي ابنة الممثلة السابقة ليلى، وسلمى لا تبدو متحفظة أو متشددة دينيا، فهي ترتدي الملابس العصرية وتبدو في كامل زينتها وإغوائها، وغير متحفظة من الناحية الدينية، وكل ما يشغلها “نظرة المجتمع إليها” في حال استجابت لمشاعرها، بل يبدو تحفظها أحيانا كما لو كان نوعا من التمنع، بدليل أنها تقبل بممارسة الحب في النهاية، وعندما تقول أمها ليلى لزميلها الممثل سامح، إنها رضخت لضغوط ابنتها (المقصود الملتزمة دينيا) وإنها تريد تطهير صورتها أمامها من ماضيها كممثلة ومما ارتبكته من معاص على الشاشة، يكشف الحوار عما في الفيلم من تناقض، وهي مشكلة في السيناريو أساسا!

فقدان الهدف

هناك شعور بأنك امام فيلم فاقد للبوصلة، أي يفتقد الى التركيز، ويمتليء بالكثير من الكلشهيات مثل مشاهد العصابة التي تبحث عن حازم بعد أن اضطر للتخلص من كمية من المخدرات حتى لا يقع في أيدي الشرطة، والعصابة لا تطالبه بردها بل بدفع بثمنها، وينتهي الأمر- والفيلم- بضرب حازم ضربا مبرحا في مشهد ضعيف من ناحية التنفيذ، وهم يكتفون بضربه دون قتله. والغريب أيضا أن ابنة يحيى الشابة الجميلة، تذهب للبحث عن والدها على طريق الاسكندرية- القاهرة وتعثر عليه بمنتهى البساطة في استراحة على الطريق كما لو كانت تعرف مكانه مسبقا بينما توقف هو وحازم بالصدفة في هذا المكان، ويتظاهر “يحيى” بأنه لا يعرفها بحجة واهية بالطبع، وكله حشو لا طائل من وراءه، وآفة هذا النوع من الأفلام فالمخرج يريد أن يجعل فيلما أحد أفلام الطريق أيضا، ولكن دون أن يصبح الفيلم كذلك. وبعد أن يواصل يحيى السفر مع رفيقه الشاب، يوقف رجال الشرطة السيارة ويصر الضابط على ضرورة هبوط “يحيى” من السيارة بعد ان كان ابنه الفظ المتشدد دينيا قد أبلغ الشرطة بهروبه وبأنه فاقد الذاكرة (سنعرف فيما بعد أن الإبن يكره والده لأنه تزوج من امرأة مسيحية هي التي أنجبته)، ولكن رغم إصرار أمين الشرطة على ضرورة بقاء يحيى، إلا أن الفيلم ينتقل بالقطع المفاجيء من هذا المشهد الى مشهد للاثنين يواصلان السير بالسيارة على الطريق وكأن شيئا لم يحدث، ويتعين على المتفرج بالطبع أن يتوصل الى استنتاجه الخاص لما يمكن أن يكون قد حدث، فهل أقنع حازم الشرطي المتشدد بعد ان دفع له رشوة مثلا.. لا نعرف!

المشكلة أن الكثير من المخرجين الشباب يريدون أن يقوموا بكل شيء: الكتابة والاخراج وأحيانا أيضا التصوير أو المونتاج، دون معرفة حقيقية بالكتابة الدرامية، وبدافع رغبة في تقديم سيناريو يحفل بالشخصيات المتعددة التي قد لا يكون لبعضها ضرورة فنية كما في شخصية ابنة يحيى مثلا التي يمكن استبعاد دورها من الفيلم دون أن يحدث أي اضطراب بل ربما يساهم هذا في تحقيق نوع من التركيز والشد أكثر، رغم أنني شخصيا وجدت أداء الممثلة دره في الدور رائعا!

غير أن الأداء الأكثر قوة في الفيلم يبقى بلاشك، أداء الممثل الراحل الكبير نور الشريف، الذي يعبر بخبرته الكبيرة، عن الحالة الذهنية لرجل مصاب بالزهايمر، يتذكر وينسى، يغضب كالأطفال ثم يضحك ويسامح، يحن الى الماضي، لكنه لا يمانع أيضا في الانغماس في الحاضر، إنه يريد أن يتشبث ببصيص أمل من خلال الإصرار على الوصول إلى تلك المرأة الغامضة التي ارتبط بها في الماضي ويريد الآن استعادتها بعد أن توفيت زوجته. نور الشريف يعبر عن شخصية حقيقية قريبة من نفسه، صوته أصابه الوهن، وكان المرض والشيخوخة المبكرة قد نالا منه، ولم يكن غريبا أن يكون هذا آخر أفلامه. وهو عنصر آخر ساهم في الترويج للفيلم، ولعل أداءه أبقى على الفيلم وأبقى على بعض من متعة المشاهدة بمزيج من الحب واللوعة والأسى!  

Visited 93 times, 1 visit(s) today