فيلم “ايما”.. دراما تنازُع النفس البشريَّة

لقطة من فيلم" إيما" عن رواية جين أوستن لقطة من فيلم" إيما" عن رواية جين أوستن

فيلم “ايما” وجبة بصريَّة فريدة سيستمتع بها المُشاهد حتى لو لمْ يلتفت من الأساس للأحداث التي تدور أمامه. لكنْ -إنْ قرَّرَ الالتفات- سيشاهد فيلمًا عن دراما وقعت في العصر الحديث في إنجلترا. دراما نفسيَّة حادَّة؛ ودلالة كونها حادَّةً أنَّها تحدث في الخفاء لا في العلن، ويحتاج استيعابها إلى بعض التأنِّي والتمهُّل، وبعض الصبر في محاولة التوغُّل في دراما الفيلم، ودراما شخصيتنا الواحدة التي تدور حولها.

فيلم “إيما” Emma من إنتاج 2020. مأخوذ عن رواية للكاتبة الإنجليزيَّة الشهيرة “جين أوستن”، وروايتها تحمل الاسم نفسه الذي للفيلم. عالجه للسينما إلينور كاتون، وأخرجه أوتمن دي وايلد. وهو من بطولة أنيا تايلور، ميا غوث، جوني فيلن، والممثل الكبير بيل ناي، وآخرين كُثُر. الفيلم من تصنيف دراما، كوميديا.

يتناول الفيلم حياة شابة ثريَّة لطيفة اسمها “ايما” التي تعيش في قصر مهيب، وتتمتع بمنزلة رفيعة، ومال وفير. تعاني حياة “ايما” من ركود ورتابة يبدأ كسرَها وجودُ فتاة لا يُعرف لها أصل ولا تعرف هي والدَها، تُدعى “هارييت سميث” والتي التحقت بمدرسة قريبة. تتقرَّب “ايما” من الفتاة وتسمح لها بإقامة علاقة صداقة تبدو وطيدة. وفي ظلّ ترقُّب دائم من “ايما” لما يحدث حولها تبدأ الانجراف في تتبُّع مغامرات الفتاة البلهاء “سميث” مع مَن تعتقد أنهم يحبونها، وعلى صعيد آخر تحاول كسر اهتمام بالغ بشابة غنية أخرى هي “جين”. وفي خضمّ هذه العلاقات المتشابكة تتابع “ايما” علاقتها مع شابين أو ثلاثة من المُحيطين بها؛ لتعرف إلى أيّهم سوف تميل.

الفيلم قد يُذكِّر أيّ مشاهد بالدراميَّات المَلهاويَّة أو المَأساويَّة التي كان يكتبها المسرحيون في أوربا في عصور النهضة مثل قصص العشق عند “شيكسبير”، أو حتى قصص اللهو على يد “موليير”. إنَّها أحداث تدور في طبقة النبلاء حيث كان شرطًا أن تدور الدراما عنهم لا عن غيرهم -ولهذا ترى الأعمال المسرحيَّة في هذه الفترة الطويلة كلها عن الملوك والنبلاء والشخصيات العظيمة إنْ خرجت عن الحيز الأول-. قصة تلاعب وعشق تدور بين نبلاء يستغلون مشاعر مَن هم دونهم من الطبقات في إذكاء شعلة الأحداث متى هدأتْ. لكنْ هل هذا الفيلم بهذه البساطة؟!

فيلم “ايما” -وإنْ بدا لك بسيطًا- فهو ليس كذلك عند التدقيق؛ فهو فيلم دراما عن تصارع نفسيّ داخل شخصيَّة واحدة، تغذيها أفعال العديد من الشخصيَّات الأخرى. إذن فبناء السيناريو مُوحَّد من حيث التأثير وانعكاس التأثُّر؛ فكلّ ما هنالك يدور وينبع ويصبُّ لدى “ايما” والتي سنتناولها بالتخصيص كما فعل الفيلم. لكنْ قبل ذلك يجب أنْ نلتفت إلى ما تمتع به سيناريو الفيلم من حوارات مُطوَّلة جميلة، وإنْ لمْ تكن عميقة كفايةً. وإلى ما تمتع به أيضًا من روح كوميديَّة شائعة وموزَّعة على طول أحداثه. ويجب أن نلتفتْ إلى أنَّ فيلمنا قد يفقد عنصر التسليَّة في نصفه الأوَّل الذي امتاز ببعض الرتابة التي كسرت حدتها الكوميديا وأداؤها من عناصر التمثيل.

الفيلم يدور في بداية القرن التاسع عشر -تحديدًا عام 1800- في مجتمع أوروبيّ لمْ يتخلص بعد من بنيته الأساسيَّة السياسيَّة والاجتماعيَّة. فالمُجتمع -كما سيطالع المشاهد- طبقيٌّ؛ أيْ أنَّ المواطنين فيه ليسوا سواء، بل مُقسَّمون إلى طبقات يُحدِّدها أصلهم بالولادة وهو ما يُسمَّى “نِبالة الأصل” فيما يعرفه القارئ العربيّ بمُصطلح الشخص “النبيل”. وليتخيل مواطن اليوم أنَّ أيَّ شخص في “أوروبا” طوال قرون مديدة كانت تتحدَّد منذ لحظة الولادة كلُّ حياته على أساس واحد هو: مَن والداه؟!

كما يُقسَّم المجتمع بعد نبالة الأصل على حسب الغِنى وتوزيع الثروات؛ حيث يتلو الغنيُّ نبيل الأصل في المنزلة حتى إنْ لم يكنْ نبيلاً. وكذلك طبقة المتعلمين الذين استطاعوا أن يتزوجوا بالطبقة النبيلة أو الطبقة الغنيَّة أو استطاعوا الوصول إلى وظيفة ذات احترام في بنية الدولة. كل هؤلاء يمثلون الطبقات المُحترمة -في أيّ مجتمع طبقيّ- بالإضافة إلى رجال الدين. ثم تأتي البقيَّة وهم الشعب كلَّه الذين يمثلون -في الغالب- نسبة تتراوح بين تسعين إلى خمسة وتسعين بالمائة من مجموع العائشين على أرض المجتمع الطبقيّ.

الفيلم فيلم شخصيَّة يتمحور حولها؛ وفيلمنا يتناول شخصيَّة معقدة داخليًّا بشدَّة. وتعقيدها قد نراه في كل حين بيننا في عصرنا وكل عصر، بل قد نراه في المرآة إنْ نظرنا إليها مع مراعاة الفروق بين الرجل والمرأة والاتفاق فقط يكون في الحالة نفسها. شخصيتنا هي “ايما” التي يتنازع فيها العديد من العوامل؛ إنَّها امرأة، شابَّة في ريعان شبابها، من أصل نبيل وهذا أمر هامّ غاية الأهميَّة في ذلك الوقت؛ حيث على أساسه تتحدد الأمور جميعًا، فلو كانت المرأة ليست نبيلة فالزواج لديها أمل يُرتجى، ولو كانت المرأة نبيلة فالزواج منها أمل يُرتجى.. كما أنَّ كونها نبيلةً يُحدِّد هؤلاء الذين سيهتمُّون بالزواج منها، بل يحدُّه حدًّا لا رجعة فيه؛ لأنَّ النبيلة لا يمكن أن تتزوج من رجل غير نبيل. أمَّا غير ذات النَّبالة فلها حريَّة أكبر؛ الأصل أن تتزوج الرجل غير ذي النَّبالة، لكنْ قد يُسعدها الحظُّ فتتزوج من رجل ذي نبالة.

كما أنَّ كون “ايما” نبيلةً مع وجود أبيها الغنيّ يُحدِّد حياتها أكثر فأكثر؛ فمن ناحية لمْ تعد هي مهتمة بأمر الزواج الذي هو في كل العصور وسيلة من وسائل الترقِّي الاجتماعيّ والماديّ، أكثر منه وسيلة للراحة النفسيَّة والسكينة الداخليَّة. لذلك “ايما” لا تهتمُّ لأمر الزواج من أيّ رجل؛ وهذا ما تريد التصريح به كلَّما واتتها الفرصة. أيْ أنَّها مُكتفية ذاتيًّا هذا ما توصلت إليه “ايما” في قرارة نفسها، والذي سجَّلتْه في ذاكرة مَن حولها أنَّها في غير حالة احتياج للآخر.

هذا جانب من المعركة التي تدور في نفسها؛ أمَّا الجانب الآخر فهو الجانب الذي يدلُّ على أنَّ “ايما” في حال احتياج شديد لكلّ الأشياء التي تتبرَّأ منها. إنَّها امرأة وككل امرأة تحتاج إلى الاهتمام، إلى الدِّفء، إلى الجنس الآخر الذي هو فطرة البشريَّة، كما أنَّ العوامل نفسها التي تجعل منها في غير احتياج هي العوامل نفسها التي تزيد من حاجتها. فرفعة المنشأ والأصل يجعلها في احتياج إلى التأكيد والإثبات من الآخرين على هذه الرفعة والمكانة؛ إنَّها تحتاج إلى أنْ تكون دومًا على المسرح، وتحت أضوائه، تحتاج أنْ تكون صاحبة اللقطة في الصورة الكبيرة لمُحيطها، تحتاج أن تكون مثل أيّ نبات تسطع عليه الشمس يمتصَّ من ضوئها حياته ووجوده؛ ولِمَ لا وهي -لا غيرها- نبيل المنشأ؟! وهذا يُسبب لها إشكالاً كبيرًا إنْ تناقصتْ عملية التغذيَّة الضوئيَّة التي تتمثل في تسليط الأضواء عليها. وكما كل نبات لا يستطيع أن يتفاعل في عمليَّة التمثيل الضوئيّ هذه يبدأ في تغيير مساره ليرى الضوء من الجديد، ولتستمرّ عمليَّة التمثيل الضوئيّ من جديد.

كما أنَّ كونها ذات غنى وفي غير احتياج للمال يدفعها للمزيد من رغبة الامتلاك؛ لا للمال لأنَّها تملكه، بل لما يستجلبه المال من ظهور على الآخرين، واعتلاء للهامات، وإحساس عميق بالتفوق. ولهذا تجد “ايما” نفسها منساقة حول علاقات صديقاتها الأقلّ حظًّا من حيث المال، بل المُعدمات على وجه التعبير الدقيق. وترى نفسها وهي تندفع وراء فتاة بسيطة، بل بلهاء مثل “هارييت سميث” كلَّما أبدى شاب اهتمامًا بها، أو فعل معها ما يقتضيه عُرف المجتمع لا أكثر. ترى نفسها تندفع نحو تحليل هذا الفعل البسيط، وترى أن هذا الفعل التافه أو الاعتياديّ يسبب لها حرجًا نفسيًّا، أو يطرح تساؤلاً بداخلها: لماذا لمْ يُفعل هذا الأمر معي؟! أو كيف يبدي أحدٌ اهتمامًا بفتاة أخرى وأنا موجودة؟!

كما أنَّ كونها من الطبقة النبيلة في غير احتياج لعمل أو لمكانة يترك لها مساحة وفُسحة من الوقت فارغة والتي لا تجد فيها إلا أن تتلاعب بالآخرين والأخريات، وتجد أيضًا فسحة للعوامل المتشابكة كي تلتهمها التهامًا، وتُوجِّه كل أفعالها كأنَّها لعبة العرائس المتحركة. نراها تندفع في وقت لتُساعد الفتاة المسكينة لتُوفَّق في حياتها وعلاقاتها؛ حتى إذا رأتْ أدنى بشائر التوفيق لهذا السعي اندفعت بالقوة نفسها لتُحبط ما كانت تفعله من قبل، ولتأتي على بنيانها تهدمه من دون تردد، بل بكل خبث ودناءة نفس. ولو توقَّفتْ للحظة واحدة لتراجع نفسها وتتساءل عمَّا تفعل لوجدت نفسها تنكر عليها كل ما تندفع إليه.

ولعلّ العوامل النفسيَّة تتعمَّق بوجود مُنافسات هنّ من الطبقة نفسها، ومن درجة الغنى نفسه، ويمتلكن قدرًا من الجمال أيضًا مثل الآنسة “جين فرفاكس” التي تناظر “ايما” في كل العوامل تقريبًا. ونرى جميعًا كيف تنفث “ايما” اهتمام الآخرين بها، وكيف تتعجب من أنّ أيّ فعل لها تتناقله الأخبارُ وكأنَّه أمر يستحقّ الاهتمام من البدء نراها كيف تحارب لتجذب اهتمام أيّ شابّ يبدي اهتمامًا بالمُنافِسة لها حتى إنْ كانت غير راغبة فيه. بل نراها تحاول جذب اهتمام مَنْ يحاول الاهتمام بصديقتها المُعدمة من طرفٍ خفيٍّ حتى إذا تركها وانصرف باهتمامه إلى “ايما” انصرفتْ عنه هي بعد إعلان انتصارها.

وفي الإجمال نرى نفسًا بشريَّة تدفعها العوامل المُتصارعة بداخلها -والتي ظنَّتْ أنها عوامل نصرها- إلى هزيمة نفسيَّة ساحقة، وإلى تشتُّت بالغ، نرى نفسًا تتحوَّل ذاتيًّا من خيريَّتها إلى شريَّتها لنعرف كيف يتسرَّب الشرّ إلى نفوسنا من حيث لا ندري، وكيف هو ممكن أن نتبادل الأماكن من حيث لا ندري، وكيف هي النفس البشريَّة مُعقدةً كفايةً بما يجعلنا نحترمها ونتفهَّم تعقيدها.

نعود بعد هذه الجولة في الشخصيَّة إلى عنصر بالغ الأهميَّة في جذب اهتمام المشاهد هو الإمتاع البصريّ الذي امتدّ منذ لحظات الفيلم الأولى إلى شارة النهاية. ويا لها من ألوان رائعة هي التي عُولج بها الفيلم. ويا لها من أماكن خلَّابة تلك التي دارت فيها الأحداث! ويا له من أثاث مُختار بعناية الذي نراه في كل مشهد من مشاهد الفيلم! ويا لها من أزياء رائعة وبالغة التميُّز التي تصاحب شخصياتنا طوال الأحداث! .. مجموع السابق كله صَنَعَ وليمة ممتدة لكل عين كي تحصل على متعتها العظمى، حتى من الممكن أن تشعر بالسعادة والبهجة حتى دون التفات لأيّ حدث يدور أمامك.

المخرج الذي اعتاد الأفلام الوثائقية والقصيرة لمْ يقصِّر في شيء من عناصر عمله التي تطلَّبها صُنع دارما كهذه. ولا يخفى التأثر بالفيلم الرائع “المُفضَّلَة” The Favourite الذي تمّ إنتاجه في العام 2018 حيث اعتمد الكثير من روح هذا الفيلم في تنفيذ عناصر كثيرة؛ منها اختيار المواقع والأزياء وفلسفة الألوان. رغم أنَّه لمْ يتَّبعه في فلسفة التصوير التي تفرَّد بها فيلم “المفضلة”. كما أنَّ سيطرته على فريق التمثيل الكبير كانت واضحة كل الوضوح؛ وأدَّتْ إلى نتائج مُبهرة على مُجمل العمل. ولا شكَّ أنَّنا -نحن المشاهدين- نحتاج من وقت لآخر أن نطالع مثل هذه الأعمال التي تمتاز بالتنوع البصريّ المُبهر لتضيف إلينا عنصرًا نفتقده في بقية الأفلام، ولتجدد لنا حاسَّة الجمال التي قد تتشوَّه بفعل أعمال أخرى.

Visited 142 times, 1 visit(s) today