فيلم “المَلِك” عودة قويَّة إلى التاريخ

فيلم الملك” The King فيلم يستحق المشاهدة، يستحق كل دقيقة من دقائق عرضه المائة والأربعون؛ بما فيها دقائق شريط النهاية التي نطالع فيها أسماء مَن صنعوا هذا العمل ممزوجًا بقطع موسيقيَّة خلابة. ذلك لأنه فيلم يقدم الكثير من الأمور في طياته: أجواء تاريخيَّة، أفكار عميقة، دراما نفسيَّة قويَّة، فنيَّات كثيرة على صعيدَيْ الدراما والإخراج.

مخرج الفيلم هو ديفيد ميشود، وهو المؤلف بالاشتراك مع أحد ممثلي الفيلم جويل إيدجرتون، ومن تمثيل مجموعة من الشباب مثل تيموثي شالامايت في دور الملك هنري، توم كارني في دور بروس هوتسبر، ومن مجموعة من الممثلين الأكبر سنًّا مثل: بن مندلسون في دور الأب الملك هنري الرابع. وشين هاريس في الدور “كبير القُضاة”. وغيرهم الكثير.

يتناول الفيلم قصة حقيقيَّة هي قصة تولِّي ملك إنجلترا “هنري الخامس” الحُكم، وفترة مُلكه الأولى. وتدور الأحداث في أوائل القرن الخامس عشر الميلاديّ؛ وهناك نجد الأب “هنري الرابع” الذي يحتضر، وهو يغرق البلاد في حروب طاحنة، وديون لا حصر لها. وهناك نجد “بروس هوتسبر” الشاب الصغير الذي يعترض على الملك وسياساته، ويعلن حربًا ضده والشاب الصغير “هال” الذي سيصبح -فيما بعد- “هنري الخامس” يغرق في بحر من الملذات الدنيويَّة مع صديقه “جون فلستاف”، غير عابئٍ بأنه مطالب أن يكون وريث العرش عمَّا قريب. فقد كان هذا الشاب الصغير معارضًا لأبيه أشدّ المعارضة، بل كان مُحبًّا للسلام كارهًا للحرب. يمقت أفعاله، ويحمِّله وزر ما وقع على مملكتهم من السوء الشديد.

وفي غمرة ملذاته يأتيه النبأ بأنّ أباه يطلبه في مقر ملكه. ويذهب ليجده مريضًا على كرسيّ الملك، وبين الحاشية إذ به يقلِّد أخاه الأصغر وليس “هال” مسئوليَّة الخروج لقتال “بروس هوتسبر”؛ مما يمهد بسحب ولاية العهد منه. ثم يفاجأ هذا الأخ في ميدان القتال بأخيه “هال”. وينجح “هال” في قتل “بروس” في مقاتلة حرَّة؛ ليجنب أخاه والجيشين ويلات الحرب. فيزيد هذا من ظهوره، ويزيد من رغبة أخيه في الانتصار عليه؛ فيقرر استمرار الحرب ويُقتل. ثم سرعان ما يموت الأب. فلا يبقى إلا “هال” ليحل محل أبيه؛ ويصير “هنري الخامس” ملك “إنجلترا” الجديد. وفي ليلة توليه تبدأ المتاعب؛ فهناك “فرنسا” وملكها المتربص به، وهناك رجال البلاط الذين يتأرجحون بين رؤيته ضعيفًا ومجنونًا، وهناك الكنيسة التي تمارس الضغوط الشديدة عليه، وهناك صراع داخليّ عميق في نفس “هنري”، وأمواج تتلاطم في داخله. وباجتماع هذه العناصر يقرر “هنري” مدفوعًا إلى خوض حرب على “فرنسا” تحت قيادته. فما حقيقة هذه الحرب؟ وهل سيخرج منها منتصرًا حقًّا؟ وما حقيقة الانتصار؟ هذا ما يعرضه علينا الفيلم.

تدور أجواء الفيلم في ظروف تاريخيَّة حقيقيَّة. لا يعني هذا أن الفيلم ملتزم برواية التاريخ كليَّةً، بل يعني أن الخطوط العامَّة فيه حقيقيَّة ومعبرة عن الحقبة التاريخيَّة. ولا شكَّ أن مَن قرأ مسرحيات الشاعر الكبير “شيكسبير” سيجد كثيرًا من ملامح القصة، وملامح شخوصها فيها. خاصةً مسرحيَّة “هنري الرابع” -وهي مسرحيَّة من جزئَيْن- خصصت مساحة وافرة للشاب “هنري الخامس”، وصديقه العابث اللاهي “فولستاف” الذي امتاز فيها بمهارات كلاميَّة ضخمة، على عادة “شيكسبير” في صنع النموذج اللاهي في كل المسرحيات المأساويَّة.

ولكنّ أبرز ما تدور أحداث الفيلم في خلفياته التاريخيَّة حدثان:

الأول: هو الصورة العامة لأوروبا أثناء القرن الخامس عشر. ومنها الحروب التي دارت بين فرنسا وإنجلترا. حيث دامت الحروب بينهما طويلاً، تحاول كل دولة إيجاد حكم ذاتيّ لها من بعد أن كانتا دولةً واحدة يحكمها فرد واحد. وكل من الدولتين ينتمي لعِرق مختلف. فـ”فرنسا” تنتمي للأصل اللاتينيّ، و”إنجلترا” تنتمي للأصل الجِرمانيّ. وقد عُرفت حروب تلك الحقبة بين الدولتَين بـ “حروب المائة عام”. حتى بعد انقضاء تلك الحروب ظلَّتْ علاقة التناحر بين الدولتين.

الثاني: هو التحكم الضخم للكنيسة الكاثوليكيَّة في القارة الأوربيَّة في تلك العصور. ويكفي أن نعلم أن الكنيسة كانت تطبق ما يسمى بـ “الحُكم الدينيّ” الذي فيه “البابا” هو الحاكم الأعظم، أو الحاكم فوق الحكَّام. وفيه كانت تمتلك الكنيسة ثلاثة أخماس أوربا كلها. وكانت تبيع للمسيحيين غفران ذنوبهم بصكوك يشترونها شراء من الكنيسة. وكانت تتلاعب بالجيوش حسب إرادتها كما أراد أن يسلط الفيلم الضوء على هذا الأمر بوضوح وتركيز.

استطاع الفيلم أن يشير إلى أشياء تاريخيَّة هامَّة منها:

1-طريقة إنهاء الحروب: حيث يظنّ قارئ اليوم أن الحرب كانت تدار بطريقة عراك الشوارع. يتقاتل فيها الجيشان حتى يفنيا، أو يفنى أحدهما ويبقى الآخر. وهذا أبعد ما يكون عما كان يحدث. صحيح أن هذا كان يحدث، لكن ليس في غالب الحروب. فهناك طرق كثيرة لإنهاء الحروب. منها الإنهاء صلحًا أو تسليمًا، ومنها مصاهرة (زواج) تقع بين رؤساء طرفَيْ الحرب، ومنها تلك الطريقة التي عرضت في الفيلم وهي أن يتقدَّم كل طرف بفارس، ويتقاتل الفارسان؛ حتى إذا هزم أحدُهما الآخر -ليس بالضرورة أن يقتله- فاز طرف الفائز في النزال، وحقق ما يريد. دون إراقة نقطة دم واحدة.

2- بداية ظهور اللغات الأوربيَّة: حيث اللغات الأوربيَّة التي يطالعها الآن القارئ ليست كاللغة العربيَّة مثلاً -التي تمتدّ إلى أكثر من ألف وستمائة عام على الأقل- بل هي حديثة. انشقّ بعضها عن اللغة اللاتينيَّة، وانشقّ الآخر عن اللغات ذات الأصل الجرمانيّ. ثم ظهرت ما تسمى بـ الإيطاليَّة، والفرنسيَّة، والإنجليزيَّة…. وفي الفيلم لمْ يعرض لها وحسب. بل عرض أيضًا للصراع بين تلك اللغات، والتنافس الموجود بين اللغتَيْن الفرنسيَّة والإنجليزيَّة، وسخرية أصحاب كلٍّ منهما من الأخرى. علمًا بأنّ هذا الأمر موجود إلى يومنا هذا، بل بين اللغة الإنجليزيَّة الأصيلة، وبين اللهجة الإنجليزيَّة الأمريكيَّة أيضًا. ويكاد يكون أشد نكايةً وقبحًا في التنافس

وقد عرض الفيلم أيضًا لأفكار هامَّة وعميقة. وكثير منها يقف على طرفَيْ النقيضين. ليس لأن الفيلم يعاني من اضطراب، بل لثراء أفكار الشخصيات فيه، وهنا كل شخصيَّة تقدم فكرًا مغايرًا، أو فلنقل كل شخصيَّة تقدم الفكرة من وجهة مغايرة. ومنها مفهوم “السلام”. فليس السلام ضدًّا للحرب يتنافر تنافرًا تامًّا معها، بل قد تكون الحرب سُلمًا للسلام، لا يأتي السلام إلا بها. كما يعرض لفكرة عبثية الانتصار. أو أن وقوف الإنسان موقف الانتصار هو موقف عبثيّ، حينما يصل إليه الإنسان يرى أنْ لمْ يكن هناك داعٍ لكل هذا الضجيج.

وعرض فكرة الحُكم الملكيّ نفسها، ومدى ما فيها من قُبح. ولعل الأمر يتضح إنْ عُرف أنّ الحكم الملكيّ في “أوربا” كان وراثيًّا. ليس هذا وحسب؛ بل إنَّه يعتمد على نظريَّة هي “الحق الإلهيّ للملكيَّة” حيث الملوك يحكمون بمقتضى حقهم الملكيّ الذي منحهم إياه الإله. هذه النظريَّة كانت سائدة في “أوربا” القديمة، وفي بلاد “فارس” (إيران).

ملاحظات على الفيلم

1- القصة ظلَّت مرتبطة بشخص البطل “هنري الخامس”. فهي دراما ذاتيَّة كرَّستْ كل أدواتها لتصب أفكارها وعواطفها على مرآة واحدة. هي نفسيَّة وأفعال “هنري الخامس” نفسه. وهذا ما يدعو أيّ تصنيف نقديّ محايد يعد الفيلم دراما قبل أن يكون فيلم تاريخ؛ رغم كل ما عرض فيه من تاريخ.

2- اختيار المؤلفَين لجزء معين من تاريخ شخصية البطل -فترة توليه وحكمه الأول-، بدلاً عن استعراض الحياة كلها. مما ساعد -شديد المساعدة- على التركيز في أفكار الفيلم وأجوائه.

3- عبقريَّة بعض الممثلين الذين أشعلوا هذه الأفكار. مثل الأداء بالغ الجودة من شخصيَّة “كبير القضاة”، وبالقطع هنا لا يمكن أن تنجح أي جهود تمثيليَّة إلا بنجاح الشخصيَّة التي تتصارع فيها كل العوامل. وقد استطاع أن يقوم بهذا الممثل الشاب تيموثي شالامايت في دور “هنري الخامس”. ويبدو أن الصناعة السينمائيَّة قد ضمنت وجود أحد المواهب المُبشرة بهذا الفيلم. والغريب أن هذا الدور المعقد نفسيًّا ودراميًّا قام به هذا الممثل الشابّ ذو الأربعة والعشرين ربيعًا.

4- استطاع المخرج نقل أجواء الفترة، وكذلك استطاع إخراج الكثير من المشاهد التي تمتاز بفنيَّة عالية، وجماليَّة في الرؤية، ورمزيَّة في التعبير.

5- ولم تخرج الموسيقى عن الطور الملحميّ. وهذا أمر متوقع في مثل هذه النوعيَّة، وفي مثل هذا التخطيط للفيلم. وقد كانت من عناصر النجاح مع العلم أنها كانت مصاحبةً لأسماعنا طوال الفيلم إلا قليلاً.

Visited 81 times, 1 visit(s) today