فيلم “الملف 137”.. دراما تحقيق قوية في مسابقة مهرجان كان
أمير العمري
ينتمي فيلم “الملف 137” Dossier 137 للمخرج الألماني الأصل دومنيك مول، الذي يعمل في فرنسا، (وكان أحد أفلام المسابقة الرسمية في الدورة 78 لمهرجان كان السينمائي) إلى أفلام التحقيق التي تمزج بين الأسلوبين، التسجيلي والروائي- الخيالي، فهو يستند إلى وقائع حقيقية، ويلجأ مخرجه إلى الاستعانة ببعض الوثائق المصورة وقت وقوع الأحداث، كما يستخدم لقطات تبدو مصورة من كاميرات المراقبة في الشوارع، ومما التقط بجهاز التليفون المحمول، بحيث يصبح الفيلم أقرب إلى الدوكيو- دراما أو الدراما التسجيلية، كما يضفي الواقعية الخشنة على مادته، إلا أن هذا الانطباع الأولي سرعان ما يتراجع لنكتشف أن الفيلم هو في الحقيقة، عمل درامي متقن، قوي ومشدود جيدا، يسير طبقا لمنهج أفلام التحقيق البوليسية، التي تكشف عادة عن طبقة بعد أخرى، من الوقائع والمعلومات التي تدفع الحبكة إلى الأمام.
تدور الأحداث على خلفية ما عرف بتظاهرات “السترات الصفراء” في باريس عام 2018، ففي الأول من ديسمبر من ذلك العام، جاء شاب مع عائلته من مدينة “سان ديزييه” الواقعة على مسافة 194 كم شرقي باريس، إلى العاصمة، للمشاركة مع 300 ألف شخص كانوا يتظاهرون احتجاجا على زيادة الضريبة المفروضة على الوقود.
هذا الشاب ويدعى “جيوم”، كان يفر مع صديقه “ريمي” من شرطة مكافحة الشغب التي تصدت بكل عنف وقسوة للمتظاهرين، فأطلق شرطي رصاصة أصابته في رأسه إصابة حطمت جمجمته، وأدت إلى تلف دائم في المخ، وهو يرقد الآن في المستشفى دون أمل في شفائه. أما صديقه “ريمي” فقد حكم عليه بالسجن لثالثة أشهر بتهمة الاعتداء على الشرطة، وفقد بالتالي وظيفته.
هذه الحالة “الجنائية” هي مدخلنا إلى الفيلم. لكن الفيلم ليس عن مأزق جيوم وريمي، بل عن مأزق من نوع آخر، مأزق وجودي يتعلق بالسيدة “ستيفاني برتران”، مفتشة الشرطة التي ينحصر عملها في التحقيق في تجاوزات رجال الشرطة. والفيلم في معظمه مصور من وجهة نظر ستيفاني، التي لن تهدأ ولن تكل أو تمل، من أجل الوصول إلى الحقيقة، وهو ما يعني أنها ستخضع للتحقيق مع عدد كبير من ضباط شرطة مكافحة الشغب، الأمر الذي يؤلب عليها الجميع: رؤسائها الكبار، زملاؤها، زوجها السابق وصديقته أو زوجته الجديدة، والاثنان من “أهل المهنة” أيضا، فالجميع يرى أن “ستيفاني” تسيء سواء من حيث تدري أو لا تدري، إلى سمعة جهاز الشرطة، خصوصا عندما تتمادى وتأمر باحتجاز أحد الضباط بعد أن يثبت لها أنه متورط في “الجريمة”، بينما يتضرع هو إليها بالقول إنه ظل طيلة 15 عاما ضابطا مستقيما لم يرتكب هفوة واحدة، والآن وبعد أن فقد أعصابه للمرة الأولى تحت الضغوط الشديدة في أرض الواقع وألقى بحجر، أصبح مهددا بفقدان العمل الوحيد الذي يجيده!

“ستيفاني” لا تعاني فقط من نبذ زملائها في جهاز الشرطة، بل تصبح أيضا محل رفض من جانب ابنها المراهق “باتريك” الذي يبدي تأففه وازدرائه لعملها في الشرطة بل ويتساءل: لماذا يكره الجميع رجال الشرطة؟ ويتهمها بالانغلاق في حياتها بحيث أصبح كل أصدقائها من رجال الشرطة فقط، وعندما تزور والديها في سان ديزييه نفسها، تشعر بأن أمها لا ترغب في إبداء أي اهتمام بمال تعانيه، كما يتخذ والدها موقف سلبيا وإن كان ناعما. لقد أصبحت ستيفاني تشعر بوحدة قاتلة.
نحن إذن أمام أزمة وجودية، فهي لا تستطيع التراجع، كما أنها مع المضي قدما في التحقيق والبحث والاستجواب، تكتسب مزيدا من الأعداء والمتشككين، ومن بين هؤلاء، وربما أيضا، أهمهم، امرأة تدعى “جويل” هي أم الفتى “جيوم” ضحية عنف الشرطة، فهي تواجه ستيفاني وتشكك في استقامتها وفي قدرتها على المضي في التحقيق بشكل مستقل طالما أنها تنتمي إلى نفس الوسط.
ولكن ستيفاني بحاستها الشرطية، تكتشف وجود خادمة تعمل في فندق قريب من موقع الحادث، تستجوبها فتعرف أنها لم تخبرها سوى بنصف الحقيقة فقط، نتيجة خوفها، فتتعقبها في أنفاق المترو، وإلى بيتها ثم تواجهها وتتمكن من الحصول منها على فيديو صورته بكاميرا الهاتف المحمول، يصبح هو الدليل الدامغ على الفعل الإجرامي من جانب أحد ضباط الشرطة.
هناك عنصر يتعلق بالجانب الأخلاقي، وآخر بالجانب السياسي، لكن السياسة تتسلل على نحو خافت تحت جلد الدراما التي تدور حول الاختيار الفردي الإنساني وتداعياته، وما ينتج حتى عن اكتشاف الدفاع عن الشرطي المتهم، أن ستيفاني تنتمي إلى نفس المدينة التي جاء منها جيوم المصاب، بل وأن هناك صلة ما، في الماضي، كانت تجمع بين عائلتها وعائلة جيوم.
من دون أدنى شك، يكتسب هذا الفيلم قوة دفعه، ليس فقط من خلال السيناريو الجيد، بل ومن أداء الممثلة الكبيرة الراسخة “ليا راكر”، التي تنجح في التماثل التام مع شخصية محققة الشرطة “ستيفاني”، فهي تعبر بالصمت وبالنظرات التي تعكس معاناتها الشخصية وألمها الخاص خصوصا في المشاهد التي تجمع بينها وبين ابنها في الفيلم، كما تعبر بالحوار المكتوب ببراعة، والذي يعد جزءا أساسيا في فيلم من أفلام “التحقيق”.

يتميز السيناريو الذي كتبه المخرج دومنيك مول مع جيل مورشان، بالكثير من المواقف الكاشفة، التي تثري شخصية “ستيفاني”، عن طريق تصويرها كأم وحيدة، تتولى تربية ابنها بمفردها بعد أن هجرها زوجها وتزوج غيرها، وكيف أنها ترتبط أيضا بعائلتها، ثم نراها في أحد المشاهد الطريفة، تلتقط قطة قذرة هائمة على وجهها، تقوم بتنظيفها وغسل جسدها في الحوض مستعينة بشريط فيديو إرشادي على موقع يوتيوب، وهو مشهد يبرز الحس الإنساني لديها، كما أن تعاطفها الواضح مع ضحية عنف الشرطة- لا ينبع من رغبة في التكفير أو الانتقام الشخصي أو تصفية الحسابات، بل من ميل طبيعي للعثور على الحقيقة، وإحقاق الحق، والتمسك بالنزاهة الشخصية.
يذكرنا “الملف 137” بفيلم فرنسي آخر هو فيلم “أشقاؤنا” Nos frangins (2022) الذي أخرجه المخرج الجزائري الأصل رشيد بوشارب، فهناك تشابهات كثيرة بين العملين سواء من ناحية الموضوع أو الأسلوب، فالفيلم الأول كان يدور على خلفية التظاهرات العنيفة التي اجتاحت فرنسا في 1986 احتجاجا على ما عرف بـ”قانون دوفاكيه” (نسبة إلى اسم وزير التعليم الذي وضعه) وأرادت حكومة الرئيس “جاك شيراك” تطبيقه على الجامعات الفرنسية، ويشمل فرض رسوم يدفعها الطلاب مقابل الدراسة الجامعية، والتشدد في اختيار الطلاب الذين تقبلهم الجامعات، والتشدد في اختبارات القبول، بالإضافة إلى تشديد قوانين الهجرة. وقد استقر في ضمير الطلاب أنه قانون طبقي يتيح الفرصة أمام أبناء الطبقة الثرية لدخول الجامعات، ويحرم أبناء الطبقات الدنيا والمتوسطة.
وفي “الملف 137” (وهو رقم ملف التحقيق الذي تتولاه ستيفاني)، فالتداعيات أتت على خلفية تظاهرات السترات الصفراء في 2018 احتجاجا على رغبة الحكومة في فرض ضرائب تمس بقسوة الطبقة العاملة والطبقات الفقيرة خصوصا في المناطق الريفية والمدن الهامشية البعيدة عن العاصمة.

في فيلم “أشقاؤنا” ألقى رجال الفرقة الخاصة في الشرطة الفرنسية المكونة من راكبي الدراجات النارية، القبض على شاب جزائري الأصل وقاموا بتعذيبه حتى الموت، وفي اليوم التالي أطلقوا الرصاص فقتلوا شابا آخر من أصل جزائري.
في كلا الفيلمين يتبنى المخرج موقفا واضحا ضد سياسة الشرطة. وفي كلا الفيلمين يستخدم المخرج، اللقطات التسجيلية ويمزجها بالمشاهد واللقطات المصورة، كما يمزج بين شخصيات حقيقية وشخصيات خيالية أو متخيلة، تدعم الفكرة وتثري الدراما. كما يستند الفيلمان على لقطات من كاميرات المراقبة.
في “أشقاؤنا” هناك ضابط مخلص يطيع رؤساءه وينفذ التعليمات، لكنه غير راض عن الممارسات التي تتناقض مع ما تعلمه من ضرورة الخضوع لحكم القانون. لذلك فهو يرفض التستر على موت الشاب الذي تعرض للتعذيب، ويبلغ أسرته بموته، ثم يتصاعد تدريجيا شعوره بالرفض، أي أنه “يخون زملائه”، وهو نفس ما تفعله “ستيفاني” عندما “تخون زملائها”.
الشخصيتان مصنوعتان بالطبع لخدمة الدراما، وليس معروفا إن كان هناك مثيلا لهما في الواقع. لكنها ضرورة درامية لتوصيل رسالة الفيلم.
وفكرة تحدي مؤسسة السلطة من داخلها ثم فشل التمرد الفردي أمام قوة “المؤسسة” ثم مواجهة تبعات “خيانة أهل الدار”، كانت قد ظهرت في الأصل، في الأفلام السياسية الإيطالية في السبعينيات، وخصوصا أفلام داميانو دامياني مثل “انتهى التحقيق المبدئي.. إنس الموضوع”، وفيه، يتم التنكيل بالمحقق الشاب الذي مضى بكل قوة من أجل كشف الحقيقة، وسحبت منه القضية. وهي نفس نهاية الفيلم المصري “زائر الفجر” (1973) لممدوح شكري.
