فيلم الافتتاح في مهرجان لندن: “بليتز” والنجاة في زمن الحرب

لا أتفق مع الذين يرون أن منصات البث الرقمي قد أضرت بالسينما. بل على العكس، أرى أنه لولا دعم هذه المنصات واستعدادها لتمويل إنتاج أعمال شديدة الطموح، لا تقدر على ميزانياتها الهائلة شركات هوليوود التقليدية وغيرها، لما شاهدنا أفلاما “فنية” كبيرة من نوعية “روما” و”الأيرلندي”، “البابوان”، “قوة الكلب”، “يد الله”، “كل شيء هاديء في الجبهة الغربية” من نتفليكس، و”تراجيديا ماكبث”، و”قتلة زهرة القمر”، “كودا”، و”نابليون” وغيرها من منصة “أبل”. وكلها أفلام لكبار المخرجين.

وأحدث هذه الأفلام هو فيلم “بليتز” Blitz (إنتاج أبل) الذي افتتحت به الدورة الـ68 لمهرجان لندن السينمائي الدولي في عرضه العالمي الأول. والفيلم للمخرج البريطاني- الأفريقي الأصل “ستيف ماكوين” صاحب التحفة السينمائية “12 عاما في العبودية” (2013) الذي حقق نجاحا كبيرا وفاز بعدة جوائز دولية.

أما “بليتز” فهو اختصار للكلمة الألمانية بليتزكريج” Blitzkrieg أي “الحرب الخاطفة” التي أطلقها الألمان على غزواتهم الناجحة السريعة في أوروبا الغربية خلال الحرب العالمية الثانية. ويتناول “بليتز” تحديدا، حملة القصف الجوي لتدمير المدن البريطانية التي شنها سلاح الطيران الألماني في أواخر عام 1940، وركزت على مدينة لندن بوجه خاص، وسببت الكثير من الدمار، كما تسببت في بروز بعض الظواهر السلبية التي تصل حدا مفزعا كما نرى في هذا الفيلم.

يثبت فيلم “بليتز” أن الفيلم هو أساسا- عملية “خلق” أو بالأحرى، إعادة خلق للواقع، فنحن هنا أمام أدق وأشمل توظيف لجميع عناصر الصورة والصوت، لتحقيق رؤية خاصة لهذا الواقع الجحيمي، نراها معظم الوقت، من وجهة نظر طفل يمر بتجارب عديدة شديدة القسوة في زمن الحرب ويشهد على الكثير من الأحداث والوقائع التي تتعلق مباشرة بحياة الناس في تلك المدينة.

إنه ليس مجرد فيلم آخر ضمن سلسلة أفلام الحرب العالمية الثانية التي ربما تناولت الكثير من الوقائع والأحداث على مختلف الجبهات، لكن هذا العمل الأول يبتعد عن المعارك والبطولات (كما عند كريستوفر نولان في “دنكرك”، وعن  تشرشل ومعركته في “الساعات الحالكة” Darkest Hours لجو رايت، أو كيفية اختراق نظام الشفرة الألمانية كما في “لعبة المحاكاة” لمورتين تيلدم، لكننا أمام رؤية فنان سينما يعبر هنا من خلال بطله- الطفل الملون الذي جاء نتيجة علاقة بين رجل أسود وفتاة إنجليزية بيضاء، عن رؤيته الخاصة كبريطاني ملون.

هناك ثلاث “ثيمات” في هذا الفيلم، تسير تحت جلد الصورة أو تفرض نفسها على أحداثه ومشاهده: أولا موضوع الحرب وكيف واجه الإنجليز فترة القصف الألماني، ثانيا الأطفال وكيف فقدوا البراءة بسبب ما حل بالكثيرين منهم، من أرغموا على الافتراق عن أسرهم مع إرسالهم إلى الريف لإبعادهم عن مخاطر القصف الرهيب، وثالثا العنصرية البريطانية وكيف لعبت دورا في تأجيج المشاعر لدى الصبي الصغير في تلك الفترة، وكيف واجهها هو وغيره.

الفيلم كما يقول مخرجه يستند إلى بعض المواقف والشخصيات الحقيقية، لكن ستيف ماكوين يقوم بالتقاط التفاصيل الصغيرة ويمدها على استقامتها ويقوم بتوظيفها في إطار الصورة البانورامية الشاملة التي يصنعها باستخدام المؤثرات الصوتية والبصرية، والديكورات الهائلة، ومجموعات الممثلين الثانويين الذين لا حصر لهم، وتصوير مشاهد كاملة معظمها تدور في الخارج، في البيئة الطبيعية بعد أن تدخل من جانب خبراء تصميم الإنتاج وتنسيق المناظر، للعودة بها إلى ما كان قائما في الفترة التاريخية التي تدور فيها الأحداث.

قد يؤخذ على الفيلم غياب “الحبكة” بالمفهوم الدرامي التقليدي، فهو يتخذ بناء كلاسيكيا، تقليديا إلى حد كبير، كثيرا ما ينتقل بين الماضي والحاضر على شكل تداعيات تعبر ذاكرة الصبي، بطل الفيلم “جورج” ابن السنوات العشر الذي بقدر ما يبدو صعب المراس، قوي الشكيمة، أو ذاكرة، لكن مع ذلك يبقى الفيلم على يقظة المتفرج ورغبته في المتابعة بسبب براعة الأداء والتصوير.

رغم غياب الحبكة الدرامية، الفيلم مليء بالدراما، ولكن البناء يسير في خط أفقي، من خلال مصاحبة ذلك البطل الصغير في رحلته الشاقة داخل الجحيم، لنرى أنه سيتعلم خلال تلك المغامرة الكثير.

أما ما يعوض غياب الحبكة، فهو ذلك الكشف التدريجي عن جوانب قاتمة تماما من سلوكيات بعض البشر، وجوانب أخرى مضيئة لسلوكيات أخرى، وتضامن مدهش من أجل النجاة. إنه بهذا المعنى أيضا، فيلم عن “النجاة” في زمن الحرب، وعن كيف يكتشف طفل هويته التي كان ينكرها أو يستنكرها.

الفيلم صادم كثيرا من الناحية البصرية. والمشهد الأول هو في حد ذاته أقرب ما يكون بوثيقة تسجيلية مذهلة. إنه يفتتح الفيلم بكتل هائلة من النيران التي تشتعل في بعض المنازل في أحد أحياء لنددن الشعبية (سنعرف بعد قليل أنه حي “ستيبني” في الإيست إند)، ورجال الإطفاء يبذلون جهودا جبارة لإطفاء التيران بينما تتساقط القنابل من السماء، وتسيطر حالة من الفزع والرعب عل الجميع، ثم في مشهد تال تهرع كتل الناس نحو مدخل محطة قطارات الأنفاق في ستيبني، يريدون أن يحتموا بها لكن الشرطي يتصدر لهم ويمنعهم ويصر على المنع بينما تتدافع لكتل البشرية التي تبحث عن النجاة إلى أن يرغمون الشرطة على فتح بوابة المحطة.

من تلك اللحظة ستصبح الحياة تحت الأرض، تيمة أساسية من تيمات الفيلم، كيف يتعايش الناس في الأسفل، وما نوعية هؤلاء البشر. وكيف يتطلع جورج الصغير إليهم، يجد نفسه في البداية غريبا عنهم ثم يندمج معهم تدريجيا. فلون البشرة يظل باستمرار موضوعا مطروحا في الفيلم. وبهذا المعنى يصبح هذا أكثر أفلام مخرجه تعبيرا عن مشاعره الشخصية.

نحن أمام أم شابة هي “ريتا” (تقوم بالدور سواريس رونان) عاملة في مصنع للذخيرة مع مجموعة كبيرة من الفتيات اللاتي التحقن بهذا العمل خدمة للمجهود الحربي. لرئيسها في العمل رجل قصير القامة، متزمت، متسلط يعكس العقلية الإنجليزية البيروقراطية التقليدية، فهو يطارده العاملات يستحثهن عن مواصلة العمل، ويتعرض خلال ذلك للسخرية.

تقيم بي بي سي حفلا داخل المصنع تنقله الإذاعة، تغني ريتا أغنية تبرز مواهبها الدفينة. وسنعرف أنها أيضا تجيد الرقص، كما أن والدها الذي تعيش معه “يجيد العزف على البيانو والغناء. فهي إذن تنتمي لعائلة فنية. أما جورج فقد أنجبته من علاقة مع شاب أسود “ماركوس”، الذي التقت به في أحد مراقص موسيقى الجاز، ثم تعرض كما نرى في مشهد استعادة للماضي، للعنف العنصري من جانب مجموعة من الرجال الذين يصفونه بالقرد، ثم تتدخل الشرطة وتقبض عليه وتأخذه بعيدا ولا نراه قط بعد ذلك.

أصبح جورج يعيش مع أمه البيضاء بلون الثلج، والشقراء شقرة صارخة. ولكنها تتمتع بجسد ممشوق، تغشى المراقص مع زميلاتها، وتستمر هذه المراقص والحانات في العمل، شأن الكثير من نواحي الحياة الأخرى، ويركز الفيلم كثيرا عل دور الراقصين والموسيقيين السود من أصول إفريقية في الاستمرار في دفع الحياة داخل تلك الأماكن.

لكن المطلوب الآن إرسال جورج إلى الريف مع ما يقرب من نصف مليون طفل تم إبعادهم عن أسرهم لإنقاذهم من الموت. فهم أبناء المستقبل الذين تحرص الدولة على تأمينهم. وليس مسموحا بأن ترافقه أمه. ولكن جورج غير سعيد بذلك، لذا سينتهر أول فرصة ويقفز فرارا من القطار، ليجد نفسه خارج المدينة، في منطقة ريفية، ويقتضي الأمر الكثير من المغامرات لكي يعود إلى لندن، ليجد نفسه داخل طوفان من المتاعب.

إنها رحلة كابوسية أشبه بالأوديسة، تكشف لنا صورة مرعبة للعيش في زمن الحرب. ولعل من أهم الأجزاء التي يصورها الفيلم، في مأوى يقع تحت الأرض، حيث يكشف عن عنصرية البعض الذين يسدلون ستارا حول مجموعة من ذوي الأصول الأجنبية من الهنود واليهود والسود، كنوع من الفصل العنصري. إلا أن الشرطي الأسود الذي اصطحب جورج ليساعده في العودة إلى أمه، يلقنهم بكل هدوء، درسا في التسامح والتضامن، ويصف ما يفعلونه بما يفعله هتلر.

هناك أيضا تصوير للتناقض الطبقي في مجتمع لندن أثناء الحرب، فبينما يبحث الكثيرون بمشقة عن الطعام، يتناول الأثرياء اشهى أنواع الأطعمة داخل أرقى المنتديات الليلية (كافيه دو باري) وتصدح الموسيقى ويندفع الجميع في الرقص، فجأة تسقط القنابل لكننا سنعود لنرى آثار القصف دمارا شاملا حل بالمكان ومصرع جميع من كانوا في الداخل.

هناك عصابة تختطف جورج وتقوم بتوظيفه بالقوة لحسابها، مهمته أن يسرق لهم المجوهرات الثمينة من داخل المحلات المهدمة، أو ينتشل الخواتم والحلي من بين أيدي وأعناق القتلى ضحايا كافيه دو باري، وتشوب هذه المشاهد بعض المبالغات التي تجعل زعيم العصابة “ألبرت” وأنه كائنات جروتسكية مخيفة تنتمي أكثر إلى عالم ديكنز، لا تتورع عن قطع الأدي وإلقائها على وقع ضحكات هستيرية مشبعة بالجنون، وانتزاع الخواتم من الأصابع بالقوة وبالسكين، مع استخدام عنف أقرب للجنون مع جورج عندما أرد الفرار، لكنه سينجح بطريقة ما في الخروج من هذا الجحيم.

أسلوب ستيف ماكوين، لا يقوم على حبكة متصاعدة، بل على الكشف تدريجيا عن رؤية مخيفة للحرب في طبقات، ومن عيني رحلة جورج في المكان، ليجعلنا نرى كيف أنه كان يكره لونه ويرفض اعتبار أنه أسود، ولكنه سيتعلم من الشرطي الأسود الأفريقي الأصل، كيف يسترجع هويته وأصله، معتزا بذاته، لكنه أيضا مولع بأمه، يريد أن يعود إليها لكي يقول لها إنه يحبها بعد أن رفض الحديث معها وهي تناجيه قبيل رحيله بالقطار وتكرر أنها تحبه وأنها لا تتخلى عنه بل هي فترة غياب مؤقت فقط.

سواريس رونان مع المخرج ستيف ماكوين

الممثلة الأيرلندية، سواريس رونان في دور ريتا، موفقة إلى حد كبير في الدور، رغم أنني لا أجدها كما يجدها كثيرون، جميلة، كما أنها كثيرا ما تكون تبالغ في الأداء، لكن ما يجعلها مقبولة هنا هو ما تتمتع به من حيوية كبيرة في الحركة وخصوصا في مشاهد الرقص في الثلث الأول من الفيلم.

ريتا ستلجأ للحياة مع جماعة من التقدميين في أحد الملاجيء تحت الأرضي، يتزعمهم رجل قصير (قزم) لكنه يتمتع بكاريزما خاصة وجاذبية وبلاغة في الحديث.

ونجح الممثل الصغير “إليوت هيرفرنان” إلى حد كبير في تقمص دور جورج ليظل هو القلب الحقيقي للفيلم، ولاشك انه تلقى تدريبا مكثفا من جانب ستيف ماكوين وفريقه.

إلا أنني أعتبر أن النجم الحقيقي للفيلم هو مدير التصوير الفرنسي العبقري يوريك لو ساو Yorick Le Saux الذي يخلق صورا نابضة، يعرف كيف يتسلل داخل كتل النيران، أو يصور الطوفان المائي المخيف الذي يندفع تحت الأرض داخل محطة قطارات الأنفاق ليغرق عشرات الأشخاص، بينما يسبح الكثيرون ومن بينهم جورح، بحثا عن منفذ للنجاة، أو في الحركة الملتوية المتشككة للكاميرا وهي تنفذ داخل مطبخ كبير ملتو في ملهى كافيه دو باري، على غرار اللقطة- المشاهد الشهير في فيلم سكورسيزي “رفاق طيبون”. هذه اللقطة الممتدة، على الإيقاعات الراقصة للموسيقى التي تأتينا من الداخل، تنذر أيضا بالكارثة، بما سيحدث بعد قليل، فالصورة مهتزة متأرجحة، والمنظور يتداعى ويكاد يشعرك بالدوار.

نحن لسنا أمام فيلم متكامل تماما، وربما كان يمكن أن يعثر مخرجه ومؤلفه على خيط أقوى يجمع بين كل تلك الصور المدهشة بالإضافة الى خيط جورج الباحث عن طريق للعودة إلى البيت، لكنه على الأقل، يسلط ضوءا جديدا على لندن المتعددة الأعراق والثقافات كما لو يصورها أي فيلم سابق من أفلام الحب.

مهرجان لندن السينمائي أفتتح مساء الأربعاء 9 أكتوبر ويستمر حتى 20 من الشهر نفسه.

Visited 18 times, 1 visit(s) today