فيلم “الأبدية ويوم”: رحلة الكلمات التي لم تقل

“ليس لديك شيء لتأسف عليه، تركت كل هذا كمسودة كلمات متناثرة هنا وهناك

فيلم “الأبدية ويوم” (أنتج عام 1997 وفاز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 1998) من إخراج المخرج اليوناني تيودوروس أنجيلوبولوس، هو فيلم عن الكلمات التي لم تُقل، بين الصمت والبوح، والأغاني، والشعر، والموسيقى، والرقصة المتبادلة بين الزمان والمكان، على الشاطئ، الحد الفاصل بين البحر الأبدي والحياة المؤقتة، تحدّث الفيلم بكل هذه اللغات، لكنه لم يقل الكلمة الأخيرة، كقصيدة الشاعر التي لم تكتمل، ربما ما زال شاعرها الذي نسجه خيال بطل الفيلم يشتري المزيد من الكلمات.

لغة الموسيقى
يسمع ألكسندر –بطل الفيلم- موسيقاه المفضلة تنبعث من منزل جاره المجهول، كما اعتاد كل يوم، لكنه لا يحاول التعرف عليه، يقول: “من الأفضل أن لا أقابله”.


في مشهد آخر يحاول أن يشق طريقاً بين نغمات موسيقى الفرح المبهجة في عرس ابن مدبرة منزله، ليسلمها كلبه قبل أن يموت، تتوقف الموسيقى لحظات، ثم تعود بعد أن يمضي لتستمر بهجة العرس في مشهد بين الموت في الخلفية والحياة في واجهة المشهد، تستمر الحياة.

في ذكرياته تصدح موسيقى فلكلور يوناني يرقص عليها أقاربه وزوجته الراحلة، يكون هو بعيداً عن هذا الفرح، باحثاً عن الكلمات، حين تبحث عنه زوجته ليشاركها الرقصة، لكنها في اليوم الأخير، ستمسك بيده وتقول: “هل تريد أن ترقص؟ أنت لا تحب الرقص، لكن اليوم يومي”.

الكلمات التي لم تقل
يقول بطل الفيلم: “الكلمات في العالم لا تكفي لتقول كل شيء”.


حين سألته ابنته: “لماذا لم تكمل كتابة أعمالك الأدبية؟” أجابها: “ربما لأنني لا أجد الكلمات”.


يتذكر عتاب زوجته العاشقة وهي تقول له: “أريد اختطافك بين كتاب وآخر، امنحني يوماً كأنه اليوم الأخير”، فيتركها على الشاطئ، ويفضل صعود الجبل باحثاً عن كلمات جديدة، عندها تنعته بالخائن، وهو لا يعرف أنه حين يعود إليها سيكون الوقت قد تأخر كثيراً، تلك الكلمة التي سيتعلمها في اليوم الأخير: “تأخر الوقت كثيراً”.


لم يخبر الشاعر والكاتب ألكسندر ابنته عن مرضه المميت، ولم يودعها كما يجب أن يفعل وهو يعيش أيامه الأخيرة، كل ما فعله هو أن أعطاها رسائل أمها القديمة، الكلمات المتناثرة التي تقول الكثير.

الكلمات التي لا يسمعها الآخرون
حين بكى الطفل الذي التقاه ألكسندر على صديقه الذي هاجر معه، وتوفي في حادث، أحرق رداءه، وسأله عن المكان الذي سيذهب إليه بعد الموت فأجابه: “هناك، حيث لا يعرف أحد ماذا يوجد، في المكان الذي يشبه البحر الذي لا نهاية له”.


وحين ناداه باسمه، لم يسمعه، كان قد غادر على مركب مجهول إلى الأبدية، بدلاً عن المركب الذي سيعيده إلى بلاده.


يذهب ألكسندر إلى أمه في دار المسنين لوداعهاقبل وفاته بعد أن وصل مرضه إلى مرحلة متقدمة، يحدثها وهي نائمة، لكنها لا تسمع شيئاً “لماذا يا أمي لا شيء يحدث كما نتمنى؟ لماذا يجب أن أتعفن في صمت، ممزقا بين الألم والرغبة؟ لماذا علي أن أقضي حياتي في المنفى؟ لماذا عندما أعود إلى بيتي فقط يمكنني أن أتحدث بلغتي؟ عندما يمكنني أن أجد كلمات مفقودة، أو أستحضر الكلمات المنسية خارج إطار الصمت، لماذا لا يتعلم أحد المحبة؟”.

لغة المكان

1-  المكان الثابت:
يظهر ألكسندر في بداية الفيلم طفلاً يلعب بفرح على الشاطئ، الشاطئ الحد الفاصل في الزمن بين الأبدية واليوم، ثم في نهاية الفيلم يقابل فيه زوجته، ويمر في منتصف الفيلم بمنزل ابنته الضيق الذي لا يتسع حتى لكلبه الأليف.ويظهر بيت ألكسندرالقديم على الشاطئ، تدب فيه الحياة عند ولادة ابنته، ثم يصبح في نهاية الفيلم مجرد جدران صامتة، وأرض ممتلئة بالغبار، حين تقرر ابنته بيعه.

2-  يظهر على الحدود بين اليونان وألبانيا (البلد الذي قدم منها الطفل) سور من الأسلاك الشائكة يحيط به الضباب، والأجساد المعلقة عليه تبدو كظلال تبحث عن الخلاص.

وحين تقترب النهاية تسير زوجة ألكسندر نحوه على الممر الخشبي بين الشاطئ والمنزل ليرقصا الرقصة الأخيرة، حين يحدثها عن مشاريعه للغد: “سيكون هناك شخص ما يبيع لي الكلمات، متى الغد؟ كم سيدوم الغد؟” تجيبه: “الأبدية ويوم”.

ينقلب المشهد حين تقترب نهاية ألكسندر، ليصبح هو على شاطئ البحر، مديراً ظهره إلى الحياة، ربما رمز المخرج هنا إلى الحياة باليابسة، والأبدية بالبحر، ليكون شاطئ البحر هو اليوم الذي فصل بين الأبدية والآن، حيث يلقي الزمن النرد عليه، كما قال جد ألكسندر، البحر اللانهائي، الذي حمل الطفل بعيداً، كما ضاعت فيه كلمات ألكسندر التي لم يقلها يوماً لآنا التي انتظرتها دائماً.

3-  المكان المتحرك:
 حين يغادر الطفلالذي التقاه ألكسندر في يومه الأخيرإلى عالمه الجديد، حيث تنتظره الحياة، تمضي الباخرة، ويقف ألكسندر وحيداً بسيارته أمام الإشارة الخضراء. من نافذة هذه السيارة رأى ألكسندر الطفل للمرة الأولى حين أخفاه عن عيون رجال الشرطة الذين يلاحقون المهاجرين غير الشرعيين،ومن نافذتها رأى مختطفيه حين حاول إنقاذه بعدها، رأى أولى ابتساماته، وضحكاته، عاش ألكسندر يومه الأخير متنقلاً في سيارته، هل كان يصور حياته التي قضاها متنقلاً يبحث عن الكلمات، الحياة.

4- يستقل الحافلة مع الطفل، حيث ينظر إلى حياته من زاوية أبعد.

5-  الحافلة حياة أخرى، كلمات جديدة، هل وجد فيها كلماته المفقودة حين خرج من الدائرة الشخصية التي أحاط نفسه بها؟وهل كانت تلك هي الكلمات التي لم يقلها؟ هل هي النضال من أجل الحرية، كما يظهر في صعود شاب يحمل راية بعد سماع صوت مظاهرة في الخارج. 


6- أم الكلمات التي لم يقلها ألكسندر لزوجته.. كما يتضح في حديث رجل وامرأة على الحافلة، هل هي كلمات العتاب، حين يعاتب أحد الشباب فتاة على الحافلة: “لماذا تذهبين حين أتكلم معك، أحبك، لماذا تذهبين حين أتكلم معك؟”.


في مشهد من أهم مشاهد الفيلم -الذي يحمل لمسة فانتازية- يقف ألكسندر أمام القصيدة التي لم تكتمل حين يقابل بطل روايته على المقعد المقابل ينهي قصيدته، ذلك الشاعر القديم من القرن التاسع عشر، الذي قرر أن يعود إلى بلاده اليونان بعد انتهاء الحرب، وفكر عندها ماذا عساه يفعل؟ يغني للثورة أم يبكي على الموتى؟ أم يتحسر على الوجه المفقود للحرية؟ وحين عاد إلى وطنه تعرف على كل شيء لكنه لم يتذكر اللغة.


أراد أن يغني للثورة لكنه نسي اللغة، لهذا كان يمر على العابرين ويدفع لكل من يتعلم منه كلمة مبلغاً من المال، الشاعر الذي يشتري الكلمات من كل من يقابله، لهذا لم يكمل قصيدته أبداً، لأنه لم يعرف كل الكلمات، هل يمكن أن يعرف أحدهم كل الكلمات؟


في الحافلة، في اليوم الذي يسبق الأبدية، التقى ألكساندر بشاعره، حين قرأ هذا الأخير عليه بقية قصيدته التي انتهت بهذا البيت: “الحياة حلوة”.


يسأله ألكسندر بلهفة: “أخبرني.. غداً إلى متى سيدوم؟”


لكنه يغادر دون أن يلتفت.

لغة الصمت
مشاهد الخطف وبيع الأطفال المهاجرين، ثم هربهم، وإنقاذ ألكسندر الطفل الألباني، رفيق يومه الأخير، كانت كلها مشاهد صامتة في الفيلم، أماالصبي الصغير فقد ظل صامتاً حين أنقذه ألكساندر في المرة الأولى، تكلم فقط حين شعر بالثقة.


 وحين شرح الصغير ما يحدث من كوارث هناك من حيث أتى، كانت صورة جدران الأسلاك الشائكة التي تعلق عليها الهاربون من الجحيم كافية لتشرح بقية القصة.


 في قمة حزن ألكسندر يقول لهالطفل: “أرى أنك مبتسم ولكنك حزين، هل تريدني أن أجلب لك بعض الكلمات؟ سيكلفك هذا الكثير” التعبير عن الألم يكلف الكثير، حين وافق ألكسندر علمه الطفل كلمة “الغريب”.

 يتذكر كلمات زوجته وهي تقول له: “أخاف من غزو صمتك لذا كنت أترك جسدي يتكلم كانت تلك الطريقة الوحيدة التي أعرفها لأنك بتلك الطريقة لا تشعر بالتهديد، أنا مجرد امرأة عاشقة”.

كلمات

 تسمعه أمه فقط حين يقول لها جئت لأودعك: الوداع.
وحين يلحق به الطفل قبل مغادرته يقول: “الوداع”، في اليوم الأخير، يمتلك ألكسندر الشجاعة ليقول له: “ابقَ معي”.

“أنا خائف” يقولها كلاهما، ألكسندر في رحلته إلى الموت والطفل في رحلته إلى الحياة.
يعلمه الطفل كلمة جديدة أخرى: “فات الأوان”.

هل ذُكرت كلمة “الموت” في الفيلم؟ أم ذُكرت الأبدية فقط، وموعد الرحيل، ربما كانت تلك إشارة فلسفية إلى نظرة المخرج إلى الموت، مجرد رحلة إلى الأبدية.


“بالكلمات أعدتك وكل الحقيقة والانتظار للحقيقة.”
في لحظاته الأخيرة، يقف ألكساندر، في المشهد الأخير، وجهه إلى البحر، بالبلل الذي يغطي نصف معطفه، كالشاطئ مرسوما على ظهره، ليكمل قصيدته الأخيرة: 
“زهرتي الصغيرة.
الغريب
أنا 
فات الأوان”.

Visited 79 times, 1 visit(s) today