فيلم “أسوار القمر”.. نموذج ناضج لفيلم التشويق المصرى!
يبدو أننا أمام موسم سينمائى استثنائى للسينما المصرية. فخلال الشهر الأول فقط من العام، أصبح لدينا ثلاثة أفلام تستحق علامة “جيد جدا”، وستظهر حتما فى قائمة أفضل أفلام السنة، وهو أمر نادر فى المواسم الأخيرة.
الأجمل أن الأفلام الثلاثة تنتمى الى فئات متنوعة: فيلم “بتوقيت القاهرة” من تأليف وإخراج أمير رمسيس دراما إجتماعية مع لمسات كوميدية خفيفة، وفيلم “قط وفار” من تأليف وحيد حامد وإخراج تامر محسن دراما كوميدية سياسية، أما فيلم “أسوار القمر” الذى كتبه محمد حفظى وأخرجه طارق العريان فهو أحد أنضج أفلام الإثارةأو ما يعرف بـ thriller التى قدمتها السينما المصرية فى السنوات الأخيرة، لا أقصد عنصر التشويق فقط، ولكنى أعنى ذلك المزيج المعقد الذى يجمع بين المفاجأة والتوتر، والإنقلابات الدرامية والعاطفية، بل ويحتمل كذلك الإضطراب النفسى والعنف وقليل من الرعب، إنه النوع العام الذى تندرج تحته نوعية أفلام التشويق، وغيرها من الأنواع الفرعية.
نسمع عن هذا الفيلم منذ سنوات، يتوقف ثم يستأنفون تصويره، ربما كانت المشكلة إنتاجية، لكن ما شاهدناه يشفع لهذا التأخير، إنه عمل متقن الصنع الى درجة لافتة، بدأ الإتقان بالتأكيد من السيناريو، محمد حفظى له فيلم سابق فتح الباب بإتقانه وبنجاحه الجماهيرى لعودة أفلام التشويق والأفلام البوليسية، أعنى بذلك فيلم “ملاكى اسكندرية” من إخراج ساندرا نشأت، وكانت لحفظى دراما إجتماعية رومانسية لافتة جدا مع طارق العريان فى فيلمهما “السلم والثعبان” بطولة هانى سلامة وأحمد حلمى، وقدّم الثنائى (حفظى والعريان) أحد أفضل أفلام الحركة التى ساهمت فى تدعيم مكانة أحمد السقا، أعنى بذلك فيلم “تيتو”.
مدرسة الإتقان
ما يجمع بين العريان وحفظى بوضوح أمران: الإتقان الحرفى سواء فى الكتابة أو الإخراج، والأمرالثانى هو التأثر بالسينما الأمريكية، وربما ما يجذبهما أكثر لهوليوود هو عنصر الإتقان فى أفلامها، مع الاستفادة من دراسة سينما الأنواع، بمعنى أنهما، وفقا لمتابعتنا لأعمالهما المشتركة أو المنفصلة، قادران على تقديم أنواع مختلفة متقنة من الأفلام، ولا يتأتى ذلك دون فهم لطبيعة كل نوع، واحتياجاته.
لنأخذ “أسوار القمر” نموذجا: القصة فى جوهرها ليست إلا علاقة فتاة مع رجلين مختلفين الى حد التناقض، حكاية مثل هذه تصنع عملا رومانسيا أو إجتماعيا تقليديا، وخصوصا أن الرجلين يحبان الفتاة الى درجة استثنائية، ولكن العمل منذ البداية يركز على أن تصل هذه العلاقة المعقدة الى ذروة مثيرة حافلة بالمفاجآت، بل إن الفيلم يبدأ مباشرة من البطلة الكفيفة التى تتحسس طريقها فى اتجاه البحر، لتكتشف، ونكتشف معها، أن هناك رجلان يضربان بعضهما بشراسة فى قلب الماء، ورغم أن الفتاة ستستمع الى حكايتها كما سجلتها هى بصوتها مع الرجلين، إلا أن الصراع والمطاردة بين الرجلين لن تتوقف.
ورغم العناية الفائقة برسم طبيعة الشخصيات النفسية، ورغم الجمل الحوارية الرومانسية (ساهم تامر حبيب مؤلف فيلم سهر الليالى خصيصا بكتابة حوار إضافى للفيلم)، إلا أن حفظى لم ينس أبدا أنه يقدم فيلم إثارة مشوق، بل إنه استغل لحظات الإسترخاء الرومانسية، وعمل على العادى والمتوقع، تمهيدا للحظة انقلاب مفاجئة فى النصف الثانى من الفيلم، وقبل أن يستوعب المتفرج لخبطة أوراقه، وقبل أن يتنفس الصعداء ليفهم ما حدث، تتحول المشاهد التالية الى مشاهد إثارة متتالية وصريحة تحبس الأنفاس وصولا الى ذروة تنتهى بمفاجأة أخيرة، ثم مشهد أخير ضد الذروة (على طريقة السينما الأمريكية) يحقق الإسترخاء، وفك التوتر ، وإغلاق الأقواس، قبل أن يغادر المتفرج قاعة العرض.
مع كاتب أقل احترافا، كان يمكن أن يستغرق الفيلم فى خطه الرومانسى، أو أن يتوه فى خطه النفسى، وخصوصا أن أحد الرجلين مضطرب نفسيا تماما، ولكن الفيلم يحدد منذ البداية أى الخطوط ستكون فى خدمة النوع المطلوب، تقوم هذه الخطوط بدور تغذية فكرة الإثارة، تدعمها وتعمقها ليأتى حصاد النهاية قويا ورائعا، ثم تخدم الإثارة والإنقلابات الدرامية بدورها معنى الحكاية كلها، وهى أن الإنسان كائن معقد للغاية تتفاعل ثلاثة أشياء بداخله يتأملها الفيلم وهى :الحياة والحب والموت، هذه العبارة تقولها صراحة بطلة الفيلم للرجل المضطرب الذى تزوجها، ولكنها تنطبق على معنى الدراما التى ارتدت فى فيلمنا ثوب الإثارة اللامع.
سر الحبكة
“أسوار القمر” ليس من تلك الأفلام التى يمكن أن تحرق جذريا حتى لو كشفنا لحظة الإنقلاب الدرامى فيها، لأن قوته ليست فى التلاعب بهويات بطليه أو التلاعب بالمتفرج عن طريق التلاعب بالبطلة الكفيفة فحسب، ولكن قوته بالأساس فى تقلب العواطف الذى يحاكى تقلب القمر، فى تعقيد شخصياته الثلاث، وفى وجهات النظر المتعددة التى أتاحت للرائعة الموهوبة منى زكى فى دور زينة أن تلعب شخصيتين فى شخصية واحدة : فتاة رومانسية، وفتاة متحررة، وأتاحت لعمرو سعد أن يظهر بوجهين تماما مثل آسر ياسين، وأن تنتقل حيرة البطلة بين شخصية أحمد وشخصية رشيد الى المتفرج أيضا، وأن يمتد التلاعب الى فكرة الإبصار والعمى، حيث تكون زينة أكثر بصيرة بعد أن تفقد نظرها إثر صدماتها النفسية، وكانت قد تركت شابا رائعا هادئا وناجحا فى عمله، لتتزوج من شاب مغامر يدمن المخدرات، يغار عليها وكأنه يمتلكها، يضربها ثم يبكى طالبا المغفرة، تخلعه لتتخلص منه، فيحاول الإنتحار، تدخله مصحة للعلاج، يظهر الشاب الذى تركته فى حياتها من جديد، يخرج الرجل الشرس من المستشفى ليبدأ الصراع من جديد.
كان يمكن أن يكون الصراع تقليديا، مجرد غرام ومطاردة وانتقام، ولكن حالات العمى وفقدان الذاكرة المتتالية لزينة هى التى جعلت السيناريو يتلاعب بالبطلة وبالمتفرج معا، قد تكون هناك تأثرات واضحة فى خط الرجل الشرس الغيور بفيلم مثل “النوم مع العدو”، وقد تذكرنا لحظات فزع زينة الكفيفة بدور قديم شهير جدا للرائعة ميا فارو فى دور امرأة كفيفة مهددة، ولكن حبكة “أسوار القمر” تمتلك أيضا قوتها وتأثيرها، ونجاحها مزدوج ومعتبر: رسم الملامح النفسية والعاطفية والإنسانية لأبطاله الثلاثة الذين يدورون فى فلك الحياة والحب والموت، واستخدام كل مفردات فيلم الإثارة ببراعة، وبالذات فى الثلث الأخير من الفيلم.
ليست لدينا مع ذلك مناطق تصوير كثيرة، معظم الأحداث على شاطىء الغردقة، وفوق أحد المراكب، وإذا كان الحب يمثل قلب الحكاية، فإن الموت حاضر ايضا بقوة، يقول الشاب المغامر عاشق المخدر إن والده حكى له فى طفولته عن تلك الأسوار التى تقع وراء القمر، هناك يذهب الموتى، فإذا أراد أحد أن يكلم الموتى، فعليه أن ينتظر بزوغ القمر، الشاب المغامر المخدور سيأخذ زينة الى مكان وسط جزيرة بعيدة انتحر فيه شاب وفتاة مثل روميو جولييت، سيعود الموت كذلك ليقدم ذروة الأحداث ونهايتها ولكن مقترنا بالحب، وذلك بطريقة معقدة وغريبة.
عناصر ذهبية
نجح طارق العريان الى حد كبير فى قيادة عناصر اللعبة بداية من الإختيار الجيد للغاية لأبطاله الثلاثة، قد تتورط مثلى فى الحكم المسبق فى النصف الأول من الفيلم فى ضرورة تبادل عمرو سعد وآسر ياسين لدوريهما، لا تتسرع وانتظر لأن الفيلم لديه بالذات أسبابه فى نصفه الثانى حول هذه النقطة بالذات، منى زكى ستنافس بالتأكيد على لقب أفضل ممثلة فى 2015 عن دور زينة فى أطوارها وظروفها المختلفة، هذه الممثلة الموهوبة لايجب أن تظل بعيدا عن السينما، وخصوصا أن الموهوبات قليلات جدا فى عمرها، كما أن السينما فقدت موهبة حنان ترك العظيمة بابتعادها بعد الحجاب.
آسر وعمرو مجتهدان، عموما الأداء جيد مع إفلات مشهد أو اثنين منهما بسبب عدم القدرة على ضبط الصوت وفقا للإنفعال المطلوب، العناصر التقنية أيضا كانت مميزة: الصورة بمساحات الأزرق والأسود بالذات فى مشهد الذروة ذكرتنا بنماذج لأفلام أمريكية شهيرة ، كما فى فيلم مثل “cape fear” لمارتن سكورسيزى، تترات النهاية تقول إن مدير التصوير هو نزار شاكر، بينما ألأفيش ينسب التصوير الى أحمد المرسى، فى كل الأحوال، الاثنان من أكثر مصورينا موهبة وبراعة، والفيلم سينافس أيضا فى عنصر التصوير، وكذا فى المونتاج (ياسر النجار) وخصوصا فى مشهد اللقطات المتتابعة للإنقلاب المفاجىء التنويرى للبطلة عن الرجلين، ومن العناصر الهامة والمميزة أيضا موسيقى هشام نزيه وديكورات محمد عطية وملابس مى جلال، وشريط الصوت ل محمد عبد الحسيب، لم يخدش تكامل الفيلم التقنى سوى حيل الجرافيك الواضحة جدا فى مشهد النيران فى نهاية الفيلم.
تقول زينة إنه لولا تجربة الألم ما عرفنا قيمة الراحة أو السعادة، زينة تكتب المقالات، فى نهاية الحكاية ستكتب رواية، وستهديها الى القدر، والى أسوار القمر التى عاينتها فعرفت نفسها، ورأت الرجلين اللذين تنازعا عليها بشكل أعمق وأفضل، كما أنها رأت عن قرب كيف يوجد الموت والحياة والحب فى نفس بشرية واحدة، فى نفسها، وفى نفوس الآخرين.