“فيلا 69”: زهرة وحيدة في بستان صار مهجورا
لم يعد من الممكن أن نشكك في الرأي القائل بأن الظروف الاجتماعية والسياسة تؤثر في شكل صناعة السينما، سواء على صعيد أجندة الاهتمامات والموضوعات المطروقة، أو في العثور على مصادر للتمويل وسبل للعرض والتوزيع. التأثير السابق صار حقيقة نراها في واقعنا خلال السنوات الثلاث الماضية، والتي أخذ فيها حيز الحرية في أجندة الموضوع السينمائي يضيق أكثر وأكثر، حتى وصلنا لنقطة صار فيها الفيلم وحدة تنسب للسينما بقدر نسبها لأمور أخرى، سياسية واقتصادية غالبا واجتماعية عادة.
لا ألوم صناع الأفلام بمختلف طوائفهم على الوضع السابق، فالأصل هو افتراض حسن النية بأن كل شخص يصنع الفيلم الذي يؤمن به. ولكني أقوم برصد حالة صار فيها الأصل في الفيلم هو القضية وليس السينما، وصارت الدراسات والتحليلات تتجه في معظم الحالات لرصد كيفية تمكن الفيلم من رصد “القضية”، سواء كانت هذه القضية ثورية أم سياسية أم اجتماعية اقتصادية، وسواء كان الرصد مباشرا من نوعية الفيلم الذي يطرح “القضية” للتداول، أو غير مباشر في الأفلام التي ترصد واقعا كئيبا أدى لثورة جعلته ـ للأسف ـ أكثر كآبة.
الأشكال السابق ذكرها كانت موجودة باستمرار في السينما المصرية منذ نشأتها، ووجودها حيوي ومطلوب. ولكن الأزمة الحقيقية هي تساقط كل الأشكال الأخرى تباعا، حتى لا يبقى في النهاية سوى نوع واحد من السينما الجادة، يقابله تساقط مماثل في نوعيات السينما التجارية جعلت الفيلم المهرجان ـ نسبة للموسيقى الشعبية المزعجة ـ هو الشكل الوحيد المتاح لمن يرغب في مشاهدة فيلم تجاري مسلي.
الوضع صار موجعا، خاصة مع ارتباطه بأمور أخرى مادية، فالفيلم الجاد فرصه في النجاح التجاري محدودة، والبديل هو المهرجانات السينمائية، والتي صارت بدورها تميل للأفلام المتعلقة بالأحداث الجارية الساخنة في مصر، مما يدفع صناع الأفلام لا شعوريا لنفس الاتجاه، وهكذا.
وسط هذا الوضع المختل يأتي فيلم “فيلا 69” أول الأفلام الطويلة للمخرجة أيتن أمين، والذي نال مؤخرا جائزة لجنة التحكيم الخاصة لفيلم من العالم العربي من مهرجان أبو ظبي السينمائي، ليكسر أخيرا حصار الفيلم القضية، ويظهر كزهرة وحيدة في بستان صار مهجورا، اسمه السينما الإنسانية.
الموضوع: الإنسان
الموضوع في “فيلا 69” هو الإنسان ولا شيء غيره، هذا فيلم اختارت مخرجته أن تنأى بنفسها عن المقالات المرئية التي صارت تحاصرنا، وأن تجرد عالمها الفيلمي من كل حسابات الزمان والمكان، لتروي حكاية قابلة للحدوث في أي مكان بالعالم، وقادرة على التماس مع نفس من يشاهدها بغض النظر عن موطنه ودرايته النظرية بالمكان الذي تدور فيه الأحداث، لأن مادتها الخام هي المشاعر الإنسانية، ووحدتها الأولية هي المشهد القادر على أن “يزرع شعورا”، وهو دائما أبلغ من المشهد الذي “يسرد معلومة”.
بطل الفيلم حسين، المصمم المعماري الخمسيني الذي يجسده خالد أبو النجا بتمكن ووعي مشهود، يمثل ذروة المأزق الإنساني الدائم: التناقض بين المراد والمتاح، بين رغباتنا وما يتيحه القدر لنا. في البداية يُصدّر للمشاهد شعوره بالسأم، شعور من عاش كل التجارب ورأى كل شيء، فلم يعد هناك ما يمكن أن يدهشه، لتشعر لوهلة أن قراره بالعزلة عن العالم والبقاء داخل شرنقته في فيلا 69، هو قرار بالابتعاد عن عالم يراه أقل من مستواه، وتحوصل داخل عالم من النوستالجيا الخاصة ترقبا للنهاية، وهو ما يجعله حادا، ساخطا، عنيفا مع كل من يُجبر على التعامل معهم.
ولكن مع التقدم في رحلة الفيلم، ومع كشف المزيد من التفاصيل في حياة حسين، خاصة مع دخول عامل مربك في حياته يتمثل في حضور شقيقته نادرة وحفيدها المراهق، نبدأ في ملاحظة إقدام حسين على تصرفات يصعب فهمها في نفس سياق السأم والحدة، فهو على علاقة عاطفية بشابة عمرها حوالي نصف عمره، وتربطه شبه صداقة وشبه أبوة مع الممرضة التي تأتي لتحقنه بالأدوية، وهو يمتلك وراء حاجز الحدة والعنف روحا طيبة يثيرها ويغضبها أي إخلال بتفاصيل الحياة، بما في ذلك ترتيب الكتب في المكتبة وذرات التراب على الستائر!
مفتاح خريطة التناقض
مفتاح خريطة التناقض تزرعه أيتن أمين مع المؤلفين محمد الحاج ومحمود عزت مبكرا في بداية الفيلم مرتان، مرة عندما يبدي حسين سخطه من أصوات البكاء على متوفي في المستشفى المجاورة للفيلا، ومرة عندما يتوتر بشدة عندما يشاهد المساعد الذي أتى ليأخذ منه بعض التصميمات بالصدفة آثار حقن الدواء في ساعده. التفصيلتين العابرتين تتبلوران عند منتصف الفيلم عندما ندرك أن حسين ينتظر الموت في أي لحظة، وأن هذا هو السبب الحقيقي لانتقال شقيقته لتعيش معه.
من هنا يكتمل فهمنا للتناقض الذي صار ملازما لحياة حسين، فهو يحب الحياة ولكن كما يعرفها، الحياة التي عاشها طولا وعرضا، الحياة التي يأمن فيها على بقاء الكتب في نفس أماكنها بالمكتبة، تماما كما يأمن على بقاء روحه داخل جسده، الحياة التي يمكنه فيها أن يخبر حبيبته بحقيقة حالته، دون أن يخشى من تحول إعجابها به إلى شفقة عليه. حسين لم يسأم من الحياة ولم ينعزل عنها لأنه لا يجد ما يدهشه، ولكنه أغلق بابه على ذكرياته خوفا من أن يدهشه شيء يعلم جيدا أنه سيفارقه قريبا.
عذوبة التعبير عن هذا التمزق تبرز في مشاهد الأصدقاء الثلاثة، الذي يرتدون ملابس السبيعينيات ويلازمون حسين في غرفته، والذين لم تهتم المخرجة كثيرا بتفسير وجودهم، فقد يكونوا خيالا داخل عقل البطل، أو هلاوس أو أحلام أو أي شيء آخر، لأن الأهم من سؤال “كيف يراهم حسين؟” هو سؤال “لماذا يراهم حسين؟”، فهو ببساطة يراهم لأنهم الأشخاص الوحيدين الذين لا يحتاج لارتداء قناع عند التعامل معهم، لأنهم عرفوا حسين الذي يحب أن يكونه، وليس حسين الذي دفعته الحياة لأن يصيره.
الخروج من الفيلا
دخول سيف حفيد الشقيقة نادرة، ومعه صديقته المراهقة آية إلى حياة حسين أحدث تغييرات ملموسة في تفاصيل حياته التي كان رافضا تعديلها، والأهم أنه دفع بتساؤلات إلى عقله جعلته يعيد التفكير ـ ولو قليلا ـ في طريقة تعامله مع محنته. فسيف وآية تمكنا وبرغم فارق العمر الضخم من التواصل مع حسين، خاصة آية التي استدرجته بدهاء المراهقين الساذج لأن يبتلع فكرة أن يكون كبيرا، ينصح سيف بكيفية التعامل مع فتاته ويمنحه كتب الشعر ليقرأها، ولكنه في نفس الوقت كبيرا من نوع خاص، لا يمثل سلطة أبوية كما تفعل نادرة، ولكنه الكبير الذي يتغاطى عن تدخين المراهق الذي يعيش في بيته للحشيش، بل ويمنحه حشيشا من نوعية أفضل حتى لا يؤذي نفسه بالحشيش “المخلوط بالكيماويات بتاع اليومين دول”!
في العلاقة السابقة صيغة الاتفاق الطريفة التي تمكن حسين أخيرا من الوصول لها مع الحياة، فتقدمه في العمر ومرضه المميت حقائق يستحيل نفيها، لن يلغيها الإنكار ولن يخفف من وطأتها العزلة، لذلك فعليه أن يتعامل معها بطريقة تجمع بين احترام وجودها كحقائق، والتلاعب بها بقدرته وذكاءه الذي يميزه عن الآخرين. فنصيبه في المكتب الهندسي الذي سيفقده شاء أم أبى عند وفاته، يمنحه عن طيب خاطر للشخص الذي يعلم أن وجوده سيكون شوكة في حلق من يكرههم، وأمواله التي سيموت ويتركها، يستخدمها في مساعدة صديقته الممرضة على الزواج، بشروطه مجددا. تماما كما يخرج أخيرا من الفيلا ليشاهد العالم، ولكن داخل سيارة والده العتيقة التي لا تشبه أي سيارة حولها.
حسين لم يستسلم لفكرة الموت ولم يتصالح معها، ولم يقتنع في النهاية بأن عليه أن يعيش كعجوز يترقب موعد الوفاة، ولكنه وصل إلى أكثر قدر ممكن من الاتزان النفسي. وإذا كانت الدراما هي رحلة بحث الشخصيات عن إتزانها النفسي، فإن أيتن أمين تمكنت من تقديم حكاية درامية متكاملة الأوصال، بعيدة عن أي افتعال أو متاجرة تحت لافتة القضية. لتمنحنا زهرة وحيدة كنا في حاجة إليها، لنشعر بأن السينما الإنسانية موجودة، وأن الهموم المميزة للبشر لا يزال لها مكان على الشاشة.