فيدرا الفرنسية لا تريد الخراب
“أنا فقط أردت عائلة، لم أكن أريد أن أسرق عائلته” تقول آنا العماري وهي في زنزانتها لنزيلة معها. كانت آنا قد تحدثت لتوها إلى رقم حبيبها السجّان الذي نسي هاتفه على طاولة المطبخ فوجدت زوجته الفرصة ملائمة لترد عليها بالحزن والغضب الكفيلين بتدميرها نفسيا.
لم يتوقف جان فيريمو (قام بالدور الممثل في الكوميدي فرانسيز “غيوم غاليان”) في كامل فيلم éperdument (بجنون) عن حب السجينة الحسناء (قامت بالدور بجمالية مفرطة آديل إكزاشوبولو) منذ اللحظات الأولى من لقائه بها عندما حوّلت إلى السجن الذي يديره بعد أربع سنوات من المكوث في سجن آخر. الكثير من اللحظات المتأزمة بينهما لم تعصف بعلاقتهما، كانت ستحوّل إلى سجن آخر ثم تم التراجع عن الأمر في آخر لحظة. كانت تريد أن تنتحر لكن الحياة أمهلتها فرصة جديدة. صحيح أن الجنين الذين زرعه فيها أسقطته برغبتها لكن هذا لم يكن عندها ولا عنده خسارة. كان الحب أكبر من هذا.
وقع جان تحت إغراء فتاة في غاية الجمال، جسدها وعقلها، تمارس سطوتها وجبروتها عليه بينما تنهار مقاومته بشكل قياسي فتدحرجت إلى الوراء المتعة التي يأخذها من زوجته وعلاقته ببيته. أصبح ساهيا ولا مباليا. كما لا يهتم بكلام ابنته وهي تحكي له عن يومياتها البسيطة.
يبدو رد فعل زوجته باردا وغير مفهوم بشكل كبير. لم تغضب المرأة ولم تصرخ، كما لم تذرف دمعا كما النساء كما لم تطلب منه أن ينفصلا. ببساطة كانت الطرف الوحيد العاقل: طلبت منه أن يعود إلى رشده لأنها لن تنتظر طويلا ثم احتضنته إلى صدرها.
الهشاشة الإنسانية التي تجعل من الإنسان واعيا بأنه يرتكب جرما يعاقب عليه الفانون لكن سلطة العواطف تدفع به لينساق إلى شغفه، لذلك نجده في الكثير من المشاهد يمارس الحب بعنفوان شديد. العديد من المشاهد تظهر السجان والسجينة عاريين تماما،
الفيلم فيه الكثير من الأسماء العربية، وقد تكون كلها من المغرب الكبير غير أن الفيلم لا يشير إلى هذا. عدد من السجينات ذوات أصول مغاربية وعربية حسب الاسم الشخصي أو اسم العائلة ولكن الفيلم يناقش حالة إنسانية بمعزل عن تيمة المهاجرين في أوروبا وأوضاعهم القانونية مع ما يمكن للنقاد أن يقولوه على اختيار الأسماء العربية للسجينات دون غيرهم.
ألّف العمل وأخرجه بيير غودو Pierre Godeau (مواليد 1986) وهو ابن المخرج والمنتج والموزّع فيليب غودو وله في رصيده مجموعة من الأعمال السينمائية متوسطة التكلفة تماما مثل هذا الفيلم الذي نجد أماكن تصويره معدودة ، كما لا نجد بذخا في الصرف على المشاهد.
الفيلم في الأصل مأخوذ عن رواية سيرة ذاتية من تأليف فلورون غونسالف ينتصر للحب والحميمية والمتع التي يوفرها الجسد الباذخ وهو بالتأكيد ليس فيلما خارقا. إنّنا نتوقع الكثير مما يحدث لجان، اكتشاف علاقته بآنا، اكتشاف استعمالها للهاتف داخل الزنزانة، اكتشاف زوجته للأمر، نتوقع أن تصاب بعض السجينات بالغيرة منها كما نتوقع أن بعضهن يساندها ويرتبط معها بعلاقة إنسانية تجعل النزيلات تتقاسمن المشكلات وهموم الحياة والسجن ومع ذلك ففي هذا الفيلم الكثير من الجماليات. أو بكلمة أخرى مستويات الخطاب الجمالي متعددة ومتنوعة هنا: الفيلم خطاب جمالي لذيذ، فيه الكثير من البساطة الجميلة، احتفاء بالحب والجمال والجسد، بالحياة المشتركة، بمعنى المغفرة رغم الخطأ، وبمعنى روح القانون التي قد تعفي المسؤول من تطبيق النصوص القانونية على الإنسان المخطئ دون مراعاة لأي ظرف. لهواجس الرجل التي تجعله بين المتناقضات: أسرته التي بناها من سنوات وحب جديد كالزلزال يقلب كل كيانه.
حبة الكرز الحلوة في الفيلم هي بلا شك الممثلة الفرنسية ذات أصل يوناني آديل إكزاشوبولو، التي تحوز في رصيدها على السعفة الذهبية من مهرجان كان وعلى السيزار أيضا. وقد نالت شهرة كبيرة ونجاحا واسعا بعد فيلمها “حياة آدال” La vie d’Adele للمخرج الفرنسي ذي الأصل التونسي عبد اللطيف كشيش.
الفيلم يخاطب فينا أكثر حميمياتنا ومتاعبنا وقد نقول عندما نشاهده كما تقول “تونا كيرمتشي” الكاتبة التركية “من الممتع أن تقرأ (أو تشاهد) عن آلامك حينما يشعر بها شخص آخر” فإنّ الكثير منا قد يجد ما يتقاسمه مع جان، كم من المشكلات التي أوقعنا فيها أنفسنا في علاقاتنا مع الناس ونحن نعلم بمآلات هذه العلاقات؟ ! وكم من الخطوات التي نسيرها ونحن نعرف أنها لن توصلنا في الأخير إلاّ إلى أبواب موصدة أو جدران أسمنتية قاسية!
هناك تناص في غاية الجمال في الفيلم عن الحب الممنوع أو المحرّم مع المسرحية الراسينية فيدرا (عرضت أول مرة عام 1677) التي تقرؤها آنا مع النزيلات ضمن فصل دراسي في السجن، ففيدرا تحب هيبوليتوس ابن زوجها وتعترف له بحبها بينما هو في المقابل يتجنبها ويرغب في الاعتراف لأبيه بحبه لأريسي. الشعور المقيت بالذنب إلى أن تتسبب في نفيه ثم مقتله، هو ذاته الشعور الذي تملك آنا في الفيلم عندما رفعت زوجة حبيبها الهاتف وردت عليها. والنفي الذي حدث مع هيبوليتوس قد يكون مساويا لتوقيف جان عن العمل واعتقاله في مكتبه أمام مساعديه والتحقيق معه عاريا.
خلال قراءة أجزاء من المسرحية ومناقشتها احتفظت آنا بصمتها. وجدها كانت تطابق بين ما تعيه من المسرحية وما تعيشه في حياتها مع جان. كان صمتها أكبر من أية لغة.
ربما يبقى الاختلاف في النهاية، ففيدرا التي تقتل نفسها في النهاية تقابلها آنا التي حضرت مع جون إلى المحاكمة وكان الاثنان يبتسمان بإشراق بعدما نصحه محاميه أن يدّعي أنها هي من أغوته حتى يقلل من العقوبة المسلطة عليه. ترافقت الابتسامات المتبادلة بينهما مع أغنية النهاية التي تقول: نعم أودّ أن أريد، أننا لن نكون دائما هاربين، ونعم، هذا صحيح ليس لدي الوسائل، لذا عندما تكون جيوبنا فارغة، فلنحظَ بالضحك، دعنا لا نفترق أعداء، فالأمر حقا لا يستحق ذلك.
إنها نهاية للفيلم ولكنها ككل النهايات الحالمة: دعوة للتشبث بآمالنا.