“فن بولين كيل”: الناقدة السينمائية التي حلقت خارج السرب
من الأفلام التسجيلية المتميزة التي عرضت في الدورة 69 من مهرجان برلين السينمائي، الفيلم التسجيلي الطويل “ما قالته: فن بولين كيل” للمخرج الأميركي روب غارفر عن الناقدة السينمائية “بولن كيل” (1919- 2001) التي يعتبرها الكثيرون “أعظم ناقدة سينمائية في كل العصور”.
لم تظهر سوى أفلام قليلة للغاية عن “نقاد السينما”، فالغالبية العظمى من مخرجي الأفلام، في هوليوود وخارج هوليوود بما في ذلك الجزء العربي من العالم، يحرصون دائما على أن إبقاء نقاد السينما “في الظل”.
فالناقد يعتبر كائنا مزعجا عند الكثير من المخرجين، حتى لو كان يكتب بصدق ويقدم للمخرج شيئا يمكن أن يستفيد منه، فالمخرج بنرجسيته التقليدية مثله مثل كالفنان، لا يريد أن يعترف بأن غيره يفهم فيلمه ربما أكثر منه أيضا، أو يمكنه أن يستخلص منه الكثير من الرموز والإشارات التي تثري عملية المشاهدة وأن يكشف عن مناطق قد تكون غائبة عن عقل وقلب المبدع نفسه.
ويرفض المخرج أيضا أن يقف شخص ما بينه وبين الجمهور، وكثير من المخرجين في العالم العربي، يرددون القول بأنهم لا يهتمون بالنقاد ولا يقرأون النقد، بل يهمهم فقط رأي الجمهور فيحين انهم يحرصون بالطبع- على قراءة كل كلمة تكتب عنهم وعن أفلامهم.
هناك إذن صراع تقليدي داخل أوساط صناعة السينما، بين المخرج والناقد. لكن لا أحد- خارج العالم العربي- ينبري بحمية وحماس، للرد على ما يكتبه نقاد السينما ليشجب ما يكتبونه. لم يحدث هذا سوى في حالات نادرة للغاية منها الحالة الشهيرة للمخرج الإيطالي فيديريكو فيلليني الذي وجه عام 1954 رسالة (شخصية على أي حال) إلى الناقد “ماسيمو بوتشيني” الذي كتب عن فيلم “الطريق” معلنا رفضه لهذا النوع من الأفلام التي يعتبر أن هدفها التسلية، مؤكدا تمسكه بالدور الاجتماعي للفيلم.
وكان هذا النقد “الأيديولوجي” سائدا في إيطاليا وغيرها وقتذاك، في سياق الطروحات الماركسية حول “تحلل الفن البورجوازي في المجتمع الرأسمالي”. ولكن لولا أن بوتشيني كان قد أرسل بمقاله إلى فيلليني موجها له النصح بالعودة الى “الطريق القويم”، لما كان فيلليني قد اهتم بالرد عليه من خلال ما أطلق عليه “رسالة إلى ناقد ماركسي” تضمنها كتاب “فيلليني عن فيلليني” الموجود في مكتبتي الخاصة منذ عام 1977.
قبل خمس سنوات ظهر فيلم تسجيلي طويل عن الناقد الأميركي الراحل الشهير “روجر إيبرت”، أي بعد عام من وفاته، بعنوان “الحياة نفسها” Life Itself للمخرج ستيف جيمس، وكان الفيلم يقوم على السيرة الذاتية لروجر إيبرت، وقد صور خلال الأشهر الخمسة الأخيرة من حياته، وكان يعتمد على عدد من المقابلات المباشرة مع كثير من أصدقاء إيبرت وأقاربه وزملائه من نقاد السينما والصحفيين والمخرجين. وكان يستخدم صوت رجل يروي على لسان روجر إيبرت نفسه ويعلق ويشرح.
فن بولين كيل
يتبع المخرج روب غارفر في فيلمه “ما قالته: فن بولين كيل” What She Said: The Art of Pauline Kael أسلوبا مماثلا، فهو يستخدم الكثير من المقاطع المختارة بعناية من أشهر الأفلام التي كتبت عنها الناقدة بولين كيلعبر ثلاثين عاما، مع تقطيعها أو مزجها من خلال المونتاج الذكي المتدفق، مع المقاطع الصوتية لما يقوله أصدقاء الناقدة والذين عرفوها بمن فيهم أيضا من لم يكونوا راضين عما كتبته عن أفلامهم، ويستخدم الرسوم والصور الفوتوغرافية الثابتة، ومقاطع من البرامج التليفزيونية الحوارية والأفلام المنزلية المصورة داخل منزل بولين كيل في حياتها اليومية وكيف تمارس الكتابة وكذلك مع ابنتها الوحيدة التي ستظهر فيما بعد لتتحدث عن والدتها، ويبدأ الفيلم من بدايات كيل الأولى كفتاة من كاليفورنيا ترغب في أن تبدأ حياتها ككاتبة مسرحية لكنها لا تكمل المسيرة.
الفيلم يتتبع حياة بولين كيل المهنية، أي بداية عملها بالنقد السينمائي منذ منتصف الستينات، وانتقالها بين صحف عدة، وما حققته من شهرة وتأثير كان يدفع الجمهور وصناع الأفلام الى انتظار مقالاتها الأسبوعية ومعرفة “ماذا قالت” أو “ما قالته” (وهو عنوان الفيلم)..
لكن الفيلم من جهة أخرى يسرد تاريخ فترة من أهم الفترات في تاريخ السينما، أي فترة الستينات والسبعينات التي شهدت بروز الموجات الجديدة والنظريات الجديدة في السينما والكثير من الأفلام المرموقة، كما عرفت الكثير من المعارك النقدية أيضا، ومنها المعركة الشهيرة التي خاضتها كيل ضد الناقد الأميركي المعروف أندرو ساريس، حول نظرية “سينما المؤلف” (القادمة من فرنسا) وكان ساريس من أكثر المتحمسين لها في الولايات المتحدة والتي تعتبر الفيلم ابداعا لشخص واحد هو المخرج- المؤلف، أما بولين كيل فقد كانت تعتبر الفيلم نتاجا جماعيا.
ونحن نراها ونستمع إليها في هذا الفيلم وهي تتحدث عن أحد الأفلام الأولى الشهيرة في حركة الموجة الجديدة الفرنسية أي فيلم “هيروشيما حبيبي” (1959) لآلان رينيه، وتصفه بأنه يدعو للشعور بالملل بسبب التكرار الذي لا ترى فيه أي تأثير شعري كما يقول البعض.
معركة بولين كيل مع أندرو ساريس يتطرق إليها الفيلم من خلال ما ترويه أرملة أندرو ساريس الناقدة موللي هاسكل التي تصف هجوم كيل عليه بأنه كان شرسا وأنها لم تدخر وسيلة من أجل مهاجمته وتشويه صورته. ولكن المعركة على أي حال كانت حول الأفلام والنظريات السينمائية، ولم تكن شأن معارك البعض في عالمنا العربي، من أجل تأكيد حضور الذات، والشطب على ما ينجزه الآخرون، ومرض حب الظهور.
التعرض للضغوط
ونتيجة تمسكها بأفكارها واستقلاليتها ورفضها الخضوع للضغوط، واجهت كيل العديد من المشاكل، فقد استغنت مجلة “ماكال” النسائية الشهرية عن خدماتها بسبب تدخلات من شركات هوليوود بعد نشر مقالها عن فيلم “صوت الموسيقى” الذي أطلقت عليه “صوت المال”، ثم مقالاتها النارية ضد أفلام مرموقة مثل “دكتور جيفاغو” و”لورنس العرب”.
ويقول المخرج البريطاني الكبير جون بورمان في الفيلم إنها كانت تتربص بوجه خاص، بالمخرجين البريطانيين، وأن ريدلي سكوت شعر بالغضب بعد أن قرأ هجومها على فيلمه “بليد رانر” أو “الجاري على الحافة” وأقسم أنه لن يقرأ كلمة بعد ذلك من مقالات النقد السينمائي.
يظهر في الفيلم أيضا في مقطع قديم نادر، المخرج البريطاني الراحل ديفيد لين يتحدث عن هجوم كيل على أفلامه ويروي كيف اندفعت إليه خلال حفل أقامته له جمعية نقاد السينما في نيويورك، وأخذت تهاجم أفلامه دون رحمة، وكيف أن ما قالته له أدهشه ولفت نظره إلى زاوية أخرى لم يكن يلتفت إليها في أفلامه.
ستدخل كيل في مشكلة أخرى بعد أن تلتحق بعد ذلك بمجلة “نيو ريببليك” بسبب التدخلات التحريرية الكثيرة في مقالاتها، وتعترف في مقابلة مصورة معها، بأنها غضبت بعد أن اكتشفت أنهم كانوا يستبدلون بعض ما كتبته من عبارات بعبارات غيرها لم تكتبها وتتناقض مع رأيها، لكن المشكلة انفجرت بسبب مقال بولين كيل الشهير حول فيلم “بوني وكلايد” لآرثر بن، فقد اعتبرته عملا سينمائيا بديعا وقصيدة شعر سينمائية، بينما كان الرأي السائد وقتها أنه عمل يمجد القتلة ويشجع المراهقين على التمرد على المجتمع واللجوء للعنف. وقد حظرت المجلة نشر المقال ثم نشرته مجلة “نيويوكر” التي ستنتقل إليها بولين كيل بعد ذلك والتي ستكتب لها أفضل وأهم كتاباتها.
آراء صادمة
ستدهش كيل الكثيرين وتصدمهم بجرأتها عندما ترفض إبداء أي إعجاب بفيلم “2001. أوديسا الفضاء” لستانلي كوبريك، وتسخر منه بأسلوبها المتدفق الذي كان يمزج بين الذاتي والموضوعي، كما ستدهشهم بترحيبها بفيلم برتولوتشي الشهير “التانجو الأخير في باريس” الذي صدم الجميع واعتبره الكثيرون وقتها، عملا منافيا للأخلاق، ثم بكتابتها الجريئة عن “المواطن كين” لأورسون ويلز الذي امتدحته واعتبرته دائما أحد أكثر الأفلام معاصرة، غير أنها أثارت استياء ويلز عندما قالت إن الفيلم يعود في نجاحه ليس الى ويلز فقط بل وبدرجة مساوية الى كاتب السيناريو هيرمان مانفيتش الذي شارك ويلز كتابة السيناريو.
مقابلات
ويتضمن الفيلم الكثير من المقاطع التي تظهر فيها كيل في منزلها أو وهي تعمل، ومقاطع صوتية من البرنامج الإذاعي الذي كانت تقدمه، ومن مقابلاتها التليفزيونية ومن مقابلات أخرى مع فنانين آخرين مثل جيري لويس الذي يشكو من أنها لم تذكره بكلمة جيدة أبدا لكنه يثني عليها ويعتبرها الناقدة الأهم في العالم على النقيض مما يفعل معظم المخرجين العرب الذي لا يفوتون الفرصة عادة لتصفية الحسابات مع النقاد الذين لم يكتبوا عن أفلامهم بشكل إيجابي فيكررون أشياء ساذجة مضحكة كقولهم إنهم “ليسوا نقادا على الإطلاق”!
يستعين المخرج بتصميمات “جرافيكس” لكتابات بولين كيل، ويستخدم صوت امرأة تتقمص شخصية النقادة الراحلة، وتروي على لسانها، وهو في الحقيقة صوت الممثلة ساره جيسيكا باركر، التي تقرأ مقاطع من بعض كتابات كيل التي توقفت عن كتابة النقد عام 1991 بعد أن أصيبت بمرض باركنسون، وتوفيت عام 2001 عن 82 سنة.
الاعتداء على “المقدس”
يتطرق الفيلم لأعنف هجوم واجهته بولين كيل في حياتها المهنية، بسبب مقالها الشهير عن فيلم “شوا” Shoah” الذي يبلغ زمن عرضه 9 ساعات ونصف الساعة” (1985) وهو من إخراج الفرنسي كلود لانزمان، والذي اعتبر عملا غير مسبوق، ومعجزة من معجزات السينما المعاصرة وكان يوثق الكثير من “الشهادات” عن الهولوكوست وما وقع لليهود خلال الحرب العالمية الثانية. وقد اعتبرته سيمون دي بوفوار مثلا “تحفة خالصة وفيلم القرن العشرين”.ولم يكن مسموحا لأحد بانتقاد هذا الفيلم أو التقليل من شأنه. وعندما عرضته القناة الرابعة في التليفزيون البريطاني عام 1986، عرضته كاملا على مرة واحدة من دون أي فواصل إعلانية كما اعتادت أن تفعل، باعتبار أن موضوع الهولوكوست “مقدس”، ومن الإهانة لأروح الضحايا أن تقطعه الإعلانات التجارية.
أما بولين كيل فلم تتردد أو تتراجع أمام الدعاية الصهيونية الهائلة التي صاحبت عرض الفيلم بل كتبت رأيها كما ترى، بكل جرأة، ولم تعتذر أبدا عما كتبته. وكان من بين ما كتبته وصفها للفيلم بأنه “عمل يغلق عقلك.. ويرهقك من كثرة ظهور المساحات الميتة على الشاشة، وكثرة الحوارات التي يجريها المخرج والتي يمكن أن يجريها أيضا وودي ألين.. إنه عبارة عن نحيب طويل متصل لشخص مصاب بالبارانويا إزاء غير اليهود.. إن الجلوس داخل دار السينما ومشاهدة فيلم يمتلئ بالمساحات الميتة يبدو نوعا من تعذيب الذات… الفيلم لا يدفعك للتفكير، وعندما تغادر قاعة العرض في النهاية فإنك تشعر بالتشوش وتتأكد لك أبشع مخاوفك… إن الهاجس الأساسي عند لانزمان يكمن في رغبته في أن يؤكد لك أن “الأغيار” (أي غير اليهود) سيفعلونها مجددا باليهود إذا جاءتهم الفرصة. إن “شوا” نحيب ممتد يقول “لقد كنا دائما مضطهدين.. وسوف نُضطهد مجددا”.
ولعل من أقوى ما قالته بولين كيل ويتردد في هذا الفيلم التسجيلي عنها أيضا، هو أنه “إذا رضي عنك أصحاب الأفلام فاعلم أنك لم تعد ناقدا” أو أنك فقدت الطريق، فهي لم تكن تكتب لتُرضي وتُسعد وتُدخل البهجة والسرور على نفوس المنتجين وصناع الأفلام، بل كانت تكتب بما يتسق مع مشاعرها ورؤاها الشخصية، وكثيرا ما كانت تميل الى وصف الجمهور الذي يقف في الصفوف أمام دار العرض ثم تحكي عن انفعالات الجمهور في القاعة والجالسين وراءها أثناء عرض الفيلم وهو ما أثار استهجان البعض الذين اتهموا كيل بأنها تفتقد للموضوعية وتميل للتعبير الذاتي لكن قدرتها التحليلية للأفلام لا مجال للتقليل من شأنها رغم خلطها بالمشاعر الانطباعية الذاتية.
تتحدث كيل عن الرسائل الغاضبة التي كانت تتلقاها بسبب نقدها لبعض الأفلام وتؤكد أنها كانت تتوقف أمام تلك الرسائل وتضحك بعد أن تدرك وجود شيء في تلك الأفلام استفزت من كتبوا لها الرسائل التي كانت تمتلئ أحيانا بألفاظ السباب. وترى كيل إنه من دون النقد السينمائي تصبح الساحة خالية أمام الإعلانات عن الأفلام، ولكن الإعلانات لا تطور السينما. وقد صدقت.