فلسفة السينما: بين جودار وبريسون وبيرتولوتشي

من فيلم "عاشت حياتها" لجان لوك جودار من فيلم "عاشت حياتها" لجان لوك جودار
  • تعيش حياتها لتموت الفلسفة: جودار علي حافة الفلسفة

يغزل المخرج الفرنسي الكبير جون لوك جودار فيلما عن الوجودية عندما تنهار، عندما تقرر أنثي حياتها، وتعبر عن ذلك بمقولات، أنا مسؤولة عن الحياة، مسؤولة عن أفعالي، وهكذا، ستجد في فيلم “تعيش حياتها” الذي أنتج عام 1962، وجودية جودار بوجوه سارترية متعددة، ستجد عبثية جودار، برؤي عبثية البير كامي، ايضا ستجد نسوية جودار ب نسوية سيمون دي بوفوار، هذا المثلث ينصهر في فيلمية جودار.

هذا التناص الفيلمي الفلسفي، والتناص الأدبي الفيلمي، يخلط المشهدية ويجعل هناك أسئلة فلسفية بصبغة سينمائية وبصرية، وتصبح أمام لوحات تشكيلية من الفلسفة والفن والادب.

هذه الثلاثية، الفلسفية والأدبية والنسوية، هي خشنة الي أقصي حد، لذا المونتاج جاف وعنيف وحاد بشكل مذهل، وبالمثل الحوار والتصوير وكل شئ، خشن وجاف، وهذا لا يعني أن الفيلم ليس مبهراً أو جميلاً، ولكن هذه الخشونة، ليست الا تجسيداً لفلسفة جودار في انهيار الوجودية الفرنسية والمجمتع الفرنسي بشكل تدريجي وجذري وعنيف الي ابعد حد، هذه الرمزية السياسية تجدها في مشهد اعدام سياسي أمام كافيه، هي رمزية سياسية تعيش سينمائيا في مغارة جودار الفلسفية الفيلمية، فالفيلم هو اشكالية فلسفية بالاساس عن انحدار كل شئ في فرنسا، من مجتمع، وفلسفة، وافراد، وافكار تحرر، وليس بعيداً أن نجد ثورة الطلاب عام 1968، تعبيرا عن انغلاق النموذج النظري والفلسفي في فرنسا، وفشلها في الاقتراب من الواقع والمجتمع.
يبدأ الفيلم كما تبدأ الفلسفة، مثالية رومانسية حالمة، حيث تحلم فتاة عن حلم بأن تكون مميزة عن الأخرين، وهذا حلم مثالي لم يتحقق بعد، حتي تدخل عالم الدعارة، وهنا يبدأ المأزق الانساني لهذه الفتاة، ولا تعبر عن هذا الفشل، وتصبح عقلاً فلسفية سارترياً بامتياز بشخصية جودار الخشنة في كل شئ، لتسأل عن حريتها في الفعل والقول، ثم تفشل هذه الوجودية والحرية التي شعرت بها، لتموت، وهنا نهاية عبثية بامتياز مثل عبثية كامي ولكنها سريعة وغاضبة وخشنة كما رسمها جودار العظيم.

اخيراً، يمكن القول إن جودار كان مثارا للجدل الثقافي في الستينيات في وقت كانت الوجودية في أوج ازدهارها، وبهذا ينقل جودار السينما الي الفلسفة نقلاً بصريا متبنياً خطاب فلسفيا خاصاً بفكره داخل المشهدية. ويعتبر هذا الفيلم معبرا عن تاريخ الفلسفة، عن نظرة جودار للفلسفة الوجودية والمجتمع الفرنسي، عن انهيار الفلسفة الوجودية السارترية، عن اشياء كثيرة لم أصل الي تفسيرها، انه جودار العظيم الفيلسوف الكبير عندما يصنع فيلماً، لا نجد إلا الدهشة وانبهار  فكري كبير.

من فيلم “موشيت” لروبير بريسون
  • بريسون يسبر اعماق النفس البشرية بحيل الكبت وأحلام فرويد

الكبت إشكالية دائمة الاستمرار لدي المخرج الفرنسي روبير بريسون، أحد آباء السينما في العالم، هذا الرجل خشن العمل الابداعي، فتجد كل شئ حادا وصارما، إنه يصنع علم نفس سينمائي له خصوصيته خارج الفرويدية أو السلوكية النفسية، او اللامكانية المعاصرة، هو ما يسمي بالعقل السينمائي الخاص، أي العقل النفسي البريسوني في فن السينما، أو في تحليل أخر، تجد بريسون يخلق لوحات بصرية، ولغز- لغوية تنتمي الي بعد نفسي حائر لا يعبر عن نفسه في ذاته، ولا يدعو الي تحليل نفسي بشكل مباشر، هو يدعو الي عقل نفسي خارجي، أي أنك تفكر بشخصيتك عبر بصريات بريسونية.

في أفلامه: النشال، موشيت، الحصان، الجلسة، رباعية خشنة نفسية حادة، تجمعها اشكالية الكبت النفسي، هنا، يتحرك في عقل حداثي، ما يريد قوله يقوله دون عبث وحياء، لذا هو ضد حداثي حتما، يراوغ فرويد، ولا يلتفت الي التلاعب اللغوي والحلمية النفسية، ينتصر فقط للاوعي كفعل عقلاني بخلاف فرويد الذي يتلاعب بما هو حداثي عقلي وما بعد حداثي لغوي، وهنا تظهر الخصوصية البريسونية بامتياز، وتري النفسية تعبر عن نفسها في فعل عقلاني، ليس لغويا ، وليس أحلاما وخيالات وليس حتي هذيانا.

القسوة والألم وانتصار الشر علي الخير دائما مفتاح الفكرة الفيلمية لديه، والكبت لديه هو كبت عن الخير اذا كانت الشخصية ناضجة، أو كبت عن الشر اذا كانت الشخصية مازلت رومانسية حالمة.

الانتقال من الخير الي الشر، والعكس، مراحل انتقالية نفسية يحكمها اشكالية الكبت البريسونية، وتتراوح فيها السرعة والبطء، وكلما زاد سرعة تفريغ الكبت، زادت الخشونة البصرية والحسية لدي المشاهد، فهنا خطافية فعلية للنفسية، فتحدث صدمات متتالية لدي المشاهد، قد لا يفهم، ولكنه يشعر بالرعب من القوة والألم، أنه الألم والشر الخام.

استطاع بريسون أن يصل الي مصادر القيم، أي أن يتفلسف ويحلل نفسيا بشكل عميق ما يعرضه في أفلامه، فهو نظري في الفكرة الي حد كبير، وإذا تجني علي الجانب الجمالي والأدبي والفني، فمن قبيل فهم هذه الفكرة، اذا كان المشاهد قادرا علي التقاط اشكالية الكبت والبعد النفسي البريسونية.

  •  بيرتولوتشي رائد تحليل الخطاب الإيروتيكي في السينما

يتحرك المخرج الايطالي بيرناردو بيرتولوتشي في مجمل أفلامه عبر جنسانية جديدة، ويمتلك نواصي خطابات إيروتيكية مفرطة متناثرة تعبر عن تفاعل الأجساد عبر شبكة التطرف والتشرذم، حيث يكون لكل فعل جسدي أو لحظة خطابها الخاص بها، وتتسع اللغة الجسدية الي لسانية ممتدة عبر ذوات فردانية تبحث عن الهروب من العصر الفيكتوري أو الخطاب الديني سواء المسيحية في سلوك الاعتراف او اديان اخري تعبر عن ان الجسد محل للخطيئة.

يرفع بيرتولوتشي من مكانة الجسد الي أعلي مراتبها، ليغضب الجسد عن كل شئ، عن الاستهلاكية الرأسمالية، عن الخطابات المضادة لحرية الجسد، عن حفريات الذات المضطربة والخائفة من الجسد.

الرؤية الفوكونية تتجلي في بصريات بيرتولوتشي دائما، خاصة رؤية فوكو حول بيولوجيا الجسد، وثلاثية الذاتوية والمعرفة والسلطة، يفزعنا هذا المخرج عن ذواتنا حرة تفعل ما تريده لكي تشعر بالخلاص،

كل حركة جسدية في فليمية هذا المخرج تصنع خطابها الخاص بها، وتحفر في حفريات الجسد لتحدث قطعيات ايروتيكية مع الخطاب التقليدي للجسد.

نلاحظ علي الأقل أن هناك فرقا نظريا في المشهدية لدي المخرج حول المتعة والشهوة،  حيث يصبح خطاب الشهوة خطابا اعلي يملك ناصية التحرر من الخطابات المضادة للجسد، وتصبح المتعة واللذة عينية ثانوية تخفي خطاباتها.

أخيرا بيرتولوتشي هو أسطورة تحرر الجسد من كل شئ، والدفاع عنه، بأشكال ما بعد حداثية فوضوية متحررة من كل قيد.


Visited 92 times, 1 visit(s) today