“فتاة تسير وحيدة ليلا” في عباءة مصاص الدماء!
لا يستطيع أحد تجاهل فيلم المخرجة والكاتبة الإيرانية الأمريكية آنا ليلي أميربور “فتاة تسير وحيدة ليلاً ” أو A Girl Walks Home Alone At Night لأسباب كثيرة، ربما أهمها في نظري هو عبثها بالأدوار الذكورية في مقابل الأدوار النسائية على الشاشة، وهي لعبة لو تعلمون عسيرة، تنبع من كونها إن لم تُلعب بحرفية، تصبح أشبه بطبخة فاضت مقاديرها عن الحاجة فبدلاً من أن تثير في النفس الانبهار، تشعل تعليقات السخرية والازدراء. في فيلمها الروائي الطويل الأول، تعمد أميربور إلى العبث بكل المقدسات الناعمة التي يقدسها الغرب قبل الشرق.
فالرجل (أو الذكر) القوي الذي ينقذ الفتاة معدومة الحيلة البريئة، هو هنا فتى بريء يتم استغلاله والتلاعب به بل وحمايته على يد عدد من الشخصيات النسائية والرجولية. والفتاة التي دائماً ما تصورها السينما على أنها كتاب مفتوح، هي تابوت مغلق على سره الأعظم، في مقارنة بالفيلم ضعيف المستوى “الشفق” 2008 والذي تكون فيه البطلة الرئيسية بيللا فتاة عادية تهتم بمعرفة سر الفتى الوسيم الغامض، إدوارد، والذي تكتشف في النهاية أنه مصاص دماء، هي في “فتاة تسير وحيدة ليلاً” طيف بلا اسم، بلا حوار إلا فيما ندر، وبلا هوية، وحتى بعد مضي ثلاثة أرباع الفيلم، يظل البطل لا يعرف لها حقيقة ولا يسبر أغوار غموضها المستعصي.
أما الفتى، فقد أجادت أميربور عرض حياته بمنتهى الشفافية والعذوبة؛ مهنته، رغباته، عائلته وأصله، وضعه الاجتماعي، مخاوفه وتفاصيل حياته اليومية مع والده المدمن والقط الجميل الذي التقطه مصادفة. لا تتركيني وحيداً هناعلى العكس من ترتيب المهام الذكورية والنسائية في عموم الأعمال الفنية، والأدوار المجتمعية التي فرضت عليهم وعليهن، بدا هنا آراش -الشاب الوسيم الذي اقتفت مصاصة الدماء أثره فضولاً لا جوعاً- محتاجاً لفتاتنا الوحيدة، يلتمس الصحبة في جوارها، وفي مشهد بديع للفتاة وقد أعطت ظهرها لآراش، يبدو تنافر عنقها السافر وعنقه المختفي وراء عباءة دراكولا الزائفة، أشبه بتورية لحقيقة كل منهما، فعنق الفتاة العاري ما هو إلا ستار لحقيقتها التي تظهر/ تختفي وراء حجابها الأسود، وعباءة دراكولا ما هي إلا قماش من الزيف، أو غلاف لكتاب حياة آراش المفتوح أمام المشاهدين.
ينبغي ذكر أيضاً رمزية الحجاب في الفيلم، فأميربور تستخدمه بذكاء تحسد عليه كغطاء وكشف في ذات الآن. هذا الحجاب الأسود الطويل ما هو إلا عباءة مصاص دماء، وهي إشارة إلى كون الحجاب رمزاً قمعياً في المجتمعات المغلقة، يستخدم لفرض إطار ما على جسد المرأة، محاولة منه لتصويرها كياناً مرعباً لا ينبغي الاقتراب منه. ولم تنس أميربور أن تحوله لأداة اختفاء، تتلفع به الفتاة فتختفي حقيقتها عن الأعين، وتصير عصية على الفهم والتواصل، فارضة حاجزاً أسود بينها وبين من يقابلها، وهو ما تريده المجتمعات الدينية من المرأة بالضبط: الاختفاء مع التواجد في آن، أي أن تكون رمزاً مخيفاً ومثيراً، لكن لا تكون حاضرة هنا. بمعنى: “كوني طيفاً لما ينبغي أن تكونيه”.
فريسة الذئابفي إشارات أنثوية أو “فيمينست” صريحة، تلعب أميربور على فكرة الفريسة/ الصياد الشهيرة بتغيير الأدوار. ففتاة وحيدة تسير ليلاً، هي فريسة سهلة للذئاب. ذات الرداء الأحمر، ودستة من أفلام الرعب ترسخ في أذهاننا مدى الأخطار التي قد تواجهها فتاة وحيدة في أي مكان؛ موقف السيارات، الشوارع الخالية، المصعد، حتى شقتها. هناك دوماً ذئب ينتظر. في “فتاة تسير وحيدة ليلاً ” يسخر العنوان من هذه الفكرة ويجعل من الفريسة صياداً بمعنى الكلمة، خاصة في انتقاء الضحايا، وأحيانا -بصورة دموية إلى حد ما- في طريقة افتراسهم، والتي تعزز فكرة المرأة كـ “آخر” مخيف، وليست مجرد “آخر”.
أطلق المدير الإبداعي لشركة VICE، وهي الشركة المنتجة للفيلم، على آنا ليلي أميربور لقب “كوينتن تارانتينو القادم”. ولم تنف أميربور مدى تعلقها وتأثرها بأفلام تارانتينو، ما بدا واضحاً، حتى في اختيار الموسيقى والتأثر بأفلام الويسترن الإيطالي “السباجيتي” وتلاعبها بالنوع genre فتجد فيلمها والذي تصفه بأنه أول فيلم “إيراني ويسترن رومانسي” ليس بفيلم الرعب التقليدي، ولا فيلم الويسترن سباجيتي “الغرب الأمريكي” المعتاد، ولا هو يحمل قصة رومانسية أصيلة تدور حولها بقية الأحداث.
كما بدا واضحاً مدى تأثير السينما الأمريكية على أميربور، حتى عن طريق الشخصيات، ومحاولتها كسر حاجز الوحدة بالتأمرك؛ آراش بملابس وتصفيفة شعر جيمس دين، الأغاني التي تستمع إليها الفتاة وآراش، مما دفع البعض إلى اتهام أميربور بأنها لا تعبر عن “إيران الحقيقية” في محاولة لطمس ما تعبر عنه المخرجة من تصوير لامرأة إيرانية في مدينة غرائبية تركب سكوتر وتتغذى على دماء الأشقياء، وعابري السبيل.
أضعف ما في الفيلم نهايته، والتي رأى كثير من النقاد أنها جاءت مبتورة ومتسرعة. ولكن رغم كونها من أضعف عناصر الفيلم، إلا أنها أيضاً انتصرت للمرأة، وهي تختلف عن أفلام مثل “نادي الإفطار” 1985 لجون هيوز، مخرج الثمانينات الشهير، حيث الفتاة الغامضة المنبوذة تزين وجهها بالماكياج وترتدي فستاناً وردياً ليلتفت إليها الفتى الذي تحبه، بعد أن تخلع رداءها الأسود وتزيل كحل عينيها الداكن. “فتاة تسير وحيدة ليلاً” فيلم ثوري في تناوله لأدوار المرأة والرجل، وتشابك العلاقة الجنسية- القيادية بينهما، كما أنه يعبث بالثوابت الدينية والاجتماعية بذكاء شديد قد يصل للهمس في بعض الأحيان. ورغم تأكيد المخرجة على أنها صنعته وليس في ذهنها أي مردود سياسي أو ديني، إلا أنها أكدت على كونها تعرف من هي، وما هو فيلمها، لكنها لا تعرف كيف سيستقبله الآخرون.