عن الفيلم التسجيلي “فرانسوا تريفو: لوحات مسروقة”
يوم 22 أكتوبر 2015، خلدت الأوساط السينمائية العالمية، الذكرى الحادية والثلاثين لوفاة رائد الموجة الجديدة الفرنسية وصانع بعض انجازاتها الخالدة، المخرج الفرنسي فرانسوا تريفو(1932 – 1984 )، مناسبة عرض خلالها، في بعض المراكز الثقافية والسينمائية الفرنسية، فيلم تسجيلي (إنتاج سنة 1994) ضم لحظات مثيرة من حياة تريفو، الفنان والإنسان، يحمل عنوان”فرانسوا تريفو: لوحات مسروقة”.
العنوان مستلهم من فيلم مشهور لتريفو هو فيلم “قبلات مسروقة”، أما الفيلم التسجيلي فهو من إخراج الناقدين بمجلة “دفاتر السينما”، سيرج طوبيانا وميشيل باسكال. وهو ليس عبارة عن سيرة ذاتية مسجلة بكاميرا الغير، كما يوهمنا العنوان، لكنه محاكمة لتصرفات وانجازات هذا الفنان القلق، حتى تلك التي بدت في عيون زملائه شائنة. يقول المخرج برنارد تافرنييه في الفيلم: “إن تريفو كان أكثر أبناء جيله استعدادا للمساومة بل والتزلف من أجل تحقيق مكاسب شخصية، بل وأنه كذب أيضا في كتاباته النقدية الحادة، فقد سلط هجومه على بعض صناع السينما الفرنسية ثم عاد واعتذر لهم سرا، بل أرسل لأحدهم رسالة اعتذار لم يكشف الرجل عنها أبدا حتى وفاته”.
فيلم جد قاس وجرئ فتح ملفات تريفو بنظرة نقدية صارمة، محددا هدفه منذ البداية، “الصراحة والوضوح بهدف الوصول إلى الحقيقة”، والمثير في الفيلم هوهذا التهافت لحشد من أصدقاء تريفو وأعدائه على حد سواء من أجل تسجيل آرائهم في الرجل الذي غادر الحياة، بل إن الكثير منهم لم يغفر له أخطاءه وهفواته وإن لم ينكروا فضله على سيرة الفن السابع في فرنسا، غودار قال حين بلغه نبأ وفاته: “لقد فقدنا جميعا (يقصد أعضاء الموجة الجديدة) عمودنا الفقري”.
اعتمد مخرجا الفيلم في عملهما على مذكرات وكتب ورسائل تريفو، خاصة تلك التي جمعها في كتاب جيل جاكوب وكلود جيفراي، وهما من أصدقاء تريفو، وقد تطلب منهما جمع الرسائل جهدا استمر لأكثر من عامين.
على الرغم من غنى الفيلم فإن هناك فقرا واضحا وتغاضيا ملحوظا عن إثارة جوانب أصيلة في شخصية الرجل كشفت عنها كتاباته عامة ورسائله خاصة، شفافية في القلم وسيولة في التعبير ووفاء عميق لبعض الأصدقاء وحب لا متناه للمرأة والشعر.
قريب من الأدب
الرسائل التي خلفها تريفو جعلته يبدو في نظر الكثير من النقاد وعشاق فنه، المخرج السينمائي الأكثر قربا من الأدب، ففي عصر الغزو المكثف لوسائل الاتصال الحديثة وخاصة الهاتف، كان الرجل يفضل المراسلة، مراسلة الأصدقاء و”الأعداء”على حد سواء، الرسائل التي جمعت ونشرت (أكثر من 500 رسالة)، أغرت الكثيرين بقراءاتها، كما أغرتهم قبل ذلك أفلامه بالمشاهدة، وقد شدت القراء، لا بمضامينها المثيرة وإنما بأساليبها الرصينة وكثافتها الشعرية وقيمتها الأدبية.
هناك الرسائل التي كان يرسلها مثلا، إلى صديقه كلود جيفراي، وشكلت وحدها ثروة فنية وأدبية، لهذا قرر صاحبها نشرها مع ضم مراسلات أخرى إليها، لأن علاقة الرجلين ذات جذور عميقة، وهو يقول: “تعرفت على تريفوعندما كان عمري عشرون عاما، خلال الخمسينيات، داخل الأندية السينمائية، كنت الوحيد الذي يملك سيارة، وتريفو كان يركب معي بعد نهاية العروض، ومن ثم أصبحنا أصدقاء. “… عندما قرر تريفو إخراج فيلمه الأول عام 1957 مع جيرار بلين وزوجته برناديت لافون، ساعده جيفراي في الإخراج بل سيصبح فيما بعد السيناريست المفضل لديه وسينجزان معا مشاريع عديدة أهمها فيلم “قبلات مسروقة”، كما تعاونا في كتابة سيناريو “السارقة الصغيرة”، لكن تريفو مات قبل انهائه، لهذا أوكل مهمة إخراجه لتلميذه كلود ميلر سنة 1988.
الطفل المشاغب
أهمية قصوى تحملها أيضا الرسائل التي كان يبعثها تريفو لصديق الطفولة وأيام الدراسة روبير لاشوناي، فقد عاشا معا حياة جد قاسية، جابا شوارع باريس الليلية الكئيبة تحت بنادق الاحتلال الألماني، نزعا ملصقات الأفلام من أمام أبواب القاعات السينمائية، معا سرقا آلة كاتبة من مكتب والد تريفو من أجل شراء تذكرة دخول لمشاهدة عرض سينمائي، بسبب ذلك وغيرها من الممارسات الطفولية، كانت الإصلاحية في انتظار تريفو. عندما بلغ التاسعة عشرة من عمره إلتحق بالجيش الفرنسي المرابط بالهند الصينية، في أول إجازة خرج ولم يعد، ليلقى عليه القبض ويعاد بالقوة للتجنيد. في تلك الفترة تحول إلى ناقد سينمائي في”دفاتر السينما”وفي مجلة “فنون وعروض”، حيثص إلتقى بالناقد السينمائي أندريه بازان، الذي شجعه على نشر أول مقالاته، لقد ظل يحتفظ بذكرى جميلة عن هذه المرحلة بل سجلها بأسلوب مؤثر في بعض رسائله.
جون لوك غودار، رائد الموجة الجديدة، سيشكل هو الآخر جزء هاما من المراسلات، تصادقا وتراسلا لمدة طويلة، ومع ذلك، لن يغفر له تريفو أخطاءه، الرسالة الأخيرة التي ربطت بينهما (حررت في شهر يوليو 1973) جاءت متضمنة كلاما ينضح بالمرارة والسخط:” أشعر بأن الفرصة جاءت لكي أقول، أنك تصرفت طويلا ككومة قاذورات”.
عشق المرأة
علاقاته بالنساء كانت دوما محط نقاش وجدل، ومراسلاته معهن كانت مليئة بروائح الفضيحة وتعرية المشاعر الأكثر بوهيمية، السينما بالنسبة له كانت “فن المرأة بإمتياز، ويعني بها إبداع الممثلات”، لهذا لم يتورع في السقوط بين أحضان اغلب اللواتي اشتغلن معه، يقول مدير تصويره بيير ويليام غلين: “على الرغم من أنه كان شخصا كتوما، إلا أن علاقاته بنساء فريقيه التقني والفني كانت دائما مباشرة وساخنة”. كتب مرة لصديقه ليليان دافيد: “عندما ابدأ العمل في فيلم، أتحول إلى فتى جذاب آسر بملامح فاتنة”.
جان مورو وماري بيزييه وكاترين دينيف وكلود جاد ودورلياك وجاكلين بيسيه وفاني أردان وغيرهن كثيرات، عشن معه، حقا أوافتراضا،علاقات غرامية مشبوهة داخل ستوديوهات التصوير أوفي الغرف البعيدة المعزولة، علاقات غذاها الكثير من الإشاعات والأقاويل والكتابات الصحفية الفضائحية.
مات تريفو، عاشق السينما والنساء، لكن أفلامه وكتاباته لازالت تغري بالبحث والتنقيب، تدفع عشاق السينما الفرنسية، أساسا عشاق سينما الموجة الجديدة، بالغوص في عوالم فنان استثنائي لن يموت مهما طال الزمن، فنان سيظل حيا بإبداعاته الغزيرة لكن أيضا بسيرته الحياتية المتقلبة التي خلقت دائما حوارا جادا مع الموت: لقد كتب ذات مرة على صفحات مجلة ليكسبريس يقول : “لماذا لا تكون لدينا مع الموت نفس التنوع في المشاعر مثلما هوالأمر مع الحياة، نفس العلاقات المتوترة المتوحشة لكن الحميمية”.