عن الفيلمين المصريين في مهرجان فينيسيا السينمائي
أمير العمري- فينيسيا
عرض في الدورة 81 من مهرجان فينيسيا السينمائي فيلمان يحملان اسم مصر، هذا إن اعتبرنا أن الأفلام تمثل مخرجيها حسب التصنيف الذي افضله شخصيا. أحدهما هو “معطر بالنعناع” وعرض في تظاهرة “أسبوع النقاد” التي تقام على هامش المهرجان، والثاني هو “البحث عن منفذ لمستر رامبو” الذي عرض في قسم أو “آفاق الممتد” وهو قسم مستحدث على غرار “المنتدى الممتد” في مهرجان برلين، لعرض الأعمال الأولى لمخرجيها.
كلا الفيلمين ينتميان حرفيا إلى ما يعرف بــ”سينما المؤلف”، أي كلا منهما كتب له السيناريو مخرجه، وهو مفهوم ليس مجديا بالضرورة، وغير المفهوم الفني لفيلم المؤلف، أي الفيلم الذي لا يشترط أن يكتبه مخرجه، بل قد يشترك في كتابته أكثر من كاتب، على أن يمتلك رؤية خاصة، وعالما خاصا.
المشكلة أن شباب المخرجين الذين قرروا الانفصال التام عن واقع السينما المصرية نتيجة لأسباب تتعلق بصعوبة الإنتاج في الوقت الحالي، خصوصا للأعمال الطموحة فنيا، ويرغبون في التواجد في أوساط السينما الأوروبية، يستندون في تمويل أفلامهم على شركات أوروبية، ومساهمات من صناديق الدعم العربية، فالفيلم الأول “معطر بالنعناع” من الإنتاج المشترك بين فرنسا وتونس وقطر ومصر، والفيلم الثاني ممول من صندوق دعم مهرجان البحر الأحمر، وأيام عمان لصناعة السينما، والصندوق العربي للثقافة والفنون (بيروت)، والمنظمة الدولية الفرانكفونية.
ولا شك أن التحرر من قيود الإنتاج يسمح للمخرج بتحقيق حلمه في إخراج عمله الأول، ولكن المشكلة أنه بعد هذا العمل الأول، يختفي المخرج من ساحة العمل بعد عرض فيلمه في عدد من المهرجانات، فتجربته لا تستكمل، فلا تظهر له أفلام جديدة. ولدينا هنا أمثلة واضحة على ذلك: فالمخرجة هالة لطفي مثلا لم تقدم شيئا في مجال الإخراج منذ أن حققت فيلمها “الخروج للنهار” (2012)، وهو الأمر نفسه في حالة تامر السعيد بعد فيلمه “آخر أيام المدينة” (2013)، ومحمد حماد “أخضر يابس” (2015)، “ولم يقدم المخرج نمير عبد المسيح شيئا بعد فيلمه الأول “أنا والعذراء والأقباط” (2012)، وكذلك أبو بكر شوقي بعد فيلمه “يوم الدين” (2018) الذي شارك في مسابقة مهرجان كان، وكذلك أحمد فوزي صالح (“ورد مسموم”- 2018). وهكذا. وهذه الأفلام كلها، من التمويل الخارجي.
من المشاكل التي تنتج عن “تحرر” المخرج من ضغوط السوق المصرية، أنه يضرب عرض الحائط بأهمية وجود خط قصصي (حبكة) أو سرد يقوم على منطق ما، يضع بين ثناياه ما يقود المتفرج إلى معرفة ما يرمي إليه، ولا يتركه للتخمين ومحاولة استنتاج ما يريد أن يرويه له الفيلم، وليس ما يقوله الفيلم. ومن دون والسرد وتقديم عالم ينبض بالحركة والحياة وشخصيات ترتبط ببعضها البعض، وبالمكان والزمان الذي تعيشه، فلا فائدة من صنع فيلم يمتليء بالألغاز، ولا يصل في النهاية إلى هدفه.
هذه المشكلة مثلا تتضح كثيرا في فيلم “معطر بالنعناع” لمخرجه محمد حمدي، الذي لم يجد حتى اهتماما يذكر من جانب النقاد الأوروبيين الذين أخذوا ينسحبون من العرض الذي حضرته، لأنهم لم يفهموا شيئا، ولم يروا فيما شاهدوه ما يسلط الضوء على موضوع يرتبط على نحو ما، بما يحدث في مصر اليوم، فأنت لا تصنع الأفلام في الفراغ، بل يجب أن يكون الفيلم نفسه معبرا عن الحالة المصرية، عن المزاج المصري السائد، وإلا فلماذا يجهد أي مخرج نفسه في تقديم عمل جديد.
ليس معنى هذا أن الفيلم يجب أن يتناول موضوعا “واقعيا” بل يمكن للمخرج أن يحلق في أعلى آفاق الخيال، ويتحرر تماما من الواقعية ويخلق أسلوبه الذي يتسق مع كبيعة مادة الفيلم نفسه، ولكن حتى في هذه الحالة، يجب أن يكون هناك تطور ما في السرد، وإلا سيظل الفيلم يدور حول نفسه، في موضعه.
إننا نحكم على الأفلام أيضا، انطلاقا من معاصرة الفيلم لواقعه، مهما كانت درجة الخيال التي يصل إليها مخرجه في صياغة موضوعه. ولكن مرة أخرى، يجب أن يكون هناك موضوع، وسياق للموضوع ومنطق للسرد، حتى في أكثر الأفلام سيريالية، ونحن لا يجب أن نطلق على أي فيلم غامض، غير واضح المعالم، أنه عمل “سيريالي”، فالسيريالي هو الذي يخترق الواقع ويعلو فوقه أي يخرج منه. شجرة في البحر هي صورة سريالية لان لا وجود لها في الواقع، أما شخص يبحث عن فتاة ضاعت منه في زحام المدينة، فهو ليس عملا سيرياليا، ومن الخطأ اعتبار فيلم “البحث عن السيد مرزوق”- مثلا- فيلما سيريالياً بالمعنى المذهبي، بل هو فيلم يخلق واقع موازيا. قد يكون فيه مشهد ما أو لقطة أو أكثر، تستوحي من السيريالية لكن هذا لا يجعله سيرياليا.
أعود إلى فيلم “معطر بالنعناع”، أول الأفلام الروائية الطويلة لمحمد حمدي الذي صور ثلاثة أفلام تسجيلية طويلة منها فيلم “الميدان” (2013) ثم تحول الآن للإخراج.
يبدأ الفيلم بلقطة ثابتة وإضاءة خافتة، وألوان قاتمة (مستمرة في الفيلم كلع وتتسق مع مزاج الفيلم وطبيعة موضوعه): سيدة محجبة تواجه شخصا لا نراه سوف نستنتج أنه طبيب، ونحن نراها من البروفايل، أي من جانب وجهها. إنها تشكو، وتكرر الشكوى، فهي لا تستطيع النوم بسبب شعورها بالألم. هل الألم في جسدها أو رأسها؟ والسبب أن ابنها اختفى في ظروف غير واضحة: “ابني يرفض أن يموت.. وقلبي يؤلمني”. والطبيب (الذي لا نراه) يسألها عن الألم، ثم يقر بأن مشكلتها ليست طبية، ولكنه يعود فيطلب منها- رغم ذلك، عمل أشعة وتحاليل، ثم يطلب مبلغ 200 جنيها قيمة الكشف، لكنها تقول إن ابنها ظل مختفيا لثلاث سنوات ثم ظهرت جثته فدفنوها منذ 4 سنوات، لكنها لا تعتقد انه مات، وأن الجثة جثته، بل هو لايزال حيا، وهي لا تعرف أين، لكن الألم شديد.
سيظهر الطبيب “بهاء” ليتماهى أكثر معها فيقول إن قصتها تذكره بقصة وقعت له، يرويها لها، فيقول إنه يبحث منذ زمن عن الفتاة التي أحبها، والتي فقدها (لا نعرف كيف) والشيء الوحيد الذي يمتلكه منها، هي الرسالة التي كتبتها له، ولكنها ابتلت بالماء، ومازالت مبتلة.
ينتقل حمدي إلى شقة مدمرة مهجورة، شأن جميع الأماكن التي ينتقل إليها الفيلم مع صحبة من الأصدقاء: عبده ومهدي، وبالأخص حسين الذي يقدم لهم الحشيش، جميعهم مصابون بالاكتئاب، لأسباب معقدة، منهم من يشع جسده برائحة النعناع، وتظهر ندوب عليه، وآخر يتحدث عن اصابته بـ171 رصاصة فجرت رئتيه، وهكذا.
الموضوع الذي يمكن تخمينه من تحت السطح هو مناخ اليأس والإحباط الذي نتج بعد فشل ثورة يناير 2011، لكن هذا يظل مجرد استنتاج، ولكي تصل إليه يجب أن تشاهد مشاهد مكررة طويلة، مظلمة داخل أماكن مهجورة كالقبور، والحديث لا يتوقف عن الحشيش وسحر الحشيش والولع بالحشيش خصوصا النوع الذين يوفره للصحبة الحاج مهدي.
هل هذه الشخصيات حقيقية؟ أم أشباح تجتر الماضي؟ هل هي جثث تستيقظ وتتحدث في “مونولوجات” غامضة عما فقدته من نفسها، من أحبائها. فهذا فيلم عن الفقدان، ويبدو كما لو كان حالة ممتدة من “الندب” أو “التعديد” ولكن من خلال تلك “المونولوج”، فلا يوجد “ديالوج” في الفيلم بالمعنى المعروف، أي حوارات حقيقية تدور بين الأصدقاء ربما. لكن المشكلة أن الصياغة الفنية جامدة، مسرحية، تشبه مسرح الغرفة، والحركة مصطنعة، والحوار يخفي أكثر مما يكشف، والصورة تمتليء بالظلال والكتل القاتمة، وكل الأماكن متشابهة كأنها قبور، والمشكلة الواضحة في الفيلم، غياب أي تطور يطرا على مسار السرد بحيث ينقل الفيلم خطوة أبعد من مجرد “وصف حالة”. هي حالة اليأس والتدهور والضياع في الفراغ وطبعا، الحشيش.
الفيلم يستوحي من مسرح العبث، ويضع شخصياته في فضاء جامد، للتأمل في مسار حيواتهم، ولكن الحوار عموما لا يغادر الواقعية الخشنة المليئة بالفجاجة، ولا يقترب من لغة العبث الشعرية. ويظل الفيلم عملا تجريبيا، أرجو أن يتيح الفرصة لمخرجه أن يتوصل إلى أسلوب أكثر رسوخا في فيلمه القادم.
إذا ما انتقلنا إلى الفيلم الثاني “البحث عن منفذ لمستر رامبو” وهو أول أفلام مخرجه خالد منصور، فسنجد حبكة أقل تعقيدا وأكثر وضوحا، بل وتبدو في أحيان كثيرة، أقرب إلى سذاجة وبساطة أفلام الأطفال أو الأفلام التربوية التي تحثنا على الاهتمام بالحيوان، وتور علاقة الإنسان بالحيوان في بيئة قاسية بطريقة مؤثرة.
و”رامبو” هو الحيوان، أي الكلب الذي يرتبط بصاحبه الشاب “حسن” ارتباطا كبيرا. وحسن يعمل حارسا ليليا في نقابة المعماريين، وهو مهدد مع أمه “ألطاف” بالطرد من القشة المتواضعة التي يسكنان فيها في حي شعبي، لأن صاحب الشقة، الميكانيكي” كارم” يريد الاستيلاء عليها وفتحها على الورشة التي يمتلكها. وهذا الشد والجذب يؤدي إلى مشاجرة، حيث يتدخل “رامبو” لإنقاذ حسن من بطش كارم العنيف، فيعضه في منطقة حساسة، مما يثير جنون كارم الذي يقسم على قتل رامبو.
يصطخب حسن صديقه رامبو، مبتعدا عن الشقة والحي كله ليبحث عن مكان يتركه فيه، فيقابل فتاة من الواضح أنه كان على علاقة بها وربما كانت أيضا خطيبته، لكنها تركته لكي ترتبط بشاب أكثر قدرة من الناحية المالية على الزواج، إلا أنها كما نلمح، مازالت تحن إليه. وهي تستضيف رامبو لوقت محدد.
خلال رحلة حسن نمر بأماكن كثيرة من القاهرة، وكأننا أمام “أوديسة” ليلية، لشاب يعاني الشقاء من الناحيتين، همشه المجتمع، ويهدده الجشع بفقدان المأوى مع أمه التي لا تمانع حتى من التضحية بالكلب وتركه للشقي “كارم” على أمل أن يحن قلبه ويتركهما في القشة.
وحسن مضطر للعودة للعمل، ثم التغيب عنه مجددا، وعندما ينجح في وضع الكلب في بيت لرعاة الكلاب، تقع مأساة تكاد تقلب حياته. فالمشكلة أن السيناريو الذي يقوم على فكرة طريفة هي العلاقة بين الشاب وكلبه، وكيف أن الكلب أكثر رقة وإخلاصا من البشر تجاه صاحبه (وهي فكرة ليست جديدة بالطبع)، يصنع سياقا لا يستطيع الكاتب وهو نفسه المخرج، أن يصل به إلى نهاية طبيعية منطقية، فيلجأ إلى اصطناع مواقف لا تقنعنا.
عندما يذهب حسن بالكلب إلى بيت رعاية الكلاب حيث يقابل المشرفة الجميلة (مثل نجمات السينما!)، التي تطمئنه وتقبل استضافة الكلب، نفاجأ بهجوم مباشر من قبل الشقي “كارم” الذي يطلق الرصاص على الكلب. كيف أتى كارم إلى هذا المكان في هذا الوقت؟ لا نعرف ولا يوجد أي تفسير أو تمهيد!
لكن بعد ذلك سنشاهد حسن يقوم مع شخص آخر بدفن كلبين، فنتصور أن “رامبو” أحدهما، لنكتشف فيما بعد ان “رامبو” أصيب ففقد عينا من عينيه فقط، وأن الكلبين ينتميان للرجل الآخر، أي أن كارم أخطأ في التصويب!
وفي مشهد يصلح أن يدور في الحلم أو الخيال، يذهب حسن إلى مكان غريب يقع تحت الأرض، حيث يتجمع الشباب يرقصون على الموسيقى الصاخبة، ليقابل فتاة حسناء جدا، يطلب منها اصطحاب الكلب معها إلى خارج البلاد (!!) وهو أمر غير معقول بالطبع، ولا يمكن تصوره أصلا، لكنها توافق وتقول له إنها لا تأتي الى مصر سوى مرة كل سنة لزيارة أمها وتقضى أسبوعا معها، لذا لن يمكنه أن ير الكلب كثيرا!!
كلها تحايلات ومشاهد مصنوعة صنعا، شديدة السذاجة، في سيناريو يتأرجح بين قصة معاناة أسرة بسيطة في واقع القاهرة الذي يسحقها، وقصة أخرى عن بحث شاب لمأوى لكلبه لإنقاذه من القتل على يدي رجل مجرم. وبالتالي يفقد الفيلم وحدة الموضوع، رغم الرابط الهش بين القصتين، ويفقد أيضا الاتساق في السرد بحيث يخرج عن الواقع ليدخل في دائرة الخيال من دون أن يكون واضحا أنه خيال. ورغم براعة التصوير خصوصا في الليل، إلا أن الفيلم ينتهي إلى جدار أ!شخصيا لم أجد الممثل “عصام عمر” مناسبا على الإطلاق في دور حسن، فهو يحتفظ بتعبير واحد متجهم، على وجهه طول الفيلم، كما أن صوته السطحي خصوصا عندما ينادي “رامبو” يبدو فاقدا لأي حرارة، وأداؤه بشكل عام جامد، وهي أساسا مسؤولية المخرج الذي ترك له الأمر ولم يتدخل أو يحاول خلق الأجواء التي تجعل الأداء يتلون ويصبح أكثر حرارة. قارن فقط بين أداء عصام علي وأداء الممثل الإيطالي “مارسيللو فونتي” في فيلم “مربي الكلاب” للمخرج الكبير ماتيو غاروني (2018). وهو الفيلم الذي أعتقد انه كان ملهما بدرجة كبيرة للمخرج خالد منصور، لكتابة نص فيلمه هذا، ففيه أيضا علاقة خاصة مع الكلب أو الكلاب، وعلاقة أخرى ملتبسة مع شقي عنيف من مافيا المدينة.. ولكن شتان ما بين العملين!
ويجب الإشادة باستخدام الكلب الذي قام بدور “رامبو” في الفيلم بعد تدريبه تدريبا جعله يندمج، سواء مع الممثلين وخصوصا بطل الفيلم، أو في المشاهد الكثيرة التي يلعب فيها الدور الرئيسي، بحيث بدا مقنعا ومعبرا. وهو يظل النجم الحقيقي في الفيلم، وقد نجح المخرج كثيرا في توظيفه وإدارته وتصويره في اللحظات المناسبة.