عن السينما المستقلة: قهوة مالحة وكوباية شاى

أنها أفلام لن تعرض فى دور العرض ولا تهدف إلى الربح المادى فمن الطبيعى أن تجد فيها كل تنوع حرمت منه الشاشة الكبيرة التى صار لها سوق له طبيعة خاصة جدا هدفها الأول هو تعبئة الزكائب بالبرادس وآخر ما تهدف إليه غالبا هو الفن من أجل الفن.

وفى عالم السينما المستقلة تجد مختلف الألوان والأشكال فمن التجريب إلى الرومانسية المفرطة إلى الرعب إلى السياسة وعلى كل لون يا باتيستا.

المهم فى أفلام سينما طظ أن يعبر كل فنان عما بداخله بلا قيود وبلا إعتبارات للسوق الإستهلاكى الذى صنع آلياته الدخلاء على المهنة والذين للأسف صاروا أسياد هذه المهنة فى زماننا وأصبحوا من أهم رموز التلوث الأسوأ على الإطلاق وهو التلوث الفكرى إن جاز التعبير فصنعوا بأيديهم جمهورا أدمن الركاكة وأصبح لا يرضى عنها بديلا فإختلت الموازين وإذا قدمت له السينما وجبة جادة دسمة رآها ثقيلة الظل عسيرة الهضم وعزف عنها فطالها الفساد.

ومن أفلام السينما المستقلة إخترت فيلمين لهذا المقال        

كوباية شاى

إخراج : محمد رمضان الجابرى

فكرة وسيناريو: رءوف الشتيوى مع المخرج

بطولة: أمير خيرى، أشرف وحيد، عمرو توفيق

الزمن: 7 دقائق

مجموعة أشخاص (ذكور) مختلفى الأعمار والمستويات الإجتماعية جالسون على شاطىء البحر يصطادون كل بسنارته ومنهم من لا يصطاد ويجلس واجما ناظرا فى الفراغ يجمعهم كوب شاى يقدمه أحدهم للآخر الذى لا يعرفه لكنه يجلس فقط إلى جواره وآخر يقدم كوب الشاى لآخر غريب عنه لكن فقط يجمعهم المكان الذى يثير فى النفس الكثير من الشجون .. وكوب الشاى يتنقل من يد الكهل إلى يد الشاب إلى يد الطفل ومن يد الفقيرالسعيد إلى يد الغنى الحزين ذو النظارة القاتمة غالية الثمن والعكس من يد الغنى المكتئب إلى يد الشاب اليافع .. الجميع على شاطىء البحر والجميع يصطادون وكلهم صابرون وبعضهم مثابرون وآخرون يائسون وكل ما يجمع ويربط بينهم فقط هو (كوباية شاى).

قد تبدو الفكرة بسيطة وهذا هو سر تعقيدها فالإستسهال الذى تشعر به فى المرة الأولى لمشاهدتك للفيلم سيدفعك حتما لمعاودة مشاهدته ولم لا وزمنه لا يتجاوز السبع دقائق فقط فلن يأخذ منك الكثير من الوقت لتشاهده مرة ثانية ومرات أخر وفى كل مرة ستكتشف فيه شيئا جديدا فقد ترى نفسك فى أحد هؤلاء الأشخاص الجالسون على صخور الشاطىء قد تكون العجوز الذى لازال منتظرا أو الشاب الذى ينتظر وسوف ينقضى عمره فى الإنتظار أو الغنى التعيس أو الطفل الذى ينتظر أيضا وقد يظل عمره كله فى حالة صبر وإنتظار.

ميزة الفيلم فى رأيي أنه يترك لك مساحة كبيرة للتفكير والتأمل ساعد فى ذلك المكان الخلاب وما للبحر من سحر على الأنفس وإيقاع متناغم مع الحالة وموسيقى هادئه لا يقطعها سوى صوت أمواج البحر المتلاطمة وحوارا يكاد يكون معدوما ففى الفيلم كله لا توجد سوى جملة حوارية واحدة فى نهاية الأحداث من الغنى التعيس للشاب المنتظر بعدما قدم الأول للثانى (كوباية شاى) – (بس أنا مبعرفش أصطاد .. أنا أعلمك).

الفيلم حالة خاصة بمخرجه إن لم يكن قد أحسها ما كان قد عملها وهو يتركك لتفهم وتتأمل وتفكر وإفهم ما شئت فإن خسفت بالفيلم الأرض وسطحت هدفه فلا غبار عليك لك هذا حتى وإن حملت الفيلم أكثر من طاقته وفلسفته أكثر مما يستحق فلا غبار عليك أيضا فكلنا فى تفكيرنا متباينون ولكل منا وجهة نظره ، إفهم ما شئت وقل ما شئت المهم فقط أن تحس وهذا هو ما يريده الفيلم منك ببساطه وأرى أن المخرج نجح بالفعل فى إثارة أحاسيسنا.

قهوة مالحة

إخراج: عمروش

بطولة: أحمد هلال ، نور ، محمد فؤاد ، مونى

الزمن: 10 دقائق

(فريدة) شابة نفهم من اللقطات الأولى انها تقيم بمفردها فى شقتها وتشعر بملل ليس مهما أن نعرف أسبابه فالفيلم كله فوتومونتاج متتالى وتسارع للزمن نراها فى المشهد الثانى تسير فى أحد الشوارع ويتتبعها لص يخطف حقيبة يدها فيطارده البطل (ريان) وليس مهما أن نعرف لماذا إختار له المخرج هذا الإسم تحديدا –المهم- يتمكن ريان من إعادة الحقيبة لفريدة التى تعرض عليه بعض المال نظيرا لشجاعته لكنه يرفض بشهامة فتخبره أنها يمكن أن تفعل له أى شيء!

وأول ما يخطر بباله ليس أن يدعوها إلى السرير ولكن أن تشرب معه فنجانا من القهوة والمشهد التالى لهما فى الكافيه يأتيهما النادل فيسألها ريان ماذا تود أن تشرب على العلم من أنه فى اللقطة السابقة عزمها على القهوة تحديدا ولكن من غرائب القدر أن تطلب هى القهوة!

 وهو أيضا يطلب من النادل (قهوة بملح زيادة) يذهل النادل لطلب ريان لكن الأخير يصر على طلبه مؤكدا إياه بشده وعندما تسأله فريده عن السر يخبرها بأنه ولد فى مدينة ساحلية وطعم الملح يذكره بأهله الذين هجرهم فتتعامل معه فريده بإستغراب ونرى على وجهها تعبيرات نفهم منها أنها ربما تراه مجنونا أو مختلا فتهم بالإنصراف لكن فى تطور مفاجىء وفى نفس المقابلة الأولى الغريبة تلك يطلب منها ريان الزواج

 والمشهد التالى لهما وقد تزوجا وهما فى عش الزوجية وفريدة تعد لريان القهوة ولا تنسى بالطبع أن تضيف لها الكثير من الملح ويشربها ريان بإستمتاع ثم ينتقل المخرج بنا إلى فوتومونتاج سريع بعد مرور عشرون عاما كاملة (لاحظوا هذا الفارق الزمنى الكبير جدا) فإذا بفريدة جالسة وحيده حزينة متشحة بالسواد ونفهم سريعا ان ريان مات والبقاء لله وحده وها هى فريده تقرأ خطابا تركه لها ريان يعترف لها بالسر الخطير وهو أنه لم يكذب عليها أبدا سوى فى أمر واحد وهو موضوع القهوة المالحة فهو عندما رآها كان مرتبكا للغاية وبطريق الخطأ بدلا من أن يطلب من النادل سكر زيادة طلب ملحا زيادة وبسبب الإحراج والخجل لم يتراجع فى كلامه وظل المسكين طوال العشرون عاما وأكثر يتجرع من يديها القهوة دائما بالملح وقد كان طعمها سيئا للغاية ومثلما بدأ الفيلم بإظلام للشاشة ينتهى بإظلام آخر على صوت طفلتهما وهى تسأل أمها عن طعم القهوة بالملح فتجيبها فريدة بـأنه أحلى طعم فى الدنيا وينتهى الفيلم بجملة مكتوبة تلخص تيمة الفيلم التى أراد المخرج إيصالها لنا ولكنها لم تصل قائلا (الكثير من البشر يستحقون شرب المر من أجلهم لأنهم منحونا الكثير من السعادة والراحة والحب).

 عندما طالعنى صوت فيروز فى بداية الفيلم بأغنية (صباح ومسا) إستبشرت خيرا خاصة مع تصوير الفيلم بالأسكندرية وما أجمل أن يختلط شدو فيروز بجو الأسكندرية وتوقعت ان ارى تحفه فنيه ولكن للأسف ومع اللقطة الأولى خاب ظنى بالمخرج عمروش الذى عمد طوال الفيلم إلى الإنتقال والسفر بنا عبر الزمن بلقطات فوتومونتاج متواليه وهو أسلوب رائع لمن يتقنه ولكنه كالسيف فإن لم تقطعه قطعك فمع الإنتقال الأول نرى ظل الكاميرامان يظهر أمامنا على الحائط وهو يلف بالكاميرا!

وهو خطأ فادح ورهيب وإن مر على المخرج الذى اظن انه هو نفسه المصور فتلك كارثة والكارثة الأعظم إن كان قد أدرك خطؤه وظن ان أحدا لن يلاحظه فهو هنا يستخف بعقلك ، ولكن ربما عليك أن تتعامل مع عمروش وأخوته بمبدأ (حبيبك يبلع لك الزلط وعدوك يتمنى لك الغلط) لأنهم هربوا من جحيم السوق الذى لا يرحم إلى عالم أرحب وفضاء أوسع لينفسوا فيه عن أحلامهم وطموحاتهم ، ولكن عمروش لا يعطيك الفرصة لتكون حبيبه بل يناصبك هو العداء منذ اللحظات الأولى فها أنت ترتطم بأداء ممثلين بارد وفاتر تخرج الجمل من أفواههم رغما عنهم بلا إحساس وتعبيرات وجوههم مفتعلة لا تعبر عن الموقف فترى المخرج الفذ أساء إختيار ممثليه الذين أصلا لم يوفق فى تحريكهم وعليك أن تصبر إلى المنتهى فمن يصبر إلى المنتهى فذاك يخلص!

ويطالعك الفيلم بعد ذلك بالكثير من اللامنطقية فريان يطلب فريدة للزواج من أول مقابله وهى التى كانت تتعامل معه على أنه متخلف عقليا توافق ويتزوجا والأدهى من كل ذلك أنه وبعد مرور عشرون عاما كاملة فلازالت فريدة فى ريعان شبابها لم يصبها الزمن بأى تغيير يذكر ولا حتى تجعيده واحده على وجهها البض الناعم؟!

 ربما لم يلتفت المخرج إلى هذا الأمر ولكن إن كان الزمن لا يؤثر فى فريدة تلك فياليتنى أتزوج فريدة ولو أكل عليّ الزمن وشرب .. عزيزى عمروش عليك أن تعلم بأن النوايا الطيبة وحدها لا تصنع فيلما جيدا.

Visited 27 times, 1 visit(s) today