عن اقتباس توفيق صالح لرواية “المخدوعون” لغسان كنفاني
(1 من حلقات قادمة)
(تنويه ضروري بعض الشيء: يمثل ما سيرد أدناه إيجازاً مُخِلا من أحد جوانب مشروع كُتَيِّب عملت عليه في ثلاث أوراق بحثية في ثلاثة مساقات لفيلم توفيق صالح الأشهر “المخدوعون” المبني على الرواية القصيرة الأشهر بدورها “رجال في الشمس” لغسان كنفاني.
واختصاراً فقد تطورت لدي فكرة دمج تلك الاوراق البحثية الثلاث وإصدار كتيّب عن الفيلم بالعربية على شاكلة الكتيبات النقدية التي يصدرها بنجاح المعهد البريطاني للسينما(BFI)، حيث يتم تكليف ناقد معين بتأليف كُتَيِّبعن فيلم بعينه له بصمته ووقاره.
وهكذا فقد خاطبت إحدى الجهات الثقافية العربية المرموقة طارحاً فكرة إصدار الكتيّب فكان الرد بارداً لأسباب سياسية ما كان لها أن تكون أكثر صراحة مما حدث.
واختصاراً فقد وضعت فكرة إصدار الكتيّب في الفريزر وانشغلت بمشروعات أخرى. لكني أخرجت الفكرة من الثلج حين زارنا توفيق صالح بصفته ضيفاً عزيزاً ورئيساً بارعاً للجنة تحكيم أفلام المسابقة العربية في مهرجان مسقط السينمائي في دورة العام 2008، فتعرفت إليه وفاتحته بفكرتي فأبدى حماسه من دون التخلي عن تواضعه المعروف.
وهكذا فقد عقدنا عدة جلسات نقاشية هنا وضعته فيها في صورة المخطط العام للمشروع، واستوضحته فيها حول بعض النقاط. ثم تلت عودته الى القاهرة مكالمات هاتفية أؤكد له فيها ان الكتيب “سيصدر قريبا” وسأطلعه على مخطوطته النهائية، لكني فقط أريد الانتهاء من كذا وكذا قبل ذلك، فكان يمزح في آخر تلك المكالمات بالقول بما معناه: هوّه يا راجل أنا حموت خلاص والكتاب بتاعك دَهْ لسّه ما طلعش!وإن كنا قد تبادلنا الضحك حينها، فإنه يؤسفنيجداً الليلة ان البشر يرحلون، وان المخطوطات تتعفن، وان الاعتذار والندم لا يحيقان بالمرء إلا في وقت متأخر كالعادة).
———
إلى ذكرى توفيق صالح، في الاستعادة دوماً.
“الرحلة لن تطول كثيراً… هذا هو الشيء المؤكد لدي الآن…”
– غسان كنفاني (1)-
مسعاي من هذا النزر تقديم تحليل نقدي متعدد المرجعيات والمنهجيات النظريةلفيلم توفيق صالح “المخدعون” (2) مقارنة بمصدره الأدبي الأصل، أي رواية غسان كنفاني “رجال في الشمس” (1963) (3). وستتضمن هذه المحاولة كشف أوجه التماثل والتغاير بين النصين، وإضاءة الجوانب التي يختلف فيها الفيلم عن الرواية على الرغم من التشابه الظاهري بينهما، والذي أوقع الكثير من النقاد في ارتباكات مؤسفة. كما انني في سياق المقارنة وخارجه سأعرض لبعض الخصائص الجمالية للفيلم باعتباره نصاً يتناغم بطريقته مع مصدره الأدبي في إضاءة ومَشكلة الجوانب التي تجعل من السرد الفني سرداً لحالة سياسية، وتاريخية، وهرمنوطقية، وظرف إنساني، وإمكانية إبداعية.
عن غسان كنفاني بإيجاز
ولد غسان كنفاني لأسرة من الطبقة المتوسطة في عكا بفلسطين في 29 إبريل 1936. وقد تزامن ميلاده مع أحداث الانتفاضة الفلسطينية ضد الإنجليز والتي قتل فيها نحو خمسة آلاف فلسطيني (تشير بعض الأدبيات السياسية الفلسطينية المعاصرة إليها باعتبارها “الانتفاضة الأولى”). وبتأسيس الدولة الصهيونية في 1948 نزح كنفاني مع أسرته وأسر أخرى على ظهر شاحنة إلى لبنان، ومن هناك لجأ مع أسرته إلى سوريا، فواصل تعليمه من دون أن يتمكن من إكمال دراسته الجامعية في جامعة دمشق. وقد عمل كنفاني صحفياً ومعلماً في سوريا، والكويت، ولبنان.
لقطة من فيلم “المخدوعون”
انضم كنفاني مبكراً إلى حركة القوميين العرب التي اعتنق فرعها الفلسطيني الفكر اليساري بالكامل بزعامة جورج حبش بعد نكسة 1967، فأصبح ذلك الفرع منظمة ثورية مسلحة هي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والتي من المعروف انها ألقت بظلاها على حركات التحرر الوطني في كامل الوطن العربي. وهكذا فقد صار كنفاني الناطق الرسمي بلسان الجبهة، خاصة لجهة اتقانه العصامي للغة الإنجليزية، وشغل منصب رئاسة تحرير صحيفة “الهدف”، لسان حال الجبهة. أنجز كنفاني كتابة سبع روايات (ترك اثنتين منهما غير مكتملتين)، وخمس مجموعات قصصية، ومسرحيتين، وعدد من الدراسات والمقالات السياسية الأدبية، والرسوم (4).
اغتيل غسان كنفاني في تفجير سيارته المفخخة في بيروت في 9 يوليو 1972 بتدبير من عملاء الاستخبارات الإسرائيلية الخارجية، الموساد، وقد قضت معه في التفجير إبنة أخته الصغيرة (5). وقد كتب كنفاني “رجال في الشمس”، وهي روايته الأولى، في العام 1961 في أثناء وجوده متخفياً في بيروت لعدم توافره على أوراق ثبوتية رسمية، ونشرها في العام 1963.
عن توفيق صالح بإيجاز
ولد توفيق صالح في القاهرة في 27 أكتوبر من العام 1926، وحاز على درجة جامعية في الأدب الإنجليزي وإن كان في أثناء دراسته ميالاً أكثر للثقافة الفرنسية، ثم سافر إلى فرنسا لدراسة المسرح لكنه انحاز إلى الإخراج السينمائي. أنجز صالح فيلمه الروائي الطويل الأول “درب المهابيل” بالتعاون مع نجيب محفوظ في العام 1955.
غير ان انتاجه السينمائي اللاحق في مصر، والذي بلغ عدده أربعة أفلام روائية طويلة، قد تعثر لأسباب سياسية ورقابية بحيث ان جمال عبدالناصر قد تدخل شخصياً لدى الاتحاد الاشتراكي للحيلولة دون حذف ستة عشر مشهدا من أحد أفلامه.
أما كامل رصيده السينمائي الإنتاجي فلم يتجاوز عدد سبعة أفلام. لكن هذا العدد الذي يبدو متواضعاً جعله يترك بصمته الكبرى على تاريخ السينما العربية، ورسّخه باعتباره واحداً من أهم رموز ما اصطلح على تسميته بـ”السينما الجديدة” و”سينما الواقع” في العالم العربي. ومع بداية السبعينيات وظهور المرحلة الساداتية تعرض صالح لضغوط كبيرة جعلته يفرض على نفسه منفى ذاتياً باللجوء إلى سوريا التي أنجز فيها فيلم “المخدوعون” الذي قُدّر له أن يكون أيقونته الأكبر وذلك في العام 1971، وقد كان ذلك هو الانتاج الأول للمؤسسة العامة للسينما في دمشق.
فاز الفيلم بالجائزة الأولى في مهرجان قرطاج السينمائي في العام 1972، ومثّل المشاركة السورية في مهرجان موسكو السينمائي، كما فاز بالجائزة الخاصة للجنة السوفيتية للسلام. وبعد ذلك شد صالح الرحال إلى العراق حيث أصبح مديراً للمعهد العالي للسينما، وهناك أيضاً أخرج فيلمه الأخير “الأيام الطويلة” الذي أثار ولا يزال يثير الجدل، وهذه نقطة لا أود التطرق إليها في هذه النسخة من مشروع الكتيّب على الرغم من حديثي مع صالح عنها. وقد عاد صالح إلى بلاده في منتصف الثمانينيات.
لكن، عودة إلى “المخدوعون”، فإن من المفارق في الأمر أن الفيلم لم يعرض في الصالات السينمائية العامة في دمشق سوى لمدة أسبوعين فقط، ثم أوقف عرضه وهو في عز نجاحه الجماهيري. ولم يعرض الفيلم عروضاً جماهيرية في بقية بلدان الوطن العربي إلا في تونس، والجزائر، وجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية (سابقاً)، أما بقية البلدان العربية فقد منعت عرضه. ولكن الفيلم تم عرضه في بعض الجامعات، وأندية السينما، ومقار الأحزاب السياسية. وإذا ما أنتم أذنتم لي بذكرى شخصية فإنني سأستدعي اني شاهدت الفيلم للمرة الأولى في صيف العام 1981 في مقر حزب التجمع التقدمي الوحدوي في القاهرة.
الرواية: “رجال في الشمس” بإيجاز
تدور أحداث رواية “رجال في الشمس” في شهر “آب اللهاب” من العام 1958 (6). والرواية مستمدة من حدث فعلي هو “موت أربعين فلسطينياً في شاحنة كانت تقلهم خفية إلى الكويت” (7). تسرد الرواية قصة الشتات الفلسطيني عبر أربع شخصيات هي أبو قيس، وأسعد، ومروان، وأبو الخيزران (8).
—————–
هوامش:
(1). غسان كنفاني، مادة 5/ 2/ 1961 في “أوراق خاصة: يوميات 1959 – 1960″، “الكرمل” ،2 (1981)، 247.
(2). “المخدوعون” (1971، 146 دقيقة، 16 ملم، أبيض وأسود، كوداك). إنتاج: المؤسسة العامة للسينما، سوريا. مدير الإنتاج: محمد سالم. السيناريو والإخراج: توفيق صالح. مونتاج: صاحب حدّاد. موسيقى: صلحي الوادي. الصوت: زهير فهمي. مدير التصوير بهجت حداد. الأدوار الرئيسة: محمد خير حلواني (أبو قيس)، بسام لطفي (أسعد)، صالح خلفي (مروان)، عبدالرحمن آل رشّي (أبو الخيزران).
(3). غسان كنفاني، “رجال في الشمس” في “الآثار الكاملة”، (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1980)، الطبعة الثانية، المجلد الأول. سأشير إلى جميع اقتباساتي اللاحقة من هذا النص بإيراد أرقام الصفحات بين معقّفات إن في المتن أو في الهامش.
(4). سيعني القارىء العُماني بصورة خاصة أن غسان كنفاني كان من أوائل الكتّاب العرب الكبار الذين تطرقوا إلى مأساة الشتات العماني قبل العام 1970. أنظر قصته القصيرة “موت سرير رقم 12” والتي كتبها في العام 1960ونشرها في مجموعته التي تحمل ذات العنوان، غسان كنفاني”الآثار الكاملة”، (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1980)، الطبعة الثانية، المجلد الثاني.
(5). أعلنت الموساد مسؤوليتها بصورة رسمية من التنفيذ عن عملية الاغتيال. وقد أشار إلى هذه المسؤولية النقاد الغربيون الذين يشتغلون بالأسئلة السياسية والثقافية للعالم العربي. أنظر مثلاً مقالة:
Barbara Harlow, History and Endings: Ghassan Kanafani’s Men in the Sun and Tawfiq Saleh’s The Duped” The Minnesota Review 25 (1985), 110.
ثم نشرتها لاحقاً مزيدة ومنقحة في كتابها:
After Lives: Legacies of Revolutionary Writing(New York: Verso, 1996).
ومع ذلك فإن هناك فريقاً آخر من النقاد الغربيين المشتغلين احترافاً بأسئلة الأدب والثقافة العربيين لا يزالون يتخذون موقفاً أخلاقياً وسياسياً مريباً من الاغتيال، ويترددون – إن لميحجموا – عن إدانة الجاني، فهم يشككون في مسؤولية الاستخبارات الخارجية للدولة الصهيوينة عن الاغتيال (الذي وقع بُعيد عملية الّلد الشهيرة التي نفذتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في قلب الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن هنا كان اغتيال المتحدث الرسمي باسم الجبهة جزءا من الحزمة الانتقامية)، مستعملين في ذلك – أي أولئك النقاد- مزيجاً من لغة أكاديمية تتوسل الموضوعية الفضفافة والاصطياد في الماء العكر. فعلى سبيل المثال ليس من اللائق حقاً ان يكتب روجر Roger Allenفي 1990، أي بعد ثماني عشرة سنة كاملة من وقوع الاغتيال وثبوت مسؤولية الموساد عنها ان “ظروف موت [كنفاني] واضحة بما فيه الكفاية، فقد وُضعَت قنبلة موقوتة في سيارته. لكن ما هو أقل وضوحاً هو أولئك المتورطين في البشاعة [هكذا!]. فبينما أشارت معظم أصابع الإتهام إلى الخدمات السرية الإسرائيلية فإنه ينبغي الاعتراف ان العلاقات بين الفصائل الفلسطينية المتشظية ومجموعات عربية أخرى كانت بعيدة من أن تكون ودية في ذلك الوقت”. أنظر:
Roger Allen, “Introduction” in Ghassan Kanafani’s All That’s Left to You: A Novella and Other Stories, trans., May Jayyusi and Jeremy Reed (Austin: Centre for Middle Eastern Studies, 1990), x.
(6). لا أستطيع أن أفهم الأسباب التي تدفع فضل النقيب إلى القول باندلاق عاطفي أراه غير مبرر إلى القول “ولكن هل [“رجال في الشمس”] حقاً رواية؟. لا، إنها أصيلة وحقيقية ولكنها ليست رواية بالمعنى الفني للكلمة، أيام كتابتها لم يكن باستطاعة [كنفاني] أن يكون روائياً. [إن] “رجال في الشمس”… ليست رواية، هي قصيدة آسرة، ملحمة أثيرة، ولكن ذلك يبقى تلاعباً بالألفاظ، المهم انها موجودة…”. إنني أخشى ان “التلاعب بالألفاظ”إنما يكمن في الإخفاق في رؤية العناصر الفنية، والجمالية، الواضحة التي تجعل من العمل رواية (أو رواية قصيرة) بالمعنى التقني. وفي الوقت نفسه – وبصورة مفارقة لا ينقذها الإنشاء الرمزي والمجازي- إضفاء طبيعة “ملحمية” على “القصيدة الآسرة”. أنظر: فضل النقيب، “عالم غسان كنفاني”، “شؤون فلسطينية” 13 (1972)، 199-200.
(7). من حوار مع توفيق صالح في كتاب جماعي التأليف بإشراف وليد شميط وغي هينبل، “فلسطين في السينما” (بيروت/ باريس: فجر، سنة النشر غير مذكورة)، 149. هذه هي الإشارة الوحيدة التي عثرت عليها في الأدبيات الخاصة بالرواية والفيلم بالعربية والإنجليزية أو المترجمة إليهما والتي تشير إلى ان العمل مبني في الأصل على “قصة فعلية”. ويؤسفني للغاية انني سهوت عن الاستيضاح من صالح حول هذه النقطة في لقاءاتنا في مسقط.
(8). من الغريب ان كل النقاد العرب الذين كتبوا عن الرواية، أو الفيلم، أو كليهما، قد قالوا في عرضهم لحبكة الرواية، أو الفيلم، أو كليهما ان العمل يدور حول “ثلاثة” لاجئين فلسطينيين (أي أبو قيس، وأسعد، ومروان)، مستبعدين بذلك شخصية أبو الخيزران التي يذكرونها حين ينخرطون لاحقاً في مناقشة العمل. إن هذا الاستبعاد العددي المؤسف، ضمن معطيات الحديث عن أولئك الذين تدور حولهم القصة، إنما يؤثِر ضمنياً بصورة سالبة مآسي الشخصيات الثلاث على حساب مأساة شخصية أبو الخيزران. وفي هذا الاستبعاد إنما تكمن رؤية سياسية قاصرة وموقف أخلاقي طُهراني ورجعي ضمن سياسات التضمين والاقصاء التحريرية والنقدية؛ ذلك ان حقيقة ان أبو الخيزران (ولا مراء في انه أحد أقل الشخصيات إثارة للتعاطف معها في الرواية والفيلم) هو من يقود أبو قيس، وأسعد، ومروان إلى حتفهم الشنيع تجعل لاوعي أولئك الكتاب ينحاز أخلاقياً إلى “الضحايا” (بالمعنى الظاهر للكلمة) متناسين بذلك ان أبو الخيزران ضحية هو الآخر حتى في جشعه وعجزه الجنسي الذي يدفعه إلى “الانتقام” من الجميع. فمن وجهة نظر هذا الكاتب فإن القصة إنما تدور في الحقيقة حول الشخصيات الفلسطينية الأربع بصورة متكافئة، وتصور مآسيهم المختلفة والمتشابكة –باعتبارهم يمثلون شرائح من المجتمع الفلسطيني-بطريقة على الناقد أن يقوم فيها بجهد أكبر من جهد المؤلف في فهمها وإضاءتها، وذلك خارج التقييم الأخلاقي وأحكام القيمة الجاهزة- (سيرد المزيد مني حول ذلك لاحقاً). أنظر أمثلة من ذلك الإقصاء لشخصية أبو الخيزران في: حسّان أبو غنيمة، “فلسطين في العين السينمائية” (دمشق: منشورات اتحاد الكتّاب العرب، 1981)، 154، وفضل النقيب، “هكذا تنتهي القصص، هكذا تبدأ”، (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1983)، 37، و:
Diana Jabbour, “Syrian Cinema: Culture and Ideology,” Critical Film Writing from the Arab World, ed., and trans., Alia Arasoughly (Quebec: World Heritage Press, 1996), V. 1, 52.
* ناقد وكاتب من عمان- مسقط