عن أداء جاك جلينهال في “الزاحف ليلا” وفضيحة الصرصور الإعلامي!

ضمن ترشيحات الأوسكار التي اعلنت مؤخرا صعد فيلم “زاحف الليل”أو”الصرصور”Nightcrawler لينافس على جائزة اوسكار أفضل سيناريو مكتوب مباشرة للشاشة للكاتب والمخرج داني جلوري في أولى تجاربه الإخراجية بعد أن كان قد حاز ترشيحا لجوائز البافتا البريطانية عن نفس الفرع، إلى جانب ثلاثة فروع أخرى هي أفضل ممثل لجاك جيلنهال، وأفضل مونتاج لجون جلوري، وأفضل ممثلة مساعدة لرينيه روسو بالإضافة إلى ترشيح جلينهال لجائزة أفضل ممثل ضمن جوائز “جولدن جلوب” حتى أن الكثير من التوقعات كانت تجزم بحصوله عليها.

لدينا اذن اتفاق على أن ابرز عنصرين في العمل هما السيناريو والتمثيل، ولكن لا يمكن بالطبع فصل كلاهما عن الاخراج حتى لو لم يترشح المخرج لأي جائزة، بل أن بعض الأراء النقدية ترى أن المخرج يجب أن يتقاسم جائزة التمثيل مع الممثل لأن الممثل في النهاية لا يرى نفسه، وما نراه على الشاشة من أداء وتفاصيل وملامح وتقمص، هي نتاج عمل المخرج على المادة الخام للممثل وكيفية تشكيلها، وبالتالي فأن أي ترشح لجائزة التمثيل هو في حد ذاته ترشح جزئي على جائزة في الإخراج.

ولكن مع كامل الاشادة التي يمكن ان يتلقاها داني جلوري كمخرج في فيلمه الأول، إلا أنه هذا لا يمنع أنه قدم درسا في كتابة السيناريو السينمائي بشكل يجعل مشاهدة هذا الفيلم واجبا مدرسيا لكل محبي السينما وهواتها.

عالم الفضائح

ولكن كيف يكمنك تجسيد عالم الفضائح؟ أولا عليك أن تصنع شخصية تجسد هذا العالم لكي تحملها بكل الأفكار والعناصر المعنوية والنفسية التي ترى أنها تمثل جينات هذا العالم ولا تجعلها جزءً من هذا العالم بل هي كائن قادم من عالم آخر، سري يوازي قذارة ودناءة العالم الثاني، ولكن في الوقت الذي تعتبر فيه ممارسة الاعلام بصورته الحديثة -على قذارتها – عملا مشروعا، تعتبر السرقة والقتل أعمالا منافية للقوانين والأخلاقيات، وبالتالي ما فعله الكاتب هو أن قام عبر الدقائق الخمس الأولى من الفيلم، باعطائنا لقطة تأسيسية عن العالم الذي سوف يقوم بهتك أسراره وتفاصيله من خلال لقطة لأعمدة البث وابراج الشبكات التليفزيونية والاذاعية التي تصدر صوتا مميزا وسط سكون الليل يوازي بالضبط الصوت الذي يصدره صرصور الليل في جولاته المسائية بحثا عن طعام وسط فضلات المدينة.

وفي المشهد التالي مباشرة يقدم لنا الشخصية الرئيسية “لويس بلوم” الذي سوف يصبح بكل دنائته النفسية وانعدام الضمير لديه بل وكونه يقف على تخوم الخلل الوجداني والنفسي، انعكاسا لعالم صراصير الليل أو الأعلام الباحث عن الفضلات.

إن الصرصور الذي يتصدر اسمه عنوان الفيلم هو صفة ذات دلالة تنقسم ما بين شخصية اللص الليلي الزاحف كصرصار لكي يسرق بعض الأسلاك النحاسية وربما يقتل من أجل الحصول عليها، فرد الأمن الذي يحاول منعه ويسلبه ساعته التي اعجبته، وبين عالم الإعلام القائم على هتك عرض كل ما هو انساني أو اخلاقي لمجرد ان تحظى نشرات الأخبار بالمتابعة والقنوات بنسب مشاهدة عالية تضمن لها دخلا اعلانيا كبيرا كل ساعة تقريبا.

ولكن كيف يمكن ككاتب أن يصف الحالة العقلية للشخصية الرئيسية المصابة بخلل نفسي واضح دون أن يتورط في استخدام مؤثرات بصرية أو هلاوس او أجواء هتشكوكية تعتمد على الموسيقى الغامضة والنظرات المجنونة؟

يخوض داني جلوري هذا التحدي بالتعاون مع خامات جاك جلينهال كممثل قدم اول ادواره كمراهق يعاني من اضطراب عقلي يجعله يرى العالم على حقيقته، وليس كما يريد أن يراه الناس في رائعة “دوني داركو” من خلال عرض الاختلال بداية عبر لغة جسدية واضحة الدلالات تبدأ من الانكماش إلى الأمام ووجود حدبة نفسية/ بدنية سببها الرغبة في الاختباء المستمر والخجل الواضح والشعور بالدونية – مثل اي صرصور- ثم الحديث المتصل دون توقف وعدم النظر إلى عين من يحادثه بشكل فيه نديه أو تحدي، بل تجنب النظر إلى وجه المتحدث من الأساس- مثل مشهد مساومة المنتجة الفنية للقناة للموافقة على رفع اجره ودخوله في علاقة جنسية معها مقابل ما يقدمه من مواد مصورة تضمن لقناتها نسب مشاهدة عالية وتضمن لها وظيفتها المميزة.

أما السمة الرئيسية في الأداء فهي حوار الشخصية القائم على استرجاع المعلومات بشكل آلي كأنها تقرأ من صفحة انترنت، وتلك اللغة الآلية، والعبارات التي تعبر عن افكار الشخصية بأسلوب اقرب إلى سرد السيرة الذاتية في مقابلات العمل حتى لو كان ذلك من خلال حديث ودي.

اننا نتعرف على لو بلوم في لقطاته الأولى وهو يتجول بسيارته بعد عملية سرقة، وحول عينيه تلك الهالات السوداء التي تشير إلى انه لا ينام وتستمر علاقة بلوم بالليل من خلال جلوسه أمام الانترنت حتى الفجر وقضاء حاجاته المنزلية حتى الساعات المبكرة من الصباح دون أن نراه نائما ودون ان يكون ثمة مقارنة بين نسب مشاهده ولقطاته النهارية ونسبها الليلية، فمعظم مشاهد الفيلم ليلية بما فيها بالطبع مشاهد بلوم، بل إن اللقطات النهارية القليلة له والمرتبطة بعلاقته بشخصية مصور أخر نراه وهو يرتدي نظارته الداكنة وكأنه لا يطيق نور النهار مثل اي صرصور ليلي يعتبر الظلام هو بيئته الطبيعية.

يدخل اللص الليلي عالم الأعلام لأنه يستشعر بشكل غريزي أن تلك المهنة تناسبه، يدخله دون أي نوايا شريرة فقط بغرض الحصول على وظيفة ثابتة في مدينة ترتفع فيها نسبة البطالة التي نسمع عنها في راديو سيارته خلال المشاهد الأولى.

ولكن تدريجيا يكتشف أن غرائزه الدونية ومعطايته النفسية المختلة هي في ذات الوقت ابرز مقوماته للصعود والتدرج إلى اعلى في هذا العالم وبالتالي يتمكن الكاتب من صنع انعكاس حقيقي لظلامية صناعة الإعلام بكل لا اخلاقيتها عبر هذه الشخصية التي تأتي من عالم مغاير ظاهريا ودون أي خلفيات تعليمية أو احترافية من أي نوع، بل تتعلم عبر المراقبة والاحتكاك المباشر بقلب الصناعة وليس بنظرياتها التي تبدو مثل حكم اخلاقية لا يلتفت إليها أحد، حين تأتي على لسان مساعد المنتجة الفنية الذي يعترض في كل مرة يحمل لها بلوم مادة اعلامية تحتوي على ضحايا وقتلى ودماء وعمليات سطو وأطلاق نار.

تجدر الاشارة هنا إلى توظيف المخرج لموسيقى جيمس نيوتن هاورد التي تمنحنا شعورا بالانجاز والتحقق والحماسة خلال مشاهد صعود بلوم تجعلنا نرتد فجأة إلى وخذ حاد في ضمائرنا حين نتبين أننا نتحمس لهذا الصرصور الذي يجر جثة في موضع حادث لكي يصنع تكوين بصري جيد يصلح لعرض أكبر قدر من الدماء في اخبار الساعة السادسة.

الم يكن من الممكن أن يضع موسيقى ميلودرامية أو مثيرة بدلا من تلك الموسيقى الحماسية؟ أجل بالطبع ولكن التناقض الذي تخلقه عملية الصعود القائمة على زحف ليلي باتجاه فضلات المدينة مع الموسيقى الحماسية هو الذي يتسبب في ارباك الوجدان وطرح الأسئلة على الضمير قبل العقل بداخل المتفرج.

كيف تخلق صراعا في سياق قائم على الصعود بلا عقبات تذكر؟

الدرس الأول في اي صراع درامي تقليدي هو ضرورة وجود خصم أو مجموعة خصوم تواجه البطل  طوال الوقت وتتعارض ارادتها وافكارها واهدافها مع ارادته وافكاره وأهدافه أو تقاومها وتعطلها.

ما فعله الكاتب هنا هو أن خلق صراعا مزدوجا مع وضد شخصيته الرئيسية في نفس الوقت، وهو ما جعل حجم الإثارة والحماسة في متابعة الفيلم أكبر مما يحتمله فيلم لا يمكن تصنفه على اعتبار أنه فيلم اكشن أو بوليسي.

المستوى الأول من الصراع تحقق من خلال خلق الخصوم في كل مرحلة، بل وجعل كل الاطراف التي يتعامل معها البطل هم خصوم بشكل أو بأخر بداية من فرد الأمن الذي يمنعه من السرقة، مرورا بالرجل الذي يرفض توظيفه لأنه لص، ثم المصور التليفزيوني الذي يرفض عند اول لقاء بينهما أن يجعله يعمل معه وينهره بشكل حقير، ثم المنتجة الفنية في بداية علاقتهما وكيف تساومه على المادة التي صورها، ثم مساعدها الذي يرفض في كل مرة من خلال موقف اخلاقي عرض المادة التي يقدمها بلوم.

وحتى مساعد بلوم الذي يستأجره لكي يعينه في عملية التوجه إلى مواقع الحوادث والتصوير بالكاميرا الثانية لضمان مادة مصورة من أكثر من زاوية ينجح السيناريو في النهاية في تحويله إلى خصم، ليس فقط من خلال عملية الجدل المستمر بينه وبين بلوم ولكن بخلق حالة مساومة بينهم عندما يقرر بلوم أن يختلق مطاردة بوليسية مع أحد القتلة الفارين عقب حادث قتل يكون هو شاهد عليه بكاميرته ويحجب المعلومات عن الشرطة من أجل خلق مزيد من الأخبار التي تمثل له جسر الصعود نحو المال والشهرة.

أن مساعده الشاب عندما يساومه على نصف المبلغ الذي سوف تمنحه القناة لبلوم مقابل هذه المادة يدخل نفسه في دائرة الخصوم وبالتالي يتعرض لنفس الانتقام الذي حققه بلوم من قبل ضد المصور الذي انتزع منه بحرفية تغطية حوادث هامة اي بتحويله من مراسل إلى خبر.

نتوقف هنا قليلا لنستعرض كيفية توصيل فكرة الفيلم عبر الصراع بين الشخصية الرئيسية وخصومها. اولا نشير إلى أن الخصم الدرامي لا يعني بالضرورة العدو بالمفهوم الأخلاقي فمثلا تعتبر الشرطة خصما دراميا في مواجهة الشخصية الرئيسية عندما تحاول الحصول منه على معلومات عن جريمة القتل أو صور للجناة، فهي هنا خصم درامي، ولكنها ليست عدوا اخلاقيا بل على العكس هي السلطة التي تحاول تنفيذ القانون وكشف القتلة بينما اخلاقيا يعتبر البطل هو من يتستر عليهم لكي يصنع خبرا ساخنا بغض النظر عن كم الضحايا أو الاحداث الدامية التي يمكن أن تقع في سبيل ذلك فهو بالمعنى الأخلاق عدو للمجتمع، وهو بالمناسبة المستوى الثاني من الصراع اي خصومة البطل مع المتفرجين.

نعود لعنصر انعكاس الفكرة عبر الصراع الدرامي مع الخصوم، الكاتب يريد أن يفضح العالم السري لصناعة الإعلام عبر عرض فكرة أن ميثاق الشرف الإعلامي الحقيقي هو أنه “حيث يوجد خبر فلا يوجد شرف” فنجد بلوم يقوم في بداية رحلة الصعود بتغيير مكان رجل مصاب في حادث سيارة بشكل همجي وكأنه مجرد قطعة ديكور من أجل أن يحظى بتكوين جيد في تصوير المادة، ودون اي اعتبارات انسانية ولا نقول أخلاقية، لأن هذه التغيير من شأنه أن يقتل الرجل المصاب أو يدمر احد اعضائه- فالقاعدة الطبية هي عدم تحريك المصاب لتجنب زيادة الكسور او النزيف الداخلي- ويختصر الكاتب هذه التفصيلة في جملة واحدة على لسان المنتجة الفنية حين تقول لبلوم وهي تشاهد المادة (المفبركة) للحادث (يوجد دم على قميصك) فالتنافس على نسب المشاهدة يدفع الاعلاميين إلى صناعة الجثة بدلا من تصويرها وتحويل الكاميرا إلى وسيلة للقتل بدلا من أن تصبح عين على الحقيقة.

الصراع هنا بين بلوم وخصمه المصور الآخر يجعله بلوم يقدم على تغيير موضع الرجل المصاب من أجل الحصول على مادة جيدة ثم عندما يسبقه هذا المصور الذي يتحول إلى خصم عتيد ويقتنص منه خبرا هاما ينتقم منه بلوم بأن يحوله إلى خبر وهو اقسى انتقام من الممكن أن يحدث لأي عامل بمجال الإعلام وهو ان يتحول من مراسل أو ناقل إلى خبر، حيث يفسد له سيارته ويذهب لتصويره وهو مصاب اصابات خطيرة ويتعمد النظر في عينيه لتحقيق شهوة الانتقام وعندما يقول مساعد بلوم له أن هذا لا يليق فهو واحد مننا يرد بلوم (هو الأن مجرد مادة للبيع).

ثم يتطور عرض فكرة ميثاق الشرف الأعلامي من وجهة نظر الكاتب عندما يستغل بلوم مذبحة دموية لكي يصنع منها عدة اخبار متتالية وقد صار في خصومه مع المجتمع ذاته، خصومة هو نفسه يعترف بها لمساعده عندما يقول له (أنا لا أحب الناس) بل ويصل به الأمر إلى أن يعرض مساعده للقتل على يد احدى الجناة الفارين عقب مطاردة مع البوليس كان هو من تسبب فيها لكي يتخلص من مساعده أولا ولكي يصنع خبرا مؤثرا من ناحية أخرى بتصوير المساعد وهو يحتضر من اثر الرصاص دون أن تطرف لبلوم عين.

ثم يصل الكاتب إلى الصعود بتلك الفكرة إلى ذروتها، لا من خلال اكتشاف ما فعله بلوم وسجنه بسببه، ولكن باكتشاف ما فعله وعدم القدرة على معاقبته عليه تماما مثل كل القنوات الأعلامية التي تبث سموما فكرية وفضلات معنوية وخبرية ولكن لا أحد يعقابها على ما تقدم بل ينتظر منها المزيد.

أن المشهد ما قبل الأخير في الفيلم عندما نرى بلوم وهو يلقن مجموعة جديدة من المساعدين مبادئ العمل معه وكيف أن (كل ما يقول ويفعل) هو بمثابة درس عملي لهم بعد أن صارت لديه شركة ومتدربين واكثر من سيارة لتغطية الخبر هو ذروة عملية الفضيحة التي يمارسها السيناريو ضد عالم الأعلام فالمزيد من الدماء والحوادث المفبركة والتركيز على الاأنساني هو ما جعل من صرصار الليل هذا نجما اعلاميا بل ومدرسة للمزيد من صراصير الليل الذين نراهم ينتشرون في سيارات التصوير يمينا ويسارا في شوارع المدينة وكأنهم سرطان يسري في شاريينها، ثم ينتهي الفيلم باللقطة الأخيرة التي هي نفسها اللقطة الأولى حيث أبراج البث العالية التي تصدر أزيزها الخارق مثل مئات من صراصير الليل التي تنتظر مزيدا من فضلات المدينة كي تقتات عليها.

Visited 60 times, 1 visit(s) today