عن آلان ديلون وجان بيير ميلفيل.. وسوء النقد

Print Friendly, PDF & Email

ليس من الممكن فهم قيمة “آلان ديلون” الفنية، إلا من خلال مشاهدة الأفلام الثلاثة التي قام ببطولتها مع سيد أفلام التشويق البوليسية بنفس وجودي واضح، أي المخرج الفرنسي الكبير الذي ترقى أفلامه إلى أكثر الروايات البوليسية قيمة في تميزها وسردياتها البديعة، واهتمامها بالشخصيات أكثر من الحبكة.

هذه الأفلام الثلاثة لـ”ديلون- ميلفيل”، هي آخر ثلاثة أفلام أخرجها ميلفيل قبل وفاته وهي “الساموراي” Le Samourai (1969)، “الدائرة الحمراء” Le Cercle Rouge (1970)، و”رجل البوليس” Un Flic (1972).  ولاشك أن كل عشاق السينما الفنية يجب أن يشاهدوا أو يعيدوا مشاهدة هذه الثلاثية البديعة التي تبدو وقد صنعت من أجل آلان ديلون تحديدا.

و قبل أن يكتب يوسف شريف رزق الله عن المخرج الفرنسي جان بيير ميلفيل لم نكن نعرف شيئا عن هذا المخرج الكبير المتميز الذي رحل عن عالمنا مبكرا جدا، عام 1973، عن 55 عاما. وكان يوسف قد أصر على مقابلة ميلفيل عندما ذهب إلى باريس في 1969، ورحب الرجل به، واستقبله في ستوديو “دجنير” الذي كان يملكه، ودار بينهما حوار طويل حول أفلامه. وقد نشر هذا الحوار مع دراسة عن أفلامه، في مجلة “السينما” التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة (أبريل- يوليو- 1970).

إيف مونتان وآلان ديلون في “الدائرة الحمراء”

وعندما قدم يوسف فيلم “الدائرة الحمراء” Le Cercle Rouge (1970).  في نشرة نادي السينما (1974) لفت أنظارنا إلى مقولة ميلفيل: “هناك من يؤمن بالله، وكذلك من يؤمن بماركس، وأنا أؤمن بالسينما. إنها ديني، وأقيم لها الشعائر على طريقتي”.  

ميلفيل أحد العلامات الكبرى في السينما الفرنسية رغم أنه لم يخرج سوى 13 فيلما روائيا طويلا وفيلما قصيرا. والتعامل مع أفلامه التي تدور في أجواء الجريمة، على غرار (الفيلم- نوار) يجب أن يكون تعاملا جادا تماما. لكن الغريب أن الناقد سامي السلاموني قابل عرض فيلم “الدائرة الحمراء” في نادي السينما وقتها بمقال انطباعي رافض كان مدهشا لنا جميعا في ذلك الوقت. يقول سامي: “لم يكن في فيلم “الدائرة الحمراء” في رأيي الخاص- ما يجعله جديرا بالعرض في نادي السينما لولا أزمة الأفلام الخانقة التي تحاصر النادي… ورغم أن انبهار البعض بالمخرج جان بيير ميلفيل باعتباره صاحب مدرسة خاصة في الفيلم البوليسي الفرنسي تتميز بملامحها الخاصة عن سائر المدارس وبالذات عن الفيلم البوليسي الأمريكي الصاخب، إلا أنني لا أرى في أفلام ميلفيل ما يبهر، لا موضوعيا ولا سينمائيا، لأنني من ناحية لا أتصور أن يحصر مخرج ما كل عمله في الأفلام البوليسية إلا إذا كان مخرجا من الدرجة الثالثة- حتى لو كان هيتشكوك نفسه- لأن مجرد إتقان المخرج في هذه الحالة، طريقته السينمائية المجردة لا يكون مبررا كافيا لاعتباره سينمائيا جيدا.. ولأن قيمة السينمائي الأولى ليست أن يبهر الناس وقدراته الحرفية ويشد أنفاسهم، بل في أن يقول أولا لهؤلاء الناس شيئا مفيدا، وقد تكون الأفلام البوليسية متعة ذهنية مفيدة لبعض هواة التوتر أو المرضى العصبيين، ولكنها لا تزيد في قيمتها الفنية والفكرية عن روايات أرسين لوبين التي كانت تبهرنا ونحن أطفال…

“ولا يمكن أن يغفل أحد القدرة الحرفية لميلفيل في “الدائرة الحمراء” من حيث قدرته على استخدام أدواته السينمائية استخداما هادئا يفرغ الفيلم البوليسي من ضجيجه وعنفه التقليدي.. واعتماده الأساسي على خلق جو خاص والإيقاع الهاديء والتصوير الجيد ولكنه في النهاية، لا يحمل قيمة على الإطلاق، إنما هو مجرد تنويعة أخرى على أفلام السرقات الكبيرة التي تتفق فيها عصابة على سرقة بنك أو متجر مجوهرات، ثم دور البوليس التقليدي في إحباط هذه الخطة، ولم ينجح الفيلم في إضافة بعد نقدي حتى عندما أضفى على البوليس هذه المرة طابع الشر….

آلان ديلون في فيلم “الساموراي”

“ولكن يظل اللصوص لصوصا على أي حال في هذا الفيلم لا يحملون أية مبررات، وتظل حيلة تجارية رخيصة وبلا مبرر أيضا، أن يحشد المخرج هذه الأسماء:” إيف مونتان، آلان ديلون، بورفيل، في فيلم شديد السطحية، وأن يوافق ممثل عظيم مثل جيان ماريا فولونتي على أن يظهر ككومبارس في فيلم بوليسي رغم كلامه الكثير عن السينما السياسية، إلا إذا كان “الدائرة الحمراء” فيلما سياسيا دون أن ينتبه أحد”.  

ليس هناك أدنى شك في أن سامي السلاموني، لم يكن موفقا في كتابة مثل هذا المقال السريع الانطباعي الذي يهيل التراب بكل بساطة على أعمال مخرج كبير. صحيح أنه كان يعكس رأيه، ولكن النقد أبعد كثيرا من مجرد “إبداء الرأي” أو “الرفض”، ولكن مثل هذا الرأي، كان ولا يزال بكل أسف، يتطابق مع آراء كثيرة ساذجة منتشرة بكثرة في بلادنا بين المثقفين ومن يكتبون عن الأفلام في الصحافة السائدة.

في فيلم “رجل البوليس”

أصحاب مثل هذه الآراء، لا يرون في الأفلام عادة، سوى “الرسالة الاجتماعية” فإن غابت أو شحبت، انصرفوا عن الفيلم واعتبروه مجرد ألعاب تقنية واستعراض للمهارة السينمائية، لا فائدة لها، فالفيلم في هذه الحالة، يصبح تعويضا عن غياب التعبير السياسي الحر، في مناخ اجتماعي وسياسي خانق. والمضحك أن المشاهد، أو المثقف، يريد أن يرى الفيلم يعبر نيابة عنه، عن الغضب والاحتجاج، لذلك يكثر أيضا استخدام التعبير المضحك بين الصحفيين وهو “أفلام تشبهنا”، فماذا لو كانت هناك أفلام عظيمة لكنها “لا تشبهنا”!

لذلك تكثر الإشادة ويكثر التمجيد لأعمال كثير من المخرجين من النوع المتوسط الموهبة، الذين يعتمد مستواهم السينمائي على مستوى السيناريوهات التي يقومون بتنفيذها، فقط لمجرد أن هذه الأفلام تتلاقى مع رغبة الجمهور، وطبعا مشاعر هؤلاء “النقاد” (مع التحفظ!) في سوق رسالة غاضبة، ضد السلطة، ضد التفرقة الطبقية، ضد انهيار الأخلاق، ضد الطبقة الحاكمة، ضد الاستعمار والإمبريالية والصهيونية والماسونية والإخوان.. إلخ!

وهي في النهاية محنة ثقافية، علينا أن نتعامل معها، وربما يكون علماء الاجتماع أكثر قدرة منا على سبر أغوارها وتحليلها!

Visited 4 times, 1 visit(s) today