“على حلة عيني” الفيلم التونسي في مهرجان فينيسيا
“على حلة عيني” للمخرجة التونسية ليلى بوزيد في أول تجاربها الإخراجية الطويلة والذي عرض في تظاهرة “أيام فينيسيا” بمهرجان فينيسيا السينمائي، نجد كل العناصر التي تكفل له تمويلا فرنسيا ومساهمة فرنسية، فلدينا هنا فتاة شابة مراهقة، تنتمي إلى أسرة تونسية محافظة، لكنها متمردة، تحاول الخروج على التقاليد المتزمتة، وتبحث عن التحقق من خلال الغناء.
هذه التركيبة القائمة على فكرة الفتاة المتمردة في مجتمع شرقي “إسلامي” منغلق، تريد أن تتحرر وتعيش حياتها كما ترغب وليس كما ترغب أسرتها، تغشى الحانات الليلية، تعاقر الخمر، تختلط بالرجال، تقيم علاقة عاطفية وجسدية كاملة مع شاب تحبه، تكذب على أمها باستمرار لتبرير تأخرها خارج المنزل، أو للتحيل من أجل الخروج، واللحاق بفرقة من الشباب، تقدم أغاني “الروك” التونسية في الحانات والمقاهي لمجموعة من السكارى ومدمني المخدرات من الشباب الذي يغشى مثل هذه الأماكن.
سيطرة الأم
الأسرة في الفيلم ليست أسرة بطريركية- أبوية، بل في الحقيقة، ماتريركية- أموية، فالأب شبه غائب أو مغيّب، فهو يعمل في مدينة قفصة البعيدة عن العاصمة، لا ينجح في الانتقال إلى تونس العاصمة إلاّ بعد أن يرضخ للأمر الواقع وينضم إلى الحزب الحاكم في مرحلة متقدمة من الفيلم.
وهو ضعيف الشخصية أمام سيطرة الأم، والاثنان ينتميان إلى الطبقة الوسطى، وهناك إشارات غير واضحة تماما في الفيلم، إلى أنهما كانا جزءا من حركة النضال السياسي في الماضي، لكنهما استسلما لدوافع الصعود في ظل الأمر الواقع.
من المؤسف أن الفيلم الأول لليلى بوزيد لا يقنع أحدا، رغم تميزه على الصعيد الحرفي في التصوير والصوت والديكور.
بطلة الفيلم، فرح تفضل الغناء على دراسة الطب رغم تفوقها الدراسي، والأب يبدو متأرجحا بين تلبية طلبات زوجته، والاستجابة لرغبات ابنته، ولكن غيابه وضعف شخصيته يبرران طغيان شخصية الأم حياة.
وسرعان ما يصبح الصراع في الفيلم محصورا بين الأم والابنة، الأم تريد فرض رقابة على سلوك الابنة عن طريق الاستعانة بخادمة تدعى أحلام، لكن أحلام سرعان ما تتعاطف مع فرح وتتستر عليها على العكس من رغبة الأم.
ومع ذلك فقضية فرح لا تثير التعاطف، ليس بسبب تمردها ورغبتها في التحرر، بل لأنها لا تملك قضية من الأساس، فالغناء الذي تقدمه، رغم أنه يعبر بشكل عام عن مرارة العيش في تونس وسوء الأوضاع والمهاجرين غير الشرعيين الذين يموتون في البحر، إلاّ أنه لا يرقى إلى مستوى “الغناء الثوري” التحريضي الذي يمكن أن يبدو مزعجا للسلطة مثلا، ونحن على أعتاب الثورة التونسية فالأحداث في أواخر 2010، أي قبل أشهر قليلة من اندلاع الأحداث التي أدت إلى سقوط نظام الرئيس بن علي. والنتيجة أن المشاهد يمكنه أن يتعاطف أكثر مع موقف الأم التي تخاف على ابنتها من مجتمع الليل في تونس الذي يمتلئ بالذئاب.
إشارات عابرة
هناك إشارة عابرة تأتي في سياق الفيلم على لسان برهان، الشاب الذي تحبه أحلام، وهو رئيس الفرقة الموسيقية التي تصاحبها في الغناء، فهو يشير إلى أنه وجماعته هدف لمراقبة الشرطة بسبب نشاطهم على الفيسبوك.
في حين أننا لا نشاهد فرح قط، مشغولة بتبادل الأفكار أو بالتعبير عن أفكار سياسية عبر الفيسبوك أو غيره، بل تدفعها طوال الوقت رغبة واحدة في الغناء، حتى لو كانت الفتاة الوحيدة وسط حشد من الشبــاب الجائع جنسيا، وهو ما سيعرضــها لاحقا لبعض المشـاكل مع شاب آخر من أفراد الفرقة، سيطمع في جسدها، مما سيؤدي إلى وقوع خــلاف كبـير بينها وبين حبيبها برهان.
أما مشكلة الحرية عند فرح، فهي مشكلة شخصية منبتة الصلة عن المشكلة الاجتماعية والسياسية العامة، فهي تبحث فقط عن خلاصها الذاتي بعيدا عن فكرة تغيير الواقع.
من المؤسف أن الفيلم الأول لليلى بوزيد لا يقنع أحدا، رغم تميزه على الصعيد الحرفي في التصوير والصوت والديكور
وقد يكون هذا مقبولا لو كان الفيلم قد اكتفى بهذه الزاوية، أي زاوية التمرّد الفردي الذاتي والرغبة في اختيار طريق مختلف، وهي فكرة مستهلكة أصلا في السينما العربية، لكن بعد مضي نحو ثلاثة أرباع مساحة الفيلم الزمنية، يتجه الفيلم في الـ25 دقيقة الأخيرة إلى وجهة أخرى، مع اختفاء فرح أي اعتقالها، ولجوء الأم إلى رجل كانت ترتبط بعلاقة حب معه في الماضي، لكنه آثر أن يصبح مخبرا يتعاون مع شرطة النظام، وهذا مجرد استنتاج بالطبع، فالفيلم لا يوضح هذا الجانب، بل يبقيه غامضا شأن الكثير من الجوانب الأخرى.
هنا يريد الفيلم أن يقول لنا إن الأغاني التي تغنيها فرح تثير غضب السلطة، ثم يكتشف حبيبها برهان أن زميلا له في الفرقة هو عادل المغرم بفرح وقد كان ينازعه عليها، يعمل مرشدا لحساب الشرطة، وأنه كان يسجل وينقل كل ما يفعلونه بالصوت والصورة، دون أن نعرف تحديدا ما هو الشيء الخطير الذي يفعلونه.
فالغناء يتم بشكل علني وسط مجموعات من العابثين والسكارى، ولا يبدو أنه يصب في أي حركة من حركات التمرد والغضب، بل يبدو عند فرح نزوة صبيانية مراهقة أكثر منه قضية وجود، خاصة وأن فرح لا تتمتع أصلا -لسوء الحظ- بصوت يمكن أن يثير إعجاب أي مستمع للغناء على أيّ مستوى.
فرغم أن تونس تمتلئ بالأصوات البديعة النادرة في مجال الغناء من بين الشباب، إلاّ أن المخرجة ليلى بوزيد اختارت أسوأ نموذج ممكن، هذه الممثلة المبتدئة بية المظفر التي يعجز صوتها بنشازه، عن الوصول إلى الطبقات العالية حسب الألحان الموضوعة لها، حيث بدت وكأنها تصرخ أو تصيح صيحات حادة منفرة كلما وصلت إلى تلك المقامات العالية، والمشكلة أيضا أن المخرجة تخصص مساحة كبيرة من الفيلم لتلك الأغاني التي لا تطرب ولا تحرّض.
إن صنع الأفلام الأولى لا يتحقق بالنوايا الحسنة، ولا بتركيبة عامة قد ترضي الممول الغربي الذي يرحب بأي فكرة تدور حول تمرّد الفتيات في مجتمع متخلف.
مشاكل الفيلم
من علامات التخبط في السيناريو أن نرى الأم التي سبق أن طردت ذلك الصديق القديم شرّ طردة، وهو الذي جاء يلفت نظرها لما يمكن أن تواجهه فرح، تذهب إليه وهي تكشف عن فتنتها، لكي تقدم له نفسها مقابل أن يساعدها في إطلاق سراح ابنتها. وفي المقابل يرفض الرجل قبول العرض في شهامة، ويعطيها ورقة تقدمها لإطلاق سراح ابنتها.
وإذا كان الثائر في هذا الفيلم ليس ثائرا، والمرشد ليس وغدا، بل يمكن أن يكون أيضا شهما، فالشرطة السرية أيضا ليست بذلك السوء الذي نسمع عنه، ففي مشهد استجواب الضابط لفرح، لا نرى ضربا بالسياط ولا صعقا بالكهرباء، أو حرقا بالسجائر المشتعلة، بل مجرد بعض الصياح وقليلا من الشتائم، وأسئلة ساذجة تدور حول من الذي يكتب لها الأغاني، كما لو كانت الشرطة تعجز عن معرفة ذلك، خصوصا وأن الفيلم سبق أن أوضح أن أحد شباب الفرقة يعمل مرشدا للشرطة، وأنه كان يصور بالفيديو كل ما يدور كما رأينا.
وإذا لم تكن الشرطة تتسم بالبشاعة والقسوة، وإذا لم يكن الغناء يميل بوضوح إلى التحريض السياسي، بل يكتفي بهجاء الفقر والغربة، وإذا كان الضابط قد كشف لفرح أن حبيبها برهان كما تسمع في تسجيلات صوتية له، يتخذها تسلية له، فهي مجرد نزوة جنسية يتفاخر بها أمام أصدقائه، فما الذي يبقى هنا؟ وما الذي يجعل فرح تهرع إلى برهان في النهاية، وترتمي في أحضانه رغم نذالته؟
إن صنع الأفلام الأولى لا يتحقق بالنوايا الحسنة، ولا بتركيبة عامة قد ترضي الممول الغربي الذي يرحب بأي فكرة تدور حول تمرّد الفتيات في مجتمع متخلف، بل أساسا، بالقدرة على تقديم شخصيات ومشاهد ومواقف وحبكة مقنعة للمشاهد. ومن المؤسف أن الفيلم الأول لليلى بوزيد لا يقنع أحدا، رغم تميزه على الصعيد الحرفي في التصوير والصوت وتصميم الديكور وتنسيقه/ مع وجود بعض المشاهد الجيدة من ناحية الاخراج في الفيلم.