“طريق الدم” يروي قصة تنظيم القاعدة في السعودية
“طريق الدم” (2018) Path of Blood هو الفيلم الذي انتهى المخرج البريطاني جوناثان هيكر من إخراجه أو بالأحرى من توليف صوره ومونتاجه مؤخرا باستخدام أكثر من 500 ساعة من المواد المصورة التي حصل عليها مما صادرته قوات الأمن في المملكة العربية السعودية عبر سنوات (من 2003 إلى 2009) من معسكرات التدريب والبيوت السرية التي كانت تابعة لتنظيم القاعدة أي منذ أن أعلن في 2003 الحرب على النظام السعودي، متبعا تعليمات زعيم التنظيم أسامة بن لادن والفتاوى التي تبرر القيام بعمليات العنف ضد مؤسسات الدولة وقوات الأمن، وبوجه خاص، الوجود الأجنبي خاصة الأمريكي في البلد الذي يعتبره الإسلاميون المتطرفون مهد الإسلام والأرض المقدسة التي تضم الحرمين، أي أنهم يعتبرون الوجود الأجنبي هناك تدنيسا للمقدسات.
في هذا الفيلم الكثير من الدماء والأشلاء والجثث والدمار المادي المباشر الواقع على المنشآت كنتاج للتفجيرات المحسوبة والمقصودة بهدف الترويع والانتقام والإرهاب، لكنه لا يشبه غيره من الأفلام الوثائقية التي ظهرت عن موضوع الحركات الإرهابية المتطرفة، فهو يعتمد على نوعين من المواد المصورة: أولا اللقطات والمشاهد التي صورها أعضاء تنظيم القاعدة لأنفسهم ولزملائهم أثناء التدريبات العسكرية التي كانوا يقومون بها، أو انشاء معسكر للتدريب في الصحراء ونشاطاتهم الرياضية معا، واستعداداتهم للعمليات الانتحارية التي سيقومون بها، ثم أثناء القيام بتنفيذ تلك العمليات الإرهابية نفسها. وثانيا: اللقطات التي صورتها أجهزة الأمن السعودية خلال الاقتحام والمداهمة لأوكار خلايا القاعدة، ولقطات أخرى التقطتها كاميرات المراقبة التي أعيد تفريغها وانتقاء ما يصلح منها.
هناك إذن عملية فحص وانتقاء ومونتاج لكل هذا الركام الهائل المليء بالعنف ولكنه يكشف أيضا، ربما للمرة الأولى، عن الطبيعة الإنسانية الحقيقية لهؤلاء الفتية ومعظمهم من صغار السن والمراهقين الذين أغوتهم الدعاية المتكررة وخضعوا لما يشبه غسيل المخ، فأصبحوا أداة طيعة في أيدي قيادات القاعدة، يسيرون نحو الموت وهم على قناعة بأنهم ليس فقط اختاروا الطريق الصحيح، أي طريق الدم، بل وعلى يقين من أنهم سيصبحون بين الشهداء والأبرار في جنة الخلد حيث ينعمون هناك بالحور العين.
إنهم يتضاحكون ويتمازحون أمام الكاميرا، من دون أن يبدو عليهم أي ارتجاف أو وجل وكأنهم ذاهبون الى حفل من حفلات العرس. سيكولوجيا هؤلاء الفتية كانت تستحق دون شك، مزيدا من التدقيق وتسليط الأضواء عليها من طرف صناع الفيلم الأمر الذي لم يحدث مما جعل هؤلاء يبدون في عيون المشاهدين كالأبطال، أصحاب القضية، لكن ما هي القضية؟ تظل هذه النقطة أيضا غامضة على نحو ما في السياق. ولكن لعل ما يؤكد للمشاهدين طبيعة هذا النوع الجديد من القتلة: قتلة الأبرياء وقتلة أنفسهم كما تكشف المشاهد المصبوغة بالدم الاتي تتعاقب، تؤكد للمشاهدين أننا أمام نوع فريد من القتلة الذين لا يدركون تماما ما يفعلونه.
في لقطة ذات مغزى من ضمن اللقطات العديدة التي تعكس الذهنية السائدة، نشاهد رجلا في مواجهة الكاميرا يغطي وجهه تماما بورقة مكتوب عليها “72 حورية” يمسكها بيده اليسرى، ويشير بيده اليمنى مبتسما وهو يشجع من يتطلع إليه على التقدم نحوه. إنه إغراء واضح بالإقدام على القيام بالعملية التي كلف بها وهي عملية انتحارية، مقابل الوعد بالحور العين!
عدد من رجال تنظيم القاعدة حول جثمان أحد زملائهم
هناك مستويان للصوت أو للتعليق الصوتي في هذا الفيلم: المستوى الأول “موضوعي” يصدر عن صانع الفيلم وهو يشرح ويصف ويذكر بعض المعلومات عن خلفية المشاهد والصور التي نشاهدها، والمستوى الثاني “ذاتي” يطلق عليه صناع الفيلم “صوت جهادي” يصف بعض الأحداث التي نشاهد مقاطع منها، من وجهة نظر وفكر التنظيم الجهادي. لكن الفيلم (الذي يقع في 92 دقيقة) يظل في غالبية أجزائه من دون تعليق، اكتفاء بالصور المباشرة التي نشاهدها وكثير منها صادم للعين غير المدربة على مشاهدة وتلقي هذا النوع من الأفلام، وهي لا تحتاج إلى أي تعليق.
إننا نشاهد كيفية التدرب على صنع المتفجرات وتفخيخ السيارات، والتدرب على إطلاق النار، ومفاجأة قوات الأمن بالتحرك السريع خارج السيارة، ثم بالتقلب على الأرض قبيل إطلاق النار، واستخدام السلاح الأبيض في قطع الرءوس. وفي أحد المشاهد التي صورها الجهاديون أنفسهم نرى مهندس طائرات الهليكوبتر الأمريكي بول مارشال جونسون وهو يخضع للتعذيب على أيدي شباب القاعدة بعد اختطافه واحتجازه رهينة عام 2004.. فنحن نراهم وهم يقومون باستجوابه معصوب العينين، ثم يهددونه ويتهمونه بالكذب ويضربونه وثم يضعون شريطا لاصقا فوق فمه. هنا يفضل مخرج الفيلم الانتقال الى شاشة سوداء حتى لا نراهم وهم يقطعون رقبته بل نظل نسمع أصواتهم فقط ومنها صوت صراخه الأخير.
في الفيلم بعض المشاهد التي تشي بأننا أمام مجموعة من الصبية الذين لا يدركون تماما ما يفعلونه ولا حتى الدافع للإقدام على ما يقومون به.. فأمام الكاميرا مباشرة في بداية الفيلم نرى شابا صغير السن جميل الطلعة، يضحك ويمزح مع من يصوره الذي يطلب منه أن يصف له أمام الكاميرا شعوره وهو في طريقه للقيام بعملية انتحارية، فيتهرب الفتى ضاحا ساخرا من السؤال ويطلب مزيدا من القهوة، وعندما يكرر عليه الرجل السؤال ويطلب تسجيل اجابته يقول إنه لا يفهم السؤال ثم يحتج ضاحكا على تقديم القهوة له في نفس الكوب الذي كان يشرب منه (بينما هناك 20 كوبا آخر كما يقول!).. ومع إعادة السؤال بصيغة أخرى يعترف ببساطة بأنه لم يتم تلقينه الإجابة على مثل هذا السؤال. في النهاية يطلب منه شخصان ملثمان الوقوف وسطهما وهو يحمل سلاحه بينما يحمل كل منهما قاذف قنابل.
هناك أيضا لقطات للتدريبات على العنف يقودها شخص يعتقد أنه عبد العزيز المقرن زعيم القاعدة في السعودية، وفي مشهد آخر نشاهد بعض الفتية وهم يتسابقون في سباق للجري في الصحراء في إطار النشاط الترفيهي، ومشهد آخر لالتفاف مجموعة منهم حول وليمة في الصحراء حيث يتناولون لحم خروف مشوي. ويتضمن الفيلم الكثير من الشرائط الدعائية التي صورها التنظيم، كما يتضمن بعض التفاصيل الخاصة بمراقبة الأهداف التي يعتزمون الهجوم عليها، فنشاهد سيارة الاستطلاع وكيف ترصد الهدف وطبيعة حراسته، ونشاهد بعد ذلك تفجيرات وقعت في ثلاثة من المجمعات السكنية في أماكن مختلفة في الرياض في وقت واحد عام 2003، ثم الهجوم الإرهابي على منشأة نفطية ومجمع سكني في مدينة الخبر وكان وراءها عبد العزيز المقرن الذي ستتمكن قوات الأمن السعودية فيما بعد- كما سنرى- من قتله في محطة تزويد السيارات بالوقود مع ثلاثة من رفاقه أعضاء التنظيم.
وفي لقطات كاشفة يتتبع الفيلم العملية التي دبرها التنظيم لاغتيال الأمير محمد بن نايف وزير الداخلية السعودي عام 2009، من خلال الاعترافات التي أدلى بها شخص تظاهر بأنه جاسوس على القاعدة في اليمن، ونجح في مقابلة الأمير وأقنعه بوجود مجموعة كبيرة من أعضاء القاعدة السعوديين في اليمن يريدون تسليم أنفسهم وإعلان توبتهم شريطة عدم التعرض للسجن أو الظهور على التليفزيون، فيوافق الأمير بل يأخذ في التواصل مع زعيم هذه الخلية في اليمن كما تكشف التسجيلات الصوتية. ثم نرى هذا الشخص نفسه وهو يمسك بالقنبلة الصغيرة التي سيستخدمها في اغتيال الأمير بن نايف وهو يقول إنها ستكون هديته للأمير وإنه سيعطرها قبل أن يعطيها له. ويعيد الفيلم بناء العملية من خلال تصوير مقر الأمير بن نايف قبل وبعد التفجير الانتحاري الذي قام به هذا الشاب في مقر الأمير بجدة باستخدام قنبلة أخفاها داخل القناة الشرجة وتم بتفجيرها باستخدام الهاتف الجوال، ولكن العملية فشلت وقتل فيها المهاجم وأصيب الأمير بجروح طفيفة.
أحد شباب تنظيم القاعدة السعودي يضحك بعد أن شارك في مسابقة للجري مع زملائه
يصور الفيلم أيضا كيف أنشأ الأمير بن نايف الذي اعتبره تنظيم القاعدة الأول لهم في المملكة، نظاما أطلق عليه “المناصحة” لإعادة تثقيف وتأهيل المقبوض عليهم في قضايا الإرهاب من أعضاء القاعدة من الشباب، وإقناعهم بخطأ الأفكار التي تلقوها عن الإسلام والجهاد، وفي مشهد آخر نرى كيف جمع ولي العهد (في ذلك الوقت) الأمير عبد الله بن عبد العزيز، عددا من رجال الدين وأبلغهم أن من لا يدين ارهابيي القاعدة سيعتبر منهم!
رغم توفر مادة بصرية كبيرة لصناع الفيلم، ورغم أن المخرج حاول دائما أن يحافظ على سلاسة السرد وتدفقه باستخدام المواد المصورة التي توفرت له، والربط بين تفاصيل ما يجري داخل معسكرات تدريب شباب القاعدة، وما صورته ورصدته الأجهزة الأمنية، قبل وبعد وقوع العمليات، إلا أن الفيلم لا يجري دائما على نفس الوتيرة وبنفس الإيقاع، فهناك قدر من العشوائية والاضطراب يعاني منه الجزء الأخير. وينتهي الفيلم نهاية مفتوحة تشير إلى أنه رغم نجاح قوات الأمن في الحد من الظاهرة إلا أنها مستمرة حتى إشعار آخر.
على الرغم من أي ملاحظات سلبية على شكل السرد، يعتبر فيلم “طريق الدم” عملا جريئا بُذل فيه الكثير من الجهد، حاول مخرجه توخي الموضوعية وترك الصور واللقطات وحدها هي التي تتحدث، مبتعدا عن إصدار الأحكام المطلقة، أو التعرض للعقيدة الإسلامية سواء بالدفاع أو الهجوم، كما لا يتضمن الفيلم مقابلات مع أطراف أخرى مثل المحللين أو المسؤولين الأمنيين أو الارهابين التائبين على غرار ما نشاهده عادة في مثل هذا النوع من الأفلام، مع ترك أعضاء التنظيم – مع بعض ضحايا التفجيرات- هم فقط الذين يتحدثون، وربما في هذا تكمن قوة الفيلم وضعفه في آن.