“طاعون” ألبير كامي الذي يجتاح العالم

لقطة من فيلم "الطاعون" لقطة من فيلم "الطاعون"

ربما لا تكون رواية “الطاعون” للكاتب الفرنسي ألبير كامي، واحدة من أكثر الروايات صلاحية للنقل إلى لغة السينما، أو بشكل عام، إلى عمل درامي يتم تجسيده بالاستعانة بالممثلين، فالرواية تنتمي إلى ذلك النوع الذهني الذي يحمل رؤية فلسفية ونظرة قاتمة للعالم، يتم التعبير عنها من خلال الكلمة المكتوبة والوصف الأدبي.

كان التحدي كبيرا أمام لكل من حاولوا الاقتراب من رواية “الطاعون” لألبير كامي، وانتهى الأمر دائما بالعجز عن تحقيقها سينمائيا. لكن المخرج الأرجنتيني لويس بوينزو تمكّن عام 1993 من تحويل هذا العمل الأدبي ذائع الصيت، إلى فيلم من الإنتاج المشترك بين فرنسا والأرجنتين وبتمويل أميركي من جانب إحدى شركات التوزيع الكبرى، واستعان بنجوم من الصف الأول لتمثيل الأدوار الرئيسية مثل وليام هيرت وساندرين بونير وروبرت دوفال وراؤول خوليا.

تدور أحداث الرواية الأصلية في مدينة وهران الجزائرية التي عاش فيها المؤلف ألبير كامي معظم حياته، وفيها كتب معظم مؤلفاته التي تنتمي إلى الأدب الوجودي الذي عرف أيضا بـ“أدب العبث”، ومنها روايته الشهيرة “الغريب”. أما “الطاعون” فكتبها كامي أثناء الحرب العالمية الثانية، وعندما صدرت في كتاب عام 1947، جاءت مشبّعة بالكثير من أجواء الفترة التي كتبت فيها، فترة الشكوك السياسية والاجتماعية وعدم الوضوح وانعدام الرؤية.

من ناحية البعد السياسي صرّح كامي ذات مرة بأنه أراد أن تكون “الطاعون” رواية متعددة المستويات في فهم محتواها، إلا أنه يرى أن المحتوى الأساسي لها يتمثّل في موضوع المقاومة ضد النازية في أوروبا.

هذا البعد السياسي هو ما يبدو أن المخرج لويس بوينزو اشتغل عليه مع القيام بكل ما يمكنه من تعديلات في بنائها وشخصياتها وموقع أحداثها.

من ناحية موقع الأحداث، قام بوينزو، وهو نفسه كاتب سيناريو الفيلم، بنقل الأحداث من وهران في الجزائر، إلى مدينة معاصرة يحافظ على نفس اسمها في الراوية أي وهران، لكنها قد تكون بوينس أيريس العاصمة الأرجنتينية نفسها، كما جعل وقت وقوع أحداثها في الزمن الحاضر بدلا من الأربعينات. وهو ما يعني أن تدور الأحداث على أرضية سياسية مباشرة ترتبط بتاريخ الصراع السياسي في الأرجنتين، خاصة وأن شهرة المخرج بوينزو قامت على فيلمه الأول “الرواية الرسمية” Official Version الذي حصل على جائزة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي عام 1985، وكان يصوّر بشكل درامي مباشر قضية “الأطفال المخطوفين” أي قيام السلطات العسكرية إبان الحكم العسكري الذي سيطر على البلاد بقبضته الحديدة في السبعينات، باختطاف عدد كبير من أطفال الأسر الفقيرة وبيعهم لأسر ثرية لضباط الجيش المحرومين من نعمة الإنجاب. وهي قضية لا تزال أصداؤها تتردّد حتى يومنا هذا.

الشخصيات الرئيسية في فيلم “الطاعون” هي أولا شخصية الطبيب “برنار ريو” (وليام هيرت) الذي يدرس انتشار مرض غريب في المدينة يشخّصه باعتباره وباء الطاعون، لكنه يضرب عرض الحائط بتعليمات السلطات بعدم إفشاء أنباء تفشّي هذا الوباء للصحافة ووسائل الإعلام المحلية والأجنبية، ويستفز بالتالي السلطات التي تلجأ إلى الاستعانة بالجيش لفرض حالة حصار حول المدينة، وتجميع الحالات المصابة والناقلة للعدوى في الملعب الرياضي الكبير بالمدينة، على نحو يذكّرنا بما وقع في تشيلي عام 1973 عندما قام الجيش في أعقاب الانقلاب العسكري ضد حكومة الرئيس سلفادور الليندي بتجميع المعارضين السياسيين في الاستاد الرياضي في سانتياغو كما رأينا في فيلم “مفقود” Missing لكوستا غافراس.

الطاعون كرمز سياسي

الشخصيات الأخرى في الفيلم من بينها مراسل التلفزيون الفرنسي المصوّر جان تارو، والمذيعة التلفزيونية مارتان (ساندرين بونير) اللذان يجدان أنهما لا يستطيعان الخروج من المدينة بفعل الحصار. من ناحية يجد “تارو” الفرصة مواتية للقيام بتغطية الأحداث التي لا يدرك هو بعد مدى خطورتها، ومن ناحية أخرى تسعى “مارتان” بكل استطاعتها للهرب والعودة إلى فرنسا، وتقوم بالتالي بالاستعانة بخدمات رجل غامض يدعى كوتار يعدها بتدبير مخرج لها بطريقة ما.

يُبدي الطبيب من الشجاعة والتمسّك بأداء الواجب ما يجعله يرتفع كثيرا في أنظار كل من تارو ومارتان: فهو يقوم أولا بإعداد قائمة بأسماء المصابين بالمرض، ويجري التجارب المعملية على الفئران للتوصّل إلى مصل مضاد يصلح تطبيقه على نطاق واسع، ثم يقوم بالعمل ليلا ونهارا في المستشفى في قسم خاص لحالات الطاعون بمساعدة زميل له، مما يدفع تارو للتطوع للمساعدة في العمل معهما. وتفكر مارتان في البقاء والانضمام للمجموعة غير أنها تكون قد تورطت بما يكفي مع كوتار الذي يشي بها للسلطات فيتم القبض عليها وإيداعها الاستاد الرياضي مع الآخرين.

يصوّر الفيلم تفاصيل مرعبة لانتشار الطاعون في المدينة، وحالة الفوضى في الطرق التي تنشأ نتيجة للفزع الذي يستولي على الناس، مما يؤدي في النهاية إلى التمرّد الجماعي حينما يقتحم الناس الاستاد الرياضي ويطلقون سراح الضحايا ومنهم مارتان التي تصاب بطلق ناري ويموت زميلها تارو، وهو يحاول إنقاذها بعد أن يطلق كوتار النار عليه، بينما يشرف الطبيب على الوفاة متأثرا بإصابته بعدوى الطاعون.

الطاعون الذي يصوّره الفيلم يحاول أن يجعل منه معادلا للفوضى السياسية أو بالأحرى، لهيمنة الدكتاتورية والقمع والإرهاب على مقدّرات الأمور في الأرجنتين، أي أنه ينتزعه من مفهومه الفلسفي والفكري المعادل للواقع بأكمله حسب رؤيا كامي، ويمنحه أرضية سياسية مباشرة. إلا أن المخرج لا يستطيع بعد ذلك سوى أن يكرّر الأفكار نفسها السائدة في معظم أفلام السينما السياسية في أميركا اللاتينية: صوّر الفقر والتخلّف والقمع، شخصيات الانتهازيين والمتاجرين بالطاعون، التناقض بين البراءة والشجاعة المطلقة على مستوى فردي، والتناقض بين الجبن والغش والانتهازية التي تتعيش منها شخصيات أخرى تمثّل السلطة. والتمرّد الأخير الذي يؤدي إلى الفوضى العامة هو نوع من التأويل السياسي لما ينتظر أن تسفر عنه التطورات في الواقع الأميركي اللاتيني.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: إذا كان لويس بوينزو قد سمح لنفسه بكل هذه التعديلات على بناء ومفهوم الرواية الأصلية فماذا تبقّى منها بعد هذا كله؟

شخصيات معزولة

من حق المخرج السينمائي أن يتناول بالحذف والإضافة إلى العمل الأدبي لكي يطوّعه للغة السينما، شريطة أن يصوغ هو رؤيته الخاصة لمغزى الراوية وهو ما يفتقده فيلم “الطاعون”. فليس من السهل أن نصف الفيلم بالقول ضمن أفلام الرؤية الشخصية حتى ولو كانت الأحداث التي يصوّرها ترتبط بتجربة خاصة وقعت في موطن المخرج نفسه، فالفيلم مصنوع أساسا بغرض تطويع شخصيات الرواية قسرا لأغراض الطرح السياسي المعتاد، مع بعض التأملات في مصائر الشخصيات في محاولة لاحترام جوهر ومغزى رواية كامي، لكن بينما كانت شخصيات كامي تعبّر عن الشعور بالوحدة القاسية والفراغ النفسي الشديد على أرضية واقع يتغيّر بشدة أثناء الحرب العالمية الثانية، وكانت أيضا تعكس تشوشا في السياق الاجتماعي وانعدام التواصل بين البشر في مدينة تتميّز بكونها نتاجا للاستعمار الفرنسي تعيش فيها شريحة ارستقراطية من رجاله الذين يرقبون عن قرب سقوط إمبراطوريتهم الوردية بعد احتلال النازي لها، إلا أننا لا نستطيع أن نتبيّن لماذا تبدو الشخصيات في الفيلم معزولة على هذا النحو عن بعضها البعض، عاجزة عن فهم مغزى ما يقع حولها رغم تجسيده القويّ في الفيلم.

هناك على سبيل المثال، مشاهد عديدة للفئران التي تنتشر في كل مكان، ولانتشار الجثث في الشوارع، ومشاهد أخرى مؤثرة لطفل يحتضر جرّاء الإصابة بالمرض، وقسيس يهب حياته من أجل أن يسجّل ولو إشارة واحدة احتجاجا على ما يحدث في البلاد، لكن الهدف الأساسي للفيلم كان تحقيق المزج بين الموضوع السياسي وتركيبة الفيلم الملحمي الكبير المثير على طريقة الأفلام متعددة الجنسيات من التمويل الأميركي.

من حق المخرج أن يتناول بالحذف والإضافة إلى العمل الأدبي لكي يطوّعه للغة السينما، شرط الراوية أن يصوغ هو رؤيته الخاصة لمغزى الراوية وهو ما يفتقده فيلم “الطاعون”

ولا ننسى أن فيلمنا هذا مصنوع أصلا من أجل السوق الأميركية، أكبر أسواق السينما في العالم، وهنا نستطيع أن نفهم لماذا يتحدّث الجميع في فيلم يدور في الأرجنتين باللغة الإنجليزية، لغة الفيلم الوحيدة، ولماذا تمت الاستعانة بنجوم السينما الأميركية: روبرت دوفال ووليام هيرت.

وعلى الرغم من ذلك، يعاني الإيقاع العام لفيلم “الطاعون” من هبوط الإيقاع بعد المشاهد الافتتاحية القوية، حيث يترهّل الفيلم في نصفه الثاني، ويعاني من غلبة الحوار وتداخل الشخصيات على نحو مُربك.

ولا ينجح وليام هيرت في القيام بدور الطبيب ببروده الشديد في التعامل مع الشخصية التي يفترض أنها الشخصية المحورية التي ترتبط بها مصائر الشخصيات الأخرى. هذه الشخصية كانت في حاجة إلى ممثّل متوهّج الموهبة والحضور، وإلى إعادة كتابة الحوار الذي تنطق به بحيث تشحن الفيلم بنوع من الحرارة، مع السيطرة المفترضة على الحركة أمام الكاميرا، الأمر الذي نفتقده كثيرا في هذا الفيلم الطموح.

وقد سبّبت النهاية التي يختتم بها الفيلم الارتباك للمتفرج.. هنا نرى مطاردة على طريقة الفيلم البوليسي تنتهي فجأة، بمصرع جان تارو المصوّر التلفزيوني، وباقتحام الجموع للملعب الرياضي في إشارة واضحة إلى ما يجب أن يحدث، أو لعل المخرج أراد تسويق فكرة أن الناس في حاجة إلى وباء قبل أن يعلنوا تمرّدهم على الأوضاع الفاسدة.

رواية مجازية

يقول المخرج لويس بوينزو “إن رواية ‘الطاعون’ هي رواية مجازية خالصة. في أوروبا الأربعينات كان السياق السياسي واضحا. ولهذا لم يجد كامي ضرورة لأن يضمر موضوعا يستخدم فيه المجاز داخل المجاز. لكننا الآن في التسعينات، الحقبة التي تؤكد فيها وسائل الاتصال والإعلام في العالم كله سقوط الأيديولوجيا. في هذا السياق يكون من السهل أن نتخيّل فيلم ‘الطاعون’ كفيلم من أفلام الكوارث الكونية، أو كفيلم عن مرض الأيدز، أو حتى مجرد فيلم ميلودرامي من الأفلام التي تصنع للتلفزيون عن حياة الأطباء في المستشفيات الكبرى! للأسف فإن الثقافة السينمائية التي تعتمد على قنوات متاحة للجمهور، تميل عادة إلى التخدير بدلا من التنبيه، لهذا فعندما كتبت سيناريو الفيلم قررت أن أضع في السياق المجازي مؤشرات ترتبط بموضوع المجاز. لذا فقد قمت باختيار عكسي تماما لاختيار كامي، لكنني استخدمت كل تلك المؤشرات ومنحتها رنينا خاصا. لقد حاولت أن أصوّر الواقع في شكل حكاية رمزية ذات مغزى أخلاقي، وأن أتحدّث عن التسلّط والقمع المسلح أيضا، بطريقة مجازية”.

Visited 20 times, 1 visit(s) today