“من أفلام مهرجان القاهرة السينمائي: “ضحية
محمد كمال
كان هناك شبه اتفاق على عدم منطقية جوائز المسابقات الرسمية للدورة 44 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي التي أقيمت في الفترة من 13 إلى 22 نوفمبر الحالي، وخاصة جوائز المسابقة الدولية الرسمية، فقد حصدت أقل الأفلام في المستوى على الجوائز، مع ذلك تظل جوائز مسابقة أسبوع النقاد الدولية هي الأكثر موضوعية بالفعل.
الفيلم الأوكراني “بامفير، والباكستاني “جويلاند” يستحقان جائزتي أفضل فيلم ولجنة التحكيم، أما الفيلم الثالث الذي حصل على تنويه خاص فكان السلوفاكي “Victim” أي “ضحية”، للمخرج ميخال بلاسكو الذي يعد التجربة الأولى له في السينما بعد عدد من المسلسلات التليفزيونية.
وفيلم “ضحية” يعتبر التمثيل الرسمي لسلوفاكيا في المنافسة على جائزة أفضل فيلم أجنبي في الأوسكار، ويعد من أبرز الأفلام التي عرضت خلال مهرجان القاهرة بشكل عام.
يحمل الفيلم الجنسية السلوفاكية وفق الإنتاج الرسمي وأيضا الموطن الأساسي للمخرج المولود في مدينة براتيسلافا التي كانت قديما من أهم مدن دولة “تشيكوسلوفاكيا” قبل الانفصال لتصبح بعد ذلك العاصمة الرسمية لدولة سلوفاكيا، ومع ذلك الفيلم يعتبر الفيلم تشيكي الهوية وبه خط متعلق بالجانب الأوكراني، ويبدو أن الفيلم استند إلى المشكلة السياسية الحادة التي وقعت العام الماضي بين الجارتين التشيك وسلوفاكيا، بسبب أزمة المهاجرين غير الشرعيين، فتتهم كل منهما الأخرى بأنها المتسببة في عدم السيطرة على الحدود. وحتى وقتنا هذا لم تحل تلك الأزمة التي شهدت خلاف كبير بين الحكومتين في أكتوبر الماضي.
كانت تلك الأزمة العامة هي نقطة الانطلاق فقط لكن الحبكة مختلفة تماما والربط هنا يتمثل في أن بطلتها أرينا عاملة أوكرانية مهاجرة إلى جمهورية التشيك بسبب الحرب الروسية الأوكرانية وتسعى بكل جهد للحصول على الجنسية التشيكية وتحاول الحياة على الهامش دون أن تدخل في أزمات تعرقل أوراق الطلب الذي قدمته لأكثر من مرة حتى تحصل على الجنسية ورفض في أكثر من مناسبة، لكن فجأة تجد أرينا نفسها في مشكلة تبدو عادية لكن أخذت منحنى متصاعد غير تقليدي.
في المشهد الأول الذي يظهر فيه المخرج الوضع على الحدود والزحام الشديد والعراقيل التي تضعها الشرطة قبل بوابات الدخول تعرف أرينا أن ابنها إيجور تم نقله للمستشفى في مدينة على الحدود بعد أن تعرض للأعتداء من قبل مجموعة من الألبان مناصري التيار اليميني المتشدد بالتالي تبدأ تلك القضية في الحصول على اهتمام الجميع في التشيك وتتصدر “الترند” على مواقع التواصل الاجتماعي لكن المفاجأة كانت اكتشاف أرينا بمصارحة ابنها بأنه كذب في شأن الحادث وانه تعرض لحادث سقوط أثناء الترفيه مع صديقته.
بدون مقدمات تتحول مشكلة المراهق الأوكراني الأصل إيجور إلى قضية رأي عام وبدأت أطراف أخرى تتداخل فيها للحصول على أكبر قدر من المنفعة الترويجية كلا حسب توجهه، فنجد أن عمدة المدينة التي تخوض انتخابات جديدة على منصبها تتقرب من إيجور ووالدته لتستغل المشكلة بل وتحاول أن تبرزها لتغطية الفساد الذي يحيط بالدولة التشيكية بشكل عام وبشكل خاص عدم قدرة العمدة على تنفيذ أي من وعودها السابقة.
ويظهر ميخال الناشط السياسي المعارض ذو الأراء اليسارية الذي يحاول عن طريق جماعته مواجهة الفساد الحكومي بواسطة التحرك في الشارع بإقامة المظاهرات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية. وبالفعل يقوم بتنظيم وقفة احتجاجية واتفق مع أرينا أن تكون هي العنصر الأساسي والمحرك للتحدث عن ما تعرض له ابنها، ويبدو ان اختيار اسم ميخال لم يأتي مصادفة بل انه نفس اسم المخرج ومن هنا تظهر إشارات حول توجهات المخرج السياسية.
وسط كل هذا تبدو أرينا مرتبكة فهي لا تعرف ماذا تفعل، الأزمات تحيطها من كل جانب القضية أصبحت ترندا والقوى السياسية تعرض المساهمة والتيارات اليمينة المتطرفة في حالة تربص، في نفس الوقت القضية مبنية على كذب شهادة غير حقيقية من ابنها وإذا تم اكتشاف الأمر لن تحصل على الجنسية، وما يزيد الضغوطات على أرينا إصرار ضابط الشرطة المكلف بالتحقيقات في القضية فهو يجد أن شهادة الابن بها تضارب لكنه في نفس الوقت متعاطف معه إنسانيا، وفيكتور أيضا يدخل في حالة ارتباك لكن على مستوى أقل من إيرينا، فهذا الضابط منحاز للعدالة وتطبيق القانون لكنه في نفس الوقت يعي تماما أن الفساد تغلغل في الدولة مما جعل القانون في حالة ترنح قليلا.
اعتمد المخرج ميخال بلاسكو على أسلوب قريب الشبه من أسلوب المخرج المجري لازلو نيميس في فيلميه “ابن شاؤول” و”الغروب”، خاصة في المشاهد الخاصة بتحركات أرينا، فالكاميرا تسير مع أرينا من الخلف دائما في حركة سريعة متذبذبة وذلك لإظهار جانبي سرعة الأحداث في حياة أرينا وأيضا ارتباكها وتذبذب مستوى التفكير في الأمر الطارئ الذي حدث كأنها تسأل نفسها ماذا أفعل ؟ لكن في المشاهد الخاصة بالمستشفى وقسم الشرطة والتي فيها أرينا تتحدث مع فيكتور أو إيجور اعتمد المخرج على اللقاطت المتوسطة حيث يقوم بتثبيت الكادر على الشخصتين دون أي قطع.
تزيط الضغوط أكثر أرينا بعد الإعلان عن الوقفة الاحتجاجية وإصرار ميخال على أن تحضر وتلقي كلمة عن ازمة ابنها في نفس الوقت تحاول العمدة في أن تمنعها من التواجد في الوقفة حتى لا تجذب أنصار التيارات اليمينية المتطرفة الذي أطلق عليه في الفيلم “النازيون الجدد” وتعرض العمدة على أرينا الحصول على شقة جديدة في العاصمة براج وأيضا مبلغ من المال.
ترفع أرينا شعار الغاية تبرر الوسيلة وتحاول أن تخرج من الوضع السئ بأقل الأضرار وتقرر للمرة الأولى في حياتها أن تنتصر لصوتها فقط دون الانصياع لرغبات الآخرين، في البداية اضطرت على مواصلة الكذبة لأن كشف الحقيقة يعني عدم الحصول على الغاية الأهم وهي الجنسية في نفس الوقت تحاول الضغط على الشرطة لإخلاء سبيل المراهق المتهم الأساسي بالاعتداء على ابنها لأنها تعرف ان الشاب رغم موقفه اليميني المتطرف تجاه ابنها لكنه لم يعتدي عليه، وتقرر أرينا التبرع بالمبلغ المالي الذي حصلت عليه من العمدة لصالح إصلاح البنية التحتية في المدينة.
اختار المخرج ميخال بلاسكو ان يكون عنوان فيلمه “ضحية” وهو بالفعل انغمس تماما في توضيح وإظهار مفهومه ورؤيته حول من الضحية أو بمعنى أدق الضحايا، لأن أرينا ليست الضحية الوحيدة، إيجور الابن ضحية الحياة كغريب في بلد اخر يتعرض فيه للعنصرية من اليمين القومي، الضابط ضحية لأنه يفشل في التوازن بين تحقيق العدالة ومواجهة الفساد.
الجميع ضحايا الحرب الروسية الأوكرانية وتدني الأوضاع والفساد في التشيك، ضحايا محاولات الاستغلال والتلاعاب سواء من جانب السياسيين أو قوى المعارضة، ضحايا حكومات تستنزف الآخر ولا تحقق لهم الشعور بالأمان، تجعل المواطن الأصلي يشعر بالغربة بالتالي ماذا عن شعور المهاجرين أو الأقليات؟
وجاء مشهد النهاية ليكون خير تتويج وهو الخاص بالاحتفال الذي تقيمه التشيك للحاصلين على الجنسية وقيام أرينا باستلام أوراق الحصول على الجنسية التشيكية تلك الغاية التي سعت لها منذ البداية حتى وان جنحت قليلا في الوسائل التي أضطرت لاستخدامها لتحقيق الهدف، في هذا المشهد تقوم أرينا بترديد النشيد الوطني التشيكي الذي هو بالمصادفة يبدأ بجملة “أين موطني” كأنه سؤال تطرحه أرينا على نفسها، برغم حصولها على الجنسية لكنها ستظل تشعر بالغربة ليس فقط في التشك لكن في هذا العالم.