صورة الغرب في “ثلاثية الدولارات” لسيرجيو ليوني
أمير العمري
الفصل الثالث من كتاب “سيرجيو ليوني وسينما الويسترن سباجيتي”
ثلاثية الدولارات هي الأفلام الثلاثة الأولى التي أخرجها سيرجيو ليوني، وقام ببطولتها كلينت إيستوود، وهي التي جعلت منه نجما كبيرا بعد أن كان ممثلا مغمورا. ولا شك أن وجود “الدولارات” في عناوين فيلمين من هذه الأفلام له دلالة خاصة، فالكلمة تلخص على نحو خافت، الولع الأمريكي بالمال، بالثراء، كما تعكس أيضا، النظرة الأوروبية للأمريكي، التي ترى أن أهم ما يشغل الأمريكي هو “الدولار” أي قيمة المال، وكان ليوني بالتالي يرى أن الصراع في الغرب الأمريكي كان- أساسا- صراعا من أجل المال، أو الثراء، والعثور على الكنز المدفون في مقبرة، أو قتل أكبر عدد من الخارجين على القانون بغرض الحصول على المكافأة المالية الضخمة المرصودة لرؤوسهم، أو سرقة بنك، أو قطار ينقل الأسلحة لبيع الأسلحة وقبض الثمن.. وغير ذلك.
ورغم أن بطل ثلاثية ليوني لم يكن دائما مدفوعا بنفس الدوافع إلا أنه كان دائما قادما من المجهول، فهو بطل غامض، لا هوية له، يعتمد وجوده على قيد الحياة، على قدرته الفائقة على التصويب الدقيق والقتل قبل أن تنطلق نحوه رصاصة من خصمه تصرعه. وهو من دون مسدسه يصبح ضعيفا، يمكن النيل منه. وفي تكوين شخصية البطل- الذي يوصف بأنه (لا اسم له) هناك ميل نحو الخطر، التحدي، المغامرة. إنه يجسد شجاعة بطل الغرب الأمريكي، وفي الوقت نفسه ينزع عنه هالته الأسطورية التي شاعت في أفلام الويسترن الأمريكية التقليدية، والتي تصوره كصاحب رسالة أخلاقية تتفق مع القيم المسيحية الغربية، يريد إحقاق الحق ووضع الأمور في نصابها الصحيح، وتطبيق القانون ولو كلفه الأمر حياته. ويرجع جانب من جاذبية بطل الويسترن سباجيتي في “ثلاثية الدولارات” إلى قلة كلامه، وتمسكه بالصمت الطويل، فمن يتكلم كثيرا لا يمكنه التركيز، و”إذا أردت أن تقتل لا تتكلم بل اقتل”، وهي العبارة الشهيرة التي رددها إيللي والاش في “الطيب والشرس والقبيح” وحفرت في ذاكرة الجمهور والنقاد أيضا، ومن يخفي انفعالاته ويعرف كيف يتحكم فيها هو الأقدر على مواجهة خصومه بعد أن يجبرهم على التخلي عن حذرهم. وصمت البطل هو صمت طويل يسبق الانفجار المفاجئ والمتوقع، للعنف، لانطلاق الرصاص، ويتيح هذا الصمت الذي أصبح راسخا في أفلام ليوني، مساحة جيدة لمراكمة التوتر وتصاعد الخوف وجريان الأدرينالين في الدم.
إنه الصمت الذي يسبق القتل، والموت. والموت عند ليوني راسخ في ثلاثيته التي سنتطرق لمناقشتها بالتفصيل في الفصول القادمة: المشاهد المصورة في المقابر، شواهد القبور، المبارزات التي تدور في القبور، النعوش الخشبية، أجراس الكنائس التي تعلن عن سقوط قتلى، الغراب الناعق، الذباب الذي يحلق حول الوجوه، الكلاب التي تهرب من ساحة البلدة قبل أن تنطلق المبارزة التي تفضي إلى الموت.. إلخ.
اكتشف ليوني عبر “ثلاثية الدولارات”، أنه يعبر عن الغرب الأمريكي المترسب في خياله منذ طفولته، أي منذ أن كان يشاهد ويعيد ترتيب أفلام الويسترن الأمريكية في ذهنه خصوصا أفلام جون فورد، وتوصل إلى أن اللقطات القريبة والقريبة جدا للوجوه، وتكرار تعاقبها، مع المساحات الواسعة التي تفصل فيما بينها في اللقطات البعيدة، تساهم في خلق حالة الترقب والقلق والتوتر والتشويق، وتجعل الشخصيات التي تواجه بعضها البعض في دائرة، مع الطول غير المعتاد وغير الواقعي للمشهد نفسه، وموسيقى إينيو موريكوني التي تبدو قادمة من عالم آخر، تمر بلحظة وجودية، يمكن أن يتحدد فيها مصير المرء برصاصة واحدة، فهو وحيد في صحراء شاسعة، حيث لا أحد يمكنه أن ينقذ أحدا، فالإنسان يعيش وحيدا، لحظة موحشة لكنها تمر كالدهر، مليئة بالشعور بالوحدة، بالخوف، ترتعش عيناه قلقا في انتظار اللحظة الحاسمة. هل سينجو أم سيفنى؟ وفي الوقت نفسه، تصبح أصوات الرصاصات المنطلقة مثل الصرخات الحادة، ويكثر العنف الذي لا يمكن تخيله واقعيا، فهو عنف سيريالي يمتزج مع موسيقى موريكوني السيريالية بدورها، التي ترفع أحيانا، من حدة الشعور بالصراخ، وبالنحيب، ونلمح في طياتها صوت الأجراس، والأورج الجنائزي الحزين، والصفير الحاد، مع دوران الكاميرا من وراء ظهور الشخصيات التي تواجه قدرها وحدها في صحراء الغربة والجفاف والموت، سواء بالقرب من قرى ميتة أو مقابر شاسعة، حيث يصبح عالم الغرب عالما سيرياليا، ليس من الممكن تفسيره أو فهمه.
لقد غير ليوني الصورة التقليدية النمطية للبطل/ الكاوبوي/ الشجاع/ المنقذ، التي سادت أفلام هوليوود في أواخر الخمسينيات، ليجعله نموذجا لا يتميز بالنظافة والأناقة والرونق، بل كشخص غير نظيف وغير حليق اللحية بالضرورة، دوافعه الأخلاقية مبهمة، بل يعتقد ليوني، حسبما صرح أكثر من مرة، أن الغرب صنعه رجال بسطاء يتسمون بالعنف، وهذه القوة والبساطة هي التي يحاول استعادتها: “إنني أعيد تخيل المشهد في “الغرب” على أنه ساحة معركة وحشية حيث كانت القاعدة الوحيدة هي أن تصبح ثريًا وأن تكون أكثر مراوغة من خصمك، وأنا بذلك أفجر أسطورة الغرب النبيل في وابٍل من الدماء والرصاص” (بول مارتينوفيتش: مراجعة ثلاثية الدولارات لسيرجيو ليوني، عرين المتطرف، 18 يناير 2013).
يتخذ العنف في “ثلاثية الدولارات” منحى جديدا لم يكن مألوفا في الويسترن الأمريكي التقليدي. فهو ليس مدفوعا بالدفاع عن النفس فقط أو عن “القيم” و”الأهداف” النبيلة، أو التي يتم تصويرها للمشاهدين على هذا النحو، بل هو عنف سيريالي، موجه ومسخر من أجل هدف واحد فقط، هو الحصول على المال، والثروة، والذهب، من دون أي مشقة أو جهد، فبطل الويسترن سباجيتي لا يبذل جهدا للبحث أو للتنقيب عن الذهب مثل “الرواد الأوائل” في الغرب الأمريكي، بل يريد الاستيلاء على ما حصل عليه الآخرون بالفعل، سواء من خلال التنقيب أو السرقة. وهي الصورة التي أثارت فزع قطاعات من الجمهور الأمريكي ونقاد السينما أيضا، إزاء أفلام ليوني وفي مقدمتها بالطبع، ثلاثية الدولارات، فالعنف طبقا لهذا المنطق، عنف غير مسبوق وغير متصور، وكل طلقة رصاص تمضي في هذه الأفلام وكأنها القدر نفسه. فالموت مكتوب وقدري، ومواجهة الموت مواجهة مع القدر، لا يجدي معها سوى أن تحافظ باستمرار على قدرتك الخاصة على التصويب وإطلاق النار بأقصى ما يمكنك من سرعة.
والهدف من الاستحواذ على الثروة في ثلاثية الدولارات ليس واضحا، ولا يهتم ليوني قط بتوضيحه، فنحن لا نعرف سوى أن هناك من يتصارعون من أجل الحصول على المال، ولكننا لا نرى قط ماذا يفعلون بالمال، فالاستقرار ليس من طبيعة شخصيات الو يسترن سباجيتي، فليس لديهم زوجة أو أسرة أو منزل أو بلد. والعلاقة مع المرأة غامضة أو غائبة. وإذا وجدت فهي علاقة بين الذئب والضحية أو بين الضحية والمنقذ الذي لا هدف له سوى إخراج المرأة وإبعادها عن دائرة الصراع. فالمرأة تظهر في الفيلم لكي تختفي، ولا يستغرق وجودها طويلا عل الشاشة فهي تظهر في مشهد أو مشهدين. وبطل الغرب (الجديد) في ثلاثية ليوني فردي تماما، لا جذور له ولا انتماءات، فهو ينتمي لنفسه فقط، ولا يقيم وزنا لسلطة أو لقبيلة أو لمحيط اجتماعي. لذلك هو بطل مخيف، يبدو قادما خارج الواقع، أي صورة خيالية أو متخيلة لبطل لا وجود له سوى في قصص الجن والعفاريت، لكن ليوني كان يصنع هذه القصص الخرافية للكبار لا للأطفال.
والشخصيات الرئيسية في الثلاثية، إما لا اسم لها كما هو حال البطل الرئيسي المتكرر في الأفلام الثلاثة، الذي يقوم بدوره كلينت إيستوود، أو أنه يحمل اسما وهميا يطلقه عليه الآخرون (جو، مانكو، بلوندي)، كما يبدو اسم البطل- المضاد أو نقيض البطل، رمزيا مختصرا ومصطنعا وليس اسما حقيقيا: إنديو، توكو، عين الملاك. ولا يبدو أن هناك حدا فاصلا في أفلام الثلاثية بين الخير والشر، وبين الجيد والشرير، وبين الطيب والشرس، وبين الجميل والقبيح، فهم يتبادلون الأدوار، لكن هناك مع ذلك، تباينات، يمضي ليوني ليتعمق في شرح أبعادها كلما اكتسب ثقة أكثر من فيلم إلى آخر. ففي فيلمه الأول “من أجل حفنة دولارات” كانت الشخصيات سطحية ونمطية إلى حد كبير، ولكن جذابة ومسلية. وفي الفيلم الثاني “من أجل مزيد من الدولارات”، اكتسبت أبعادا جديدة، كما لم يعد الصراع محصورا بين شخصيتين فقط، بل ستدخل شخصية ثالثة تكمل الثلاثي الذي سيصبح من علامات أفلام ليوني فيما بعد، وهو يجيد توظيفه والتلاعب به، وتصوير الفروق والتباينات بل وتبادل الأدوار والخيانات والوشايات، والغدر أحيانا، بل كثيرا.
بطل الغرب عند ليوني لا يقيم وزنا لما يجري من صراع على أرض الواقع (الحرب الأهلية الأمريكية مثلا). صحيح أنه يجد نفسه وسط الصراع، لكن من دون أن يسمح لنفسه أبدا بأن يصبح طرفا فيه، فهدفه يظل إكمال المهمة التي بدأها، أي الحصول على المال، لذلك هو مستعد لأن ينتقل من دور الجنوبي الانفصالي (أو الكونفديرالي حسب التعبير الذي كان سائدا) إلى الاتحادي الشمالي. لذلك فهو بطل عدمي، لا يهمه أحدا سوى نفسه. وهو سبب آخر كان كافيا لإزعاج قطاع من الجمهور الأمريكي أو جذبه، بنفس الدرجة من الحماس، وسبب الانزعاج أنه بطل خارج عن “الوعي الأمريكي” الجمعي، يبدو كأنه جاء من الخارج (من أوروبا)، ليفسد الصورة “الأسطورية” المترسبة في ضمير الأمريكي عن بطله المثالي من الغرب. اما سبب الحماس عند البعض الآخر، فالمفارقة أنه يرجع للسبب السابق نفسه، أي لأنه يخلصه من الصورة التقليدية المتكررة الرتيبة عن قيم الغرب وعن البطولة القديمة الغابرة التي لم تعد تثير الخيال في الستينيات مع ظهور حركات التمرد والاحتجاج السياسي والهيبيز ورفض حرب فيتنام ورد الفعل على اغتيال جون كنيدي ومارتن لوثر كنج وروبرت كنيدي. وهي الفترة التي جاءت فيها أفلام الثلاثية إلى دور العرض الأمريكية، بعد أن كانت قد أثارت إعجاب ملايين الأوروبيين منذ أن عرض الفيلم الأول “حفنة دولارات” عامي 1964 و1965، في حين أن عروضها الأمريكية لم تبدأ قبل 1967. والطريف أن تأخير عرض الفيلم الأول أدى إلى الإعلان عن عرض الأفلام الثلاثة تباعا في أوقات متقاربة، فقد كانت قد أصبحت كلها جاهزة للعرض في ذلك العام.
إن الغرب في “ثلاثية الدولارات” ليس هو الغرب، والشخصيات ليست هي الشخصيات، والحرب الأهلية ليست هي الحرب الأهلية، والقتل لا يتم لهدف نبيل، وإذن فليوني “يزيف” صورة الغرب أو يعتدي عليها. وهو ما دفع بعض كبار نقاد السينما حتى في بريطانيا مثل ديفيد تومسون، للهجوم على أفلام ليوني واتهامها بالزيف والسطحية والافتعال. وينقل بول مارتينوفيتش عنه قوله: “أعتقد أن ليوني يحتقر الغرب حقًا. إننا لم نشعر أبدًا أننا في أمريكا أو مع أشخاص يفكرون باللغة الأمريكية. إنه يسخر من الأساطير والهوس الكامن في فن السينما” (بول مارتينوفيتش: التطلع للوراء إلى ثلاثية الدولارات. دن أوف جيك، 18 يناير 2013″).
ويقول تومسون إن المخرج الألماني فيم فيندرز اتهم ليوني بأنه “ساهم في دفن الو يسترن أو على الأقل دفعه إلى البقاء في مكانه”. ومع ذلك يعتبر المخرج الأمريكي كوينتين تارانتينو “الطيب والشرس والقبيح” فيلمه المفضل، ويقول إنه عندما أراد أن يصبح مخرجا، شاهد على شاشة التليفزيون فيلم “ذات مرة في الغرب”، وكان بمثابة دليل إلى: كيف تخرج فيلما. كان فيلما جيد التصميم. وشاهدته لكي أعرف كيف تدخل الشخصيات إلى الصورة وكيف تخرج منها”. (حوارات كوينتين تارانتينو، أنظر أيضا ما كتبه تارانتينو عن سينما ليوني في الشهادات المنشورة في فصل مستقل من هذا الكتاب).
أصبح كلينت إيستوود نجما فوق العادة (سوبر ستار) بفضل الصورة التي منحها له ليوني، صورة البطل الغامض، الصامت، البارد الذي لا ينفعل ولا يتفاعل سوى لحماية نفسه والانتقام من “الأوغاد”، والقتل من أجل المال. وكانت تلك الصورة التي ظهر عليها بطل ليوني في الغرب الأمريكي تتجانس كثيرا مع صورة بطل آخر كان قد بدأ يلقى شعبية هائلة في الولايات المتحدة وأوروبا بل والعالم كله، وهو جيمس بوند. وغالبا كان مبتكر شخصية “الغريب الغامض” وهو يرسم معالم الشخصية، يستوحي من بعض ملامح شخصية جيمس بوند، ليس فقط في بروده وثباته الانفعالي وسيطرته على نفسه، بل في تعليقاته الساخرة واستهتاره المرح بخصومه.
يمكن اعتبار شخصية إيستوود في “الثلاثية” هي شخصية البطل- الضد أو نقيض البطل anti-hero بمعنى واحد فقط أنه نقيض لبطل الغرب التقليدي (الإيجابي). فهو – كما أشرت- لا يناقض غيره، ولا يسير نحو مصير تراجيدي بسبب تمرده على محيطه، بل هو في الحقيقة، جزء من المحيط، محيط الجشع والعنف، ولا يختلف كثيرا عن غيره سوى في التفاصيل التي يجيد ليوني إيهامنا بأهميتها ولكنه يتركنا في النهاية، لكي نكتشف أن هذا البطل يظل على قيد الحياة فقط، إما بمحض المصادفة وحسن الحظ، أو بفضل ذكائه وفطنته، لكنه يظل أيضا ضحية للزمن الذي يسرقه. وكل أفلام ليوني- وليس فقط “ثلاثية الدولارات”- يمكن اعتبارها أفلاما عن الزمن، وهو يعرف كيف يوظف العلاقة بين الفضاء الدرامي والزمن، وكيف يصبح لزمن اللقطة والمشهد أهمية قصوى في دفع المتفرج للتأمل في مسار الأحداث، ومصائر الشخصيات.
يقول الناقد الأسترالي أدريان مارتن: إن المبدأ الأساسي لأسلوب ليوني الأوبرالي العظيم، سواء في أكثر لحظاته إثارة ومبالغة، أو في أهدأ اللحظات وأكثرها دقة- يكمن في قدرته على التفسير الشعري للوظائف السينمائية المتعلقة بالزمان والمكان. بالطبع، لا يمكن لأي فيلم أن يتجنب استخدام الزمان والمكان، سواء بدرجة أكبر أو أقل من الإتقان التعبيري. لكني أرى أن قلائل فقط هم الذين استطاعوا تجاوز ما حققه ليوني في المزاوجة بين إحساس الجمهور بالفضاء الدرامي: من خلال التوتر، والاحتمالات الخاصة بحركة الشخصيات والأشياء، وبين التجربة القسرية التي يفرضها علينا تعاقب الزمن على الشاشة، كيف يمكن خلق الزمن الذي يتم تمريره على الشاشة. وكما قال فينسنت أوستريا، بالنسبة إلى ليوني “فالزمن وسيلة للمبالغة في كثافة الفضاء”، والفضاء، في اتساعه المفتوح أو ضيقه الخانق، هو وسيلة لخلق شعور خاص ومحسوس بالزمن”. (النشوة والمضحك المحرر: سينما سيرجيو ليوني).
ليوني قام بتخليص صورة الغرب الأمريكي كما عرفناها في أفلام الويسترن القادمة من هوليوود، من رومانسيتها وعاطفيتها، ومن تأثيرها النوستالجي الذي يدفع الجمهور إلى التطلع المشوب بالشجن، إلى الماضي، إلى البطولات الأسطورية في “الغرب”. لذلك يمكن القول إنه خلص الأسطورة من “أسطرتها” لكنه في الوقت ذاته، رسخ لأسطورة جديدة، ترتبط ببطل ليوني العدمي الذي يبدو أحيانا كما لو كان هو نفسه يسخر من نوع الويسترن الأمريكي، وهو ما يشي بأن ليوني يتقمص بطله كما يتقمصه بطله.
يقول إلبرت فينتورا: يمكن بسهولة تحديد مصدر فن ليوني: لقد كانت الأفلام هي حياته. ويصف كريستوفر فرايلينج، ليوني بأنه عاشق أفلام شغوف، كان يحفظ ويردد عبارات كثيرة دقيقة من الأفلام التي شاهدها قبل ذلك بسنوات. وعندما كان ليوني طفلاً وحيدًا في روما في ثلاثينيات القرن الماضي، كان مفتونًا بأفلام هوليوود. وقد أسرته بشكل خاص، أفلام الويسترن التي أخرجها جون فورد، وأفلام العصابات التي أخرجها جيمس كاجني. فقد كان أبطال هذه الأفلام “أكبر من الحياة”. وبحلول الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وجد ليوني أن أفلام الويسترن الأمريكية فقدت سحرها، بعد أن حل الشرح والتحليل النفسي محل الأكشن وصناعة الأساطير. في هذا السياق، يمكن النظر إلى أفلام ليوني على أنها محاولة لاستعادة ضخامة وسحر أفلام طفولته. (إلبرت فينتورا: تارانتينو الأصلي: كيف ساهم ليوني في نشر ثقافة البوب).
تأثير ليوني على “الويسترن” وعلى الثقافة الشعبية وتحديثه للنوع السينمائي الشهير، بل وإعادة إحيائه، بعد منحه شكلا جديدا وصياغة جديدة وأبطالا جددا، هو ما سنتوقف أمامه تفصيلاً في الفصول الثلاثة القادمة من خلال تحليل أفلام “ثلاثية الدولارات” التي صنعت شهرة هذا المخرج الفريد الذي وصفه الفيلسوف الفرنسي جان بوديار، بأنه “أول مخرج سينمائي ما بعد حداثي”.