“صاحب المقام”.. الصوفية تتسلل إلى السينما المصرية

كم تسعدني محاولات المثقفين لاختراق حالة الانكماش الثقافي التي تمر بها مصر منذ أكثر من 30 سنة، والمشاكسة المشروعة لإثبات الوجود وبرهنة الاستمرار على قيد الحياة، ثم الاحتكاك بالمجتمع وما يعتريه من أحداث تتراوح بين السلب والإيجاب.

من ذلك أفلام سينمائية تفاجئنا بين حين وآخر بعدم انفصالها عن الواقع، تعيد لنا الثقة في وجود بعض من نبض في واحد من أبرز مناشط قوة مصر الناعمة على مدى التاريخ.

الفيلم الذي يعيد بث الأمل في النفس هو “صاحب المقام”، قصة إبراهيم عيسى، وإنتاج أحمد السبكي، وإخراج محمد العدل، بطولة آسر ياسين، يسرا، أمينة خليل، بيومي فؤاد، مع مشاركات مؤثرة للفنانين ابراهيم نصر، هالة فاخر، والطفل عمر حسني، والفيلم من إنتاج العام 2020.

أحمد السبكي منتج دؤوب، فهو يفاجئنا بين حين وآخر بتقديم عمل لايغازل عواطف أحد، بأفلام تضيف لرصيد السينما المصرية في سنواتها الصعبة، ومن هنا لم أكن أتوقع أن يحمل فيلماهد الأكشن.

يدور فيلم “صاحب المقام” في إطار صوفي، وهو من الموضوعات النادر تناولها في السينما المصرية، وإذا كان الفيلم مستغربا في نظر الكثيرين بالنسبة للسبكي، فلا يعد غريبا إزاء مؤلفه “إبراهيم عيسى، بما له من طروحه المتعددة في موضوعات تمس الفكر الديني ورصيده فيها، فمن الطبيعي أن يكسر عيسى الحصار المضروب على أفكار من هذا النوع ويقتحم بها شاشة السينما كإحدى الساحات الزاخرة بالجماهيرية، لينتقل الحوار والجدل إلى مستويات مختلفة من الجماهير.

يروي الموضوع حكاية المهندس “يحيى الرمالي”، وهو إنسان عملي ناجح في عمله كصاحب شركة إنشاءات مما يجعله منهمكا في عمله ومشغولا عن إبنه وزوجته ولا مجال للعواطف عنده، ويضطر لهدم مقام أحد الأولياء في منطقة يحولها “يحيى” لكمباوند، لتبدأ سلسلة من المصائب، فتتعرض الشركة لاهتزازات مالية وخسائر كبيرة، ويلتهم حريق إحدى فيلاته، ثم تدخل زوجته في غيبوبة مفاجئة لا يعرف الأطباء سببا لها، ويعلقون الأمل في على رحمة الله، ويجد “يحيى” نفسه منغمسا في عالم روحاني جديد عليه، يفرضه عليه مرض زوجته الغريب والمستعصي على العقل والعلم.

الفيلم ينحاز منذ البداية لتغليب الجانب الروحاني والانسلاخ من الجانب المادي، تساعده في ذلك شخصية “روح” –التي تؤديها يسرا- وتجمع بين كونها شخصية خيالية روحانية، وكونها إنسانة من لحم ودم.. ويصل “يحيى” في رحلته الروحية الجديدة لمقام الإمام الشافعي، ويكتشف الصلة غير المفهومة بين المصريين والشافعي، حد بثهم شكاواهم ومعاناتهم إليه في رسائل يلقونها في مقامه، وكلهم أمل ويقين باستجابته ومد يد العون لهم.. فيأخذ “يحيى” مجموعة من الرسائل ويحاول تحقيق ما فيها من أمنيات، مقدماً نفسه لأصحاب الحالات بأنه من طرف الإمام الشافعي، مما يخلق حالات وجدانية روحانية في كل الحالات التي صادفها، ومنها سقوط سيدة (فريدة سيف النصر) ميتة عند لقائه بها وإخبارها أنه من طرف الإمام الشافعي.

ينحاز الفيلم للجانب الروحاني، ويخلو من حوار حقيقي بين الحالتين، لكنه يعكس المعتقد الشعبي لدي السواد الأعظم من المصريين على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية والتقافية، وقناعتهم بأهمية الروحانيات في الحياة، دون نفي الجانب الاخر من غير المقتنعين بذلك ونسبته إلى الوهم والدجل.

الشخصية المحورية في الفيلم هي “روح” التي تؤديها “يسرا” والتي تضع قدم “يحيى” على الطريق الصحيح ليخطو خطواته الأولى في استكشاف الجانب الروحاني الغائب عنه، ثم شخصية “محمود عبدالمغني” في دور المذنب الذي يخجل من تذييل خطابه للإمام الشافعي باسمه، ويوقعه باسم زوجته، ويقدم “مونولوجا” بديعا ينسكب سحراً على الشاشة لما احتواه من صدق موجهاً كلامه إلى الله والإمام الشافعي، مستعرضاً ذنوبه في سجلات الحياة، ثم دور القدير الراحل ابراهيم نصر.. والأدوار الثلاثة قصيرة جدا، ويقنع محمود عبد المغني وإبراهيم نصر بكونهما ضيفي شرف، ومع ذلك، فإن أثرهما يمتد ليشمل الفيلم كله، ويؤكد ما فيه من روحانية.

لكن، ورغم الدور القصير ليسرا، فإنها تركت بصمتها قوية لا تُمحى من الفيلم، وقد أدت دوراً من عالم سحري، كانت تشع فيه حباً وطمأنينة.

التمثيل امتاز بشكل عام بالسلاسة، أداء آسر ياسين في دور “يحيى”، أو أمينة خليل في دور”هالة” الزوجة المغيبة معظم الفيلم، لكنها تترك أثرها ممتدا طوال الأحداث، وأتوقف بشكل خاص عند الطفل “عمر حسن” في أداء بسيط معبر ينسجم مع الجو العام من سلاسة الأداء.

.ويبقى دور الموسيقى التصويرية للموسيقار خالد الكمار وتتميز بتسللها إلى وجدان المشاهد دون أن يشعر