“شي- راق” لسبايك لي: خليط من الجنس والنقد السياسي والاستعراض

أثار الفيلم الجديد للمخرج الأميركي الأسود سبايك لي (58 سنة) “شي- راق” Chi-Raq اهتماما كبيرا عند عرضه خارج مسابقة الدورة الـ 66 من مهرجان برلين السينمائي، بسبب موضوعه الجريء الذي يفتح ملف انتشارالعنف بين عصابات من الشباب الأميركيين السود في مدينة شيكاغو، بطريقة سينمائية مبتكرة.

يمكن اعتبار المخرج سبايك لي- “الناطق السينمائي باسم الأميركيين السود” أو (ذوي الأصول الافريقية) من منظور راديكالي، وهو يتناول قضايا الأميركيين السود ولكن في إطار نقد الوضع السياسي والاجتماعي والتركيبة الأميركية بوجه عام، وعادة ما تثير أفلامه الجدل، ومن أشهر هذه الأفلام “إفعل الشيء الصواب” و”حمى الغابة” و”مالكولم إكس” و”رجل الداخل” وغيرها، وقد أخرج لي حتى الآن 23 فيلما روائيا طويلا، وعددا كبيرا من الأفلام الوثائقية وأفلام الفيديو القصيرة والحلقات التليفزيونية. 

الفيلم الجديد يحمل عنوان “شي- راق”، وينطقه الممثلون السود في الفيلم “شايراك” وهو تعبير عامي يشير إلى مدينة شيكاغو التي أصبحت كما يقول لنا المخرج من خلال الكلمات التي تظهر على الشاشة في بداية الفيلم، أقرب إلى العراق من حيث ما يدور هناك من أعمال عنف وقتل وصراعات مسلحة بين العصابات. ويمزج العنوان بين الحروف الأولى من كلمتي شيكاغو وعراق. وتقول الكلمات التي تظهر على الشاشة في بداية الفيلم إن عدد الذين قتلوا جراء أعمال العنف في شيكاغو خلال السنوات العشر الأخيرة، يبلغ ثلاثة أضعاف عدد الأميركيين الذي قتلوا في العراق.

تعليق ساخر

فيلم “شي- راق” تعليق ساخر يتضمن الكثير من المبالغات لإضفاء الكوميديا على موضوع شديد الجدية في جوهره، مع تصميم كثير من مشاهده بطريقة المسرح، وجعل الممثلين يتحدثون أحيانا للجمهور مباشرة بغرض كسر الايهام بالواقع، حسب تقاليد مسرح بريخت، لكن الفيلم يتجه في النصف الثاني منه ليصبح أقرب إلى الفيلم الاستعراضي الغنائي، خاصة وأن الحوار مكتوب بلغة- يطغى عليها السجع، وتتضمن كلمات شديدة العامية وتمتليء بالألفاظ والإشارات الجنسية المباشرة الفجة والتعبيرات الشعبية. ويقضم الممثلون الكلمات مما قد يجعل الجمهور غير الأميركي يعجز عن المتابعة وسيصبح أيضا من الصعب ترجمة معظم كلمات الحوار إلى لغة أخرى دون أن تفقد جوهرها وايقاعها الخاص، لكن ذلك ان يحول دون فهم الفحوى العام للفيلم خاصة مع تكرار المقصود مرات ومرات.

يقتبس سبايك لي الهيكل الدرامي لمسرحية “ليسستراتا” للكاتب الإغريقي أرسطوفانيس (كتبها 411 قبل الميلاد) التي تدور في أجواء الحرب بين أثينا واسبرطة، وفيها تنجح الشخصية الرئيسية “ليسستراتا” في إقناع النساء من الجانبين على الامتناع عن معاشرة أزواجهن، إلى أن يقبل الرجال وقف النزاع المسلح فيما بينهم وانهاء الحرب.

وليست هذه المرة الأولى التي تقتبس مسرحية “ليسستراتا” في السينما، ولعل أقرب الأفلام التي اقتبست المسرحية إلى الذاكرة، الفيلم الفرنسي “عين النسا” للمخرج رادو ميهائيلو، الذي صور في المغرب.

إضراب النساء

في “تشي- راق” تتصارع عصابتان من الأشقياء السود للسيطرة على تجارة المخدرات في شيكاغو، ويدور بينهما كثير من العنف والقتل وسفك الدماء يصل الى اطلاق النار في الشوارع عشوائيا مما يتسبب في وقوع الكثير من الضحايا. ويقوم “سايكلوبس” زعيم عصابة الطرواديين بحرق شقة غريمه “ديمتريوس” زعيم عصابة الاسبرطيين (وهو أيضا مغني راب شهير) يطلقون عليه اسم “شي- راق”. وديمتريوس هو صديق ليسستراتا التي تقيم معه. وهي تضطر للانتقال للعيش في مسكن الآنسة “هيلين” المثقفة المولعة بقراءة الكتب. وعندما تُقتل طفلة في السابع من عمرها ذات يوم، تغضب “ليسستراتا” وتبادر الى الدعوة لاجتماع يضم النساء من الطرفين، وتقنعهن بالاضراب عن ممارسة الجنس مع أزواجهن أو أصدقائهن الى أن يقبلوا جميعا وقف العنف والقاء السلاح.

وسرعان ما تنجح الفكرة في إذلال الرجال ولكنهم يقاومون الرضوخ لما هو مطلوب منهم، وتنتقل الفكرة إلى بلدان كثيرة في العالم، ونرى مشاهد لمظاهرات النساء في الدنمارك واستراليا والبرازيل والهند وإيران وباكستان وغيرها، فسبايك لي يرى أن المرأة هي الأكثر قدرة على إحداث التغيير، وأن التغيير يجب أن يكون على مستوى العالم.

غير أن هذه الفكرة الجدية تُختزل فيما بعد في مجموعة من المبالغات الهزلية عندما يجعل سبايك لي ليسستراتا تقوم بإغواء قائد المنشأة العسكرية في المدينة الذي يطلقون عليه “الجنرال كنغ كونغ”، وتجعله يتجرد من ثيابه ويركب فوق مدفع تذكاري قديم من أيام الحرب الأهلية يتخذونه رمزا لانتصار الشمال على الجنوب (العنصري)، ويتخذ هنا رمزا للانتصاب الجنسي، ثم تقوم يتوثيق يديه وتغطية عينيه بالعلم الأميركي (الاتحادي)، ثم تستدعي باقي النساء لمشاهدة هذا المنظر الفاضح. وتنجح النساء بالتالي في الاستيلاء على القاعدة العسكرية (في مسرحية أرسطوفانيس تحتل النساء قلعة المدينة في الأكروبوليس). وسرعان ما يلفت الأمر أنظار السلطات السياسية فيستنجد عمدة المدينة برئيس الشرطة، ويشكو له في مشهد هزلي كيف اتصل به الرئيس الأميركي ووبخه (باستخدام ألفاظ قذرة). لكن الشرطة تعجز وكذلك الجيش، عن اقناع النساء بمغادرة المكان، وتهرع قنوات التليفزيون لتغطية الحدث المثير، ثم يقع كثير من الكر والفر، مع كثير من المشاهد الغنائية الراقصة التي يشارك فيها عدد كبير من الراقصين والراقصات، مع مزيج من أغاني الراب. وبين حين وآخر، يظهر الرواية – المعلق (بديل الكورس اليوناني الشهير) الذي يؤدي دوره الممثل الأسود صامويل جاكسون، يخاطبنا بعباراته المسجوعة معلقا على الأحداث بأسلوبه الفكاهي الساخر، كما يمهد لما سيأتي لاحقا.

الجانب الوعظي

وإذا كان كل الجنرال وعمدة المدينة من البيض الأشرار، ينالان الكثير من السخرية في الفيلم، فالشخصية الإيجابية الوحيدة لرجل أبيض هي شخصية القس “مايكل” راعي  كنيسة الحي الذي يقطنه السود. وهي كنيسة مزينة بأيقونة لمسيح أسود. ويمثل الأب مايكل (الذي يقوم بدوره ببراعة جون كوزاك) الجانب الروحاني، وهو يتضامن مع النساء ولكن من منظور أخلاقي، فعلى حين يستخدم النساء سلاح الجنس، يستخدم هو سلاح الدين، ويدعو إلى ضرورة ترجيح الخير على الشر، واستدعاء النوازع الطيبة في الإنسان، وتحفيز الناس على الفعل الايجابي ووقف تيار العنف والقتل المتبادل. ويلقي القس خطبة وعظية طويلة في حشد من المصلين السود، تصبح هي النقطة الفاصلة في الفيلم. ولكن سبايك لي لا يكتفي بذلك، بل يواصل تكرار الفكرة بل وتكرار الكلمات والأفكار نفسها مرارا وتكرارا، ثم يضع على الشاشة كل ما يمكن أن يكون مثيرا للمشاهدين: الراقصات المثيرات، أغاني “الراب” التي تعلق على الوضع الاجتماعي بشكل انتقادي لاذع ومباشر، إقحام مشاهد الجنس في فيلم محوره الرئيسي اضراب النساء عن ممارسة الجنس.

وفي مشهد طويل زائد عن حاجة الفيلم، يقص ديمتريوس- من خلال مشاهد استرجاعية- فلاش باك،على صديقته “ليسستراتا” (بعد أن يمارس معها الجنس فتمتدح قدراته!)، قصة طفولته البائسة وكيف كانت أمه تعاشر الرجال أمام عينيه، وكيف أن عشيق أمه هو الذي قام بتعليمه الجنس.. وهو مشهد يهبط كثيرا بإيقاع الفيلم.

ويواصل لي ابتكاراته في المشهد الذي نرى فيه عمدة المدينة وغيره من المسؤولين ينظمون منافسة بين الرجال والنساء في القاعة الرئيسية للمنشأة العسكرية: فيصبح مطلوبا أن تتقدم امرأة لتضاجع رفيقها (بعد طول حرمان) ومن يصل منهما الى ذروة اللذة أي “الأورغازم” أولا يخسر قضيته. تتطوع ليسستراتا بممارسة الجنس مع ديمتريوس أمام الجميع، في فراش أحضر خصيصا للمناسبة. لكن المسألة تنتهي بـ “التعادل”، ثم تلقي “هيلين” درسا أخلاقيا مباشرا على ديمتريوس وكيف أنه “يجب أن يكون رجلا” وأن “يفعل الشيء الصواب”، لنصل كما يتوقع المشاهد منذ بدء “الإضراب” الى ذروة الميلودراما عندما ينهار ديمتريوس ويبكي ويطلب المغفرة من والدة الطفلة التي يعترف بأنه قتلها.

صحيح أن سبايك لي يكشف الكثير من العنف بين السود، وصحيح أنه يوجه إدانة مباشرة الى الحكومة الأميركية التي أهلمت كثيرا أحياء السود، ويعزو انتشار الجريمة الى ارتفاع نسبة الفقر والبطالة بين السود، لكنه يسوق هذه الأفكار كلها بشكل يصل الى المباشرة الفجة، ومن خلال دروس مباشرة وخطب وتعليقات وتعلاب بالألفاظ يفتقر للقدرة على الاضحاك، كما يوحي في نهاية الفيلم بأن الحل قد تحقق بعد أن يظهر عمدة المدينة يستعرض أمام الجميع، خطط إنشاء مستشفى ومساكن جديدة في المنطقة، ويعد بخلق فرص عمل أمام السود. وهكذا يتحقق الحل السعيد أخير.. ولكن على الشاشة بالطبع!

Visited 87 times, 1 visit(s) today