“شيخ جاكسون” .. صراع الهوية بين الكبت والخلاص

في أحد مشاهد رواية “ليلة القدر” للروائي المغربي “الطاهر بن جلون”، نرى بطلة الرواية تنزع عنها الرداء الرجالي الذي رافقها لسنوات طويلة، مُعلنة عن هويتها كأنثى لتمتلك حريتها، بعد سنوات عانت فيها من القهر والحرمان من إعلان جنسها الحقيقي.

وفي مشهد النهاية في فيلم “شيخ جاكسون” نرى مشهداً مماثلاً، “خالد” (أحمد الفيشاوي) وهو يرتدي الجلباب ويرقص للمطرب “مايكل جاكسون”، ولا يشعر سوى بجسده وهو يتحرر وينزع عنه قهر وكبت وحرمان رافقوه لسنوات طويلة، وبذلك يتعرف مُجدداً على نفسه التي أصابها التيه.

“شيخ جاكسون ” الفيلم الخامس للمخرج “عمرو سلامة” سيناريو من كتابته وبمشاركة “عمر خالد” يُعبر عن أفكار عديدة تحوي من الجدل والحساسية قدراً ليس هيناً، لعل أهمهما هي فكرة البحث عن الذات والهوية، وكيف لا يكون الإنسان شيئاً أخر سوى ذاته التي يألف إليها، بعيداً عن أي محاولات للقولبة أو السيطرة من قِبل المجتمع، أو الأطر الدينية المزعومة التي تقوض في مكنونها فطرة وحرية الإنسان.

تدور الأحداث حول الشيخ “خالد” الذي يُفاجأ بوفاة “مايكل جاكسون” الذي كان مُلهمه في طفولته، قبل أن تهب رياح التشدد والتطرف عليه، لتتبدل حياته بعدها، ويبدأ رحلة ذاتية باحثاً عن نفسه بين الماضي المسلوب لا إرادياً منه والحاضر الملوث بعوادم الكبت والحصار النفسي.

ومن هنا يكمن مدلول أسم الفيلم وتحديداً “جاكسون”، اشارة لأسطورة البوب “مايكل جاكسون”، فالاختيار ليس عشوائياً، “جاكسون” المضطرب الهوية ليست الجنسية فقط، بل والطبيعية أيضاً، تحوله من لونه الأسمر إلى اللون الأبيض، يحوي في أعماقه تذبذباً واضحاً، وعدم استقرار، مثل “خالد” بطل الفيلم وخروجه من الحياة الطبيعية وولوجه أسر التشدد الديني، ثم بحثه عن ذاته مرة آخرى، كل هذه المحطات الحياتية في مسار الشخصية تكشف عن اضطراب وصخبً واضحا، ملائم تماماً لشخصية جاكسون لتبدو الشخصيتان وهما تحويان من التطابق والتوافق ما يبرره درامياً.

كما أن اسم الشخصية لا نُدركه سوى قُرب نهاية الأحداث، في البداية يظهر لنا اسم التدليل “دودة، ثم نُباغت بالاسم الحقيقي “خالد” مع وصول الأحداث للنهاية، ليبدو الفيلم مهموماً ليس بالشخصية فقط، لكنها تظل اسقاطاً على فئة فاقدة لهويتها منسحقة داخل أطر خانقة، تُعاني من الانسحاق والكبت.

الماضي والحاضر

بالنظر إلى شخصية “خالد”، التي قدمها السيناريو بشكل متماسك، كاشفا لإبعادها النفسية، سنرى أن حياته السابقة تختلف كلياً عن الوضع الحالي. وقد لجأ السيناريو إلى أكثر من مستوى سردي، للتعبير عن حياة الشخصية.

يُمكننا تقسيم هذه المستويات إلى مستويين: المستوى الأول: الزمن والسرد الحاضر وهو الحكاية الرئيسية، وتحوي طبقة أخرى وهي اللاوعي الذي يُمثل رافداً من روافد الشخصية ومُعبر عن جانب كبير من مكنونها.

المستوى الثاني: هو الماضي بتدرجاته المختلفة، فترة الطفولة، وفترة المراهقة. كل من تلك المستويات يتكامل مع الأخر مُعبراً وبانياً للأحداث وراسماً للشخصية.

وبتأملنا للمستوى الأول الحاضر: سنجد أنه امتداد للماضي، لم ينفصل عنه، “خالد” الذي تبدو حياته مستقرة وهادئة على السطح، شيخ متشدد دينياً، وقد تم رسم الشخصية وبناء عالمها بشكل جيد، على الرغم من بعض المبالغة في التفاصيل، التي قد لا تبدو مقنعة. لعل أبرزها ترديده الدعاء في كل فعل من أفعاله، بشكل مُتكرر آدى إلى الإحساس بالاصطناع.

تخفي الشخصية بداخلها ناراً مستعرة، تحوي سؤالاً جوهرياً.. من أنا؟ ينشأ ذلك السؤال بعد وفاة “مايكل جاكسون”،عندما يصطدم بالسيارة عند سماعه خبر الوفاه، ليبدو المشهد وكأنه حدثاً محفزاً يدفع الأحداث للأمام وكاشفاً عن المزيد من جوانب الشخصية دلالة على أن حياته لن تعود كما كانت، فالحادثة التي أصابت السيارة أصابتها لدرجة أنها لن تعود إلى طبيعتها. لنكتشف أن الشيخ كان أحد مُريدي ملك البوب، ولكنه تم طمس معالم حياته السابقة بفعل شعارات الحلال والحرام.

يبحث الشيخ عن نفسه، يتأمل حياته، مدفوعاً بقوة الا وعي المتمثلة في الأحلام والرؤى التي تطارده، وكلها مُحملة بملامح من الماضي وكانها قوة جاذبة لأعماق سحيقة من النفس، تدفعه لنفض ذلك الرداء المتشدد الذي لا يناسبه إطلاقاً.

ولعل من أبرز مشاهد اللاوعي التي توضح مدى الكبت الذي تعانيه الشخصية هو مشهد البداية، نرى فيه “خالد” وهو يحلم  بمراسم دفنه، قبر تبدو فوهته مُنتظرة الزائر الجديد بنهم وتوق، ينُتظر أن يُلقى إليه بجسد المتوفي، حتى لايبقى سوى ثقب صغير يسمح بمرور إضاءة خافتة، لكنها هي الأخرى، تُباغت بكتلة من التراب تنهال عليها، ليستيقظ “خالد” مفزوعاً، لنكتشف أنه ينام أسفل السرير، في اشارة ضمنية أن حياته تحوي من الكبت ما يجعله يراها كقبر، حتى البصيص الوحيد الذي يجعله يرى الضوء أو يطل منه على الحياة، يختفي هو الأخر.

أما المستوى الثاني الماضي : فينقسم بدوره إلى جزئين أو فترتين، الجزء الاول الطفولة : التي يبدأ سردها مع سؤال الطبيبة النفسية الدكتورة نور “بسمة” عن أول مرة بكى فيها، لنرجع للوراء عند وفاة الأم “درة” وإلقاء نظرة على علاقته بأمه التي شكلت جانب كبير من ملامح الشخصية برهافتها وتكوينها النفسي.

أما الجانب الزمني الأخر وهو فترة المراهقة : أفضل الفترات التي مر بها “خالد” وهي أيضاً الاجمل من الناحية السردية، تلك الفترة التي يتعرف فيها “خالد” على نفسه، لكنه يواجه بقوة عاتية تتمثل في الأب “ماجد الكدواني” القاسي الشهواني الذي لا يهتم بشيء ألا إشباع نهمه. كل ما يهمه يخص الجسد سواء بناؤه الرياضي، أو متعته، ليبدو كنموذج للسيطرة الأبوية التي تسعى لكبت من هم في نطاق مسئوليته، مُغلقاً أي نافذة جاذبة للهواء والحرية لتنشأ نقطة صراع بين الأبن والأب، كل منهما يحمل رؤية مغايرة للحياة، فتتعارض رغابتهما، ليختار “خالد” بعدها حياة جديدة بعيدة عن الأب، حياة رغم أنها أيضاً لا تناسبه ولا تتواءم مع خلفيته المحبة للحياة. وهنا نلمح نقطة غير منطقية في التحول الدرامي للشخصية، فالتحول من شخص عادي إلى شخص متشدد، فقط هروباً من جحيم الأب، لم يكن مقنعاً، لأنه في ظل هذه السياج القاسي المفروض عليه من قبل الأب، كان يستطيع ان ينال قسطاً من الحرية بعيداً عن عينه، لذا فما الداعي فجأة إلى ذلك التبدل، وخصوصاً أن السيناريو لم يوضح أن له أي ميول دينية، بل بدا منطلقاً وشغوفاً بالحياة والموسيقى.

 لمسات إخراجية

مثلما انقسم السرد إلى جزئين الحاضر والماضي، فالصورة أيضاً مُطعمة بالإختلاف، منذ بداية الفيلم والصورة ودرجة الألوان القاتمة هي المُعبرة عن حياة “خالد” مع اختيار ألوان الديكورات المائلة للأسود والخلفيات أيضاً، اللون الأسود القاتم هو المسيطر على الجزء الخاص بالحاضر، لتبدو أغلب الإضاءة تحوي شحوباً مقصوداً وبالغ الدلالة عن الحياة التي تحياها الشخصية، ومع بدء بحثه عن نفسه وسعيه للوصول إليها، تتفتح الإضاءة تدريجياً ويتم اختيار أماكن مُغايرة عن البيت أو الأستوديو، مثل المشهد الذي يجمع بين “خالد” و”شيرين” بعد غياب، لتبدو الديكورات بألوانها الفاتحة نوعاً ما وكأنها شبيهة بألوان الماضي، الفترة الأفضل لدى “خالد”.  

أما الماضي، فتدرجاته اللونية تحوي طبقتين، الطبقة الأولى مرحلة الطفولة، واللون المسيطر هو اللون البني الشاحب المُعبر عن الماضي والحزن أيضاً، ففي تلك المرحلة تتوفى الأم، وبذلك ينتهي ذلك الزمن ليبدأ أخر. ونتنتقل إلى مرحلة المراهقة، وهي الفترة الأجمل وبالتالي جاء اللون الأصفر هو البطل، والمعروف أن اللون الأصفر يُشير إلى السعادة والتوهج، وبالتالي هي الفترة الأفضل والأسعد في حياة “خالد”، وهكذا تكاملت الصورة والسيناريو في التعبير عن الحالة العامة للشخصية.

تبدو الشقة الجديدة التي يقطنها “خالد” تحتاج للترتيب، لذا نجد “عائشة” ( أمينة خليل ) تطلب دوماً منه أن يُرتب الشقة التي سكناها مؤخراً، الصناديق تحيط بهم من كل جانب، لكنه يتهرب من المسئولية، لكنه بعد تيقنه من الوصول إلى حقيقة نفسه ورجوعه إلى ذاته، يُرتب الشقة، لتفاجئ “عائشة” من ذلك النظام المفاجئ، وهنا نلمح اشارة ثرية عن حياة “خالد” المضطربة المشار إليها ضمناً بالشقة الفوضوية، لكنه في النهاية يكتشف نفسه مجدداً فتعود الحياة إلى طبيعتها مرة أخرى.

ارتباك وشحوب

اعتمد السيناريو على حيلة اللعب بالزمن ليبني شخصيته ويعرض تفاصيلها وحياتها السابقة والحالية، ألا أنه رغم جدية فكرة وتقنية الأنتقال من زمن لأخر لمتابعة الأحداث والتطورات التي طرأت على الشخصية، ألا أن التنفيذ لم يكن على نفس المستوى، شذرة من الماضي ومثلها من الحاضر، أدى إلى الاحساس بالارتباك في بعض المشاهد، مما ساهم في الأحساس بأن ثمة خللا ما أصاب الايقاع العام للفيلم.

وقد أدى هذا الى جعل الاهتمام بالكامل منصبا على شخصية “خالد” التي تم رسمها بشكل دقيق وكامل مُبيناً حياتها وخلفياتها السابقة، فبدت متوهجة وحية، على عكس بعض الشخصيات الأخرى رغم أنها محورية في دفع الأحداث للأمام، ألا أنها بدت باهتة، ولم يتم رسمها وتقديمها درامياً بشكل كافي، مثل شخصية الخال (محمود البزاوي)، علاقتة بخالد مؤثرة ودافعة للأحداث، إلا أن السرد لم يوضح لنا علاقتهما وتطورها، ما نراه هو بعد التبدل والتغير الذي أصاب “خالد”، لكن بدايات هذا التغير وعلاقتهما لا تظهر لنا، مما جعل شخصية الخال غير مكتملة البناء وينقصها شيء ما لتنمو وتصبح شخصية حقيقية.

الخلاصة

آداء “أحمد الفيشاوي” و”أحمد مالك” لشخصية “خالد” جيد للغاية وقد عبرا عن مكنون الشخصية وما يعتمل في داخلها بدون مبالغة، تحديداً تعبيرات وجه “أحمد مالك” التي رسمت عذابات الشخصية بوضوح وتمكن جديران بالإشادة، كما أن آداء “ماجد الكدواني” يحوي من الصدق والتأثير ما يجعلنا نشعر بأن هذه شخصيته الحقيقية، وبذلك يتماهي الفارق بين الواقعي والمتخيل.

“شيخ جاكسون”.. فيلم يحوي من الصدق الفني وطزاجة التجربة ما يغفر له بعض الشوائب التي تجعله في النهاية يظل فيلما ممتعا وثريا بطرحه الجرئ المعُبر عن حال وواقع نكاد نلمسه ونُدركه جيداً.

Visited 79 times, 1 visit(s) today