شغف الطيران: قراءة في كتاب “نبيل المالح.. العين الثالثة”

في لغة القراءات الجمالية، تنفرد بعض المحاولات، في الكتابة، عما هو أكثر إنصافا، لتجارب سجلها صناعها، بقدر عال من النضج والارتقاء. اذ يعد هذا الكتاب المعنون،” نبيل المالح.. العين الثالثة.. شغف الإبداع السينمائي” ٢٠٢١، ذي الأربعة فصول وملحق، والذي أعده وحرره المخرج والباحث قيس الزبيدي، من المنشورات التي اتخذت من تجربة المثقف العربي، المخرج السوري نبيل المالح مادة خصبة في التحليل لأعماله الابداعية المتعددة، وباقلام نخبة من أغلب النقاد العرب المهمين.

يدعو الناقد بشار إبراهيم في مقدمة الكتاب، لتوصيف يليق بنبيل المالح، ويعدّه ” واحدا من رواد الثقافة السورية الحديثة”، وعدم الاكتفاء بوصفه مخرجا سينمائيا” فالمالح ذهب إلى تنوع وتعدد تجربته الغنية في الكتابة والشعر والرسم والكاريكاتير والفنون التشكيلية والتصميم وكتابة السيناريو وصناعة الافلام، فضلا عن اقامة الورش التدريبية في علوم وحرفيات السينما. وقد أثار اهتمام العديد من النقاد، ليس لأنه المخرج الوحيد، وإنما لتفرده وجرأته في طرح الرؤية الفكرية ومعالجتها جماليا.

في الفصل الأول، كتب الناقد محمد رضا وهو يتحدث عن تجاربه الفيلمية،  وبوصفه لعنوان مقاله “بين آماله وآلامه، أحلامه وواقعه، فيلمان مبهران باسلوبين مختلفين” وهذه مهارة متفردة، لدى المخرج عند اشتغاله لأكثر من أسلوب، خاصة في الفيلمين ” بقايا صور” و”كومبارس”، تناول فيهما الإنسان وهو قلقا ومعذبا ومحروما ويعيش حالة الانتهاك في نواح عدة، وهذا التناول هو جزء من الموقف الذي اتخذه المخرج المالح، الذي عارض الكثير من الكيانات المختلفة التي اسهمت في ازدراء الذات الإنسانية، وانتهاك حقوقها. اما قراءته للبطل، فهو لم يجد الخلاص عند تحوله وتغييره لمكانه، لأن السيطرة قائمة أينما يحل، وبأجواء بعيدة جدا عن المناظر والطقوس والفصول  المتعددة التي نلقاها بالرحلات والحكايات العربية، وقد أشاد الناقد رضا بالرصد العميق لاحترافية صنع اللقطات، والوعي الراسخ باختيار الأماكن التي تضيف للدراما معنى فاعلا، نتيجة القدرة التشكيلية والسردية للمخرج، وهذا ما كان واضحا في أغلب أفلامه التي تتميّز باجادة الصنعة، وإتقان عناصر اللغة الفيلمية والاختيارات الدقيقة لها..

يكتب الناقد امير العمري عن فيلم الكومبارس، ما يراه معالجة لموضوع القهر السياسي والاجتماعي، من خلال العلاقة العاطفية بين رجل وأمرأة، وهما يلتقيان في شقة صديق، بعد حرمان نفسي وروحي، وباحساس متدفق، حيث يبدأ الخوف ينتاب البطل، الذي تولد من فعل المداهمة التي أجرتها سلطة الأمن، ومطاردة شخص ما، الأمر الذي أحبط هذا التدفق، والعجز عن تحقيق ما يبغيانه الأثنان من خلوة وتبادل العواطف، وقطع سبل ألارتواء، وهذا ما يشكل بعدا رمزيا للوضع العربي، وعجز السياسات عن تحقيق ما هو اكثر اهمية، من امان واستقرار وحرية وشعور عال بالانسانية.

ويكشف العمري في تحليله الجمالي للفيلم، بأن ما يدور من حوارات بين الرجل والمرأة في الغرفة ملغما بالرموز والدلالات والشفرات، وما يمكن أن يرد بين مساحة الحلم واليقظة، وما بين الخيال والواقع، وبين الحقيقة والفانتازيا، وبانتقالات محسوبة بانتظام، وبنسيج من المتغيرات التي حافظت على شكل الايقاع وابعدته عن الترهل والملل طوال ال١٢٠ دقيقة.

وفي قراءة اخرى لفيلم “الكومبارس” لرنده الرهونجي، الذي عدته أرضية مثالية لتلمس ثراء التوظيف للمفردات البصرية، مع توصيف سينما نبيل المالح، بانحيازها للتكثيف، واللعب في العلامات السيميائية ضمن النسيج الحكائي. وقد عد الفيلم من الأعمال الفارقة، بتفرده بعرض شخصياته بحضور شاخص عبر المزج البليغ بين الصورة الفوتوغرافية والمشاهد الحية، في سرد سينمائي اتسم بالحركية النابضة. وقد طرح البطلين كشخصيات مسحوقة مهمشة تعيش حالة القسر اليومي.

قيس الزبيدي

وتتوقف الرهونجي عند بعض المشاهد التي ترى فيها توثيقا بصريا ثابتا ضمن البناء السردي، اختزالا للزمن الضائع من حياة بطلي الفيلم، وهما يسيران في شوارع المدينة، وداخل الازقة الضيقة والمقاهي والحدائق، بلقاءات عاطفية بمشاعر خارج إطار الزمن، تطهرا من الواقع اليومي الذي يعيشانه. وكشفت الرهونجي عن اسلوب دمج الصورة الفوتوغرافية داخل التقطيع الصوتي والبصري للمشاهد، مع التضمين الوثائقي لها، بما يغني البنية الأساسية للفيلم. وترى الناقدة الرهونجي ان خلوة البطلين لم تكن فقط غرامية، بقدر ما هي نشوة انعتاق في داخل ألبوم صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود بالامكان جعلها لقطات حية ملونة. فهناك رعب داخلي، وانهزام وصفعة رجل أمن للبطل، استهدفت حريته، وصنعت منه  بطلا. وفي تحليل لها في مشهد تقف فيه الكاميرا في لقطة عامة أمام المبنى، وهي ترصد خروج البطلين، ليذهب كل واحد باتجاه معاكس للآخر، مع حركة الكاميرا للأعلى كاشفة عددا أكبر من الشقق، في إشارة وايحاء إلى الصفعة التي تطال كل الشقق محملة بدلالات ومعان عدة.

ان سمة الكومبارس في الفيلم هي البطولة التي تنتصر لطبقتها المعدمة المهمشة، كما أن قدرة المخرج المالح كانت فائقة في خلق وحدة زمان ومكان وحدث في هيئة متماسكة، أراد بها ان تتنفس وتبث الروح الدرامية في حدود ضيقة كمكان الشقة وبزمن ساعتين، فقد استطاع خلق الحركة والتكوينات المتعددة لادامة تدفق المشاهد مع انتقالاتها المتغيرة بين الواقع والمتخيل لبطلين عاشقين يحملان سخونة عاطفية محاصرة في ظل الخوف والاختفاء من خطر الملاحقة الخارجية المتوقعة.

الناقد عدنان مدانات هو الآخر يكتب قراءاته الجمالية لبعض أعمال المخرج نبيل المالح، فيقول عن “كومبارس “لا تكمن براعة السيناريو في البناء المحكم للأحداث، وفي التنويع فيها، وفي تضمينها العديد من الأفكار التي تعالج قضايا عاطفية وسياسية واجتماعية واقتصادية باختزال معبر وحسب، بل في القدرة على ابتكار تفاصيل صغيرة أيضا، لكنها تغني السرد والدراما، وتؤدي إلى تقلبات في الحبكة.الحدث، وتكمن براعة الاخراج في القدرة على إدارة حركة الممثلين داخل الشقة، بطريقة، تجعل من هذا الحيز المكاني الضيق عالما واسعا مفتوحا. فيما أشار إلى أن فيلم “الفهد” يشكل إحدى العلامات البارزة في تأريخ السينما السورية، مذكرا ان مشهد إعدام البطل في الفيلم من أنضج مشاهده لما له من تأثير عاطفي وبعد رمزي.

ويشير الكاتب ناجح حسن إلى فيلم “السيد التقدمي” الذي كتب له السيناريو المخرج نبيل المالح والمخرج قيس الزبيدي، بوصفه من افلام تيار السينما السياسية، وهذه موجه، ظهرت منها افلام” زد” للمخرج كوستا غافراس، وفيلم “قضية ماتي” للمخرج فرانشيسكو روزي وفيلم “اعترافات مفتش بوليس أمام المدعي العام”. وتأتي قيمة هذا الفيلم من قدرته على بناء الحبكة بناءا دراميا، يحيل على الواقع المعاش، ومن تميزه الفني، وقدرته على التعبير البصري عبر انتقاء لقطات دالة ومميزة، وهذا ما أثبته المخرج نبيل المالح، كموهبة سينمائية طليعية، وحمله رسالة فنية وفكرية، مع موقعه المميز بين السينمائيين العرب.

وترى الكاتبة اسراء الردايدة قصة فيلم الكومبارس من خلال التركيز على الحوار العميق بين الشخصيتين، مع تجسيد بقوة الاداء وتأثير التعبير، وكذلك تحريك الخيالات الصورية وكأنها استرجاعا لمشاهد حميمية، لا تخلو من الإغراء والمتعة، البعيدة المنال، بسبب الحياء وخطورة الاجواء.

وفي كتابات مختارة ضمن الفصل الثاني، صحح الناقد سمير فريد بعض المعلومات وحاول أن يبدو، كعهده دائماً، دقيقا جدا بتدوين سجل الوقائع الفنية التي اقترنت بأسم الراحل المالح، انصافا لتجربته الفنية المهمة، وفيها أشار إلى أول فيلم نفذه للتخرج هو فيلم ” مشكلة عائلية” ١٩٦٢، وللتلفزيون السوري اخرج اول أفلامه القصيرة “انتبهوا.. الاطفال”، واول أفلامه الطويلة “مفاجأة”١٩٦٤، وفي احصائيته، يكون المالح قد اخرج ١٢فيلما روائيا طويلا، وعشرات الافلام والحلقات التلفزيونية القصيرة الروائية والتسجيلية، ويختتم بقوله ان حياة واعمال المخرج المالح بحاجة إلى دراسة شامله، تعتمد التوثيق والتحليل.

ونعتقد ان ما قام به الكاتب والمخرج قيس الزبيدي بهذا الكتاب الذي نحن بصدد عرضه، ما هو إلا إجابة صريحة لدعوة الاستاذ سمير التي جاءت بمقاله، فقد جمع الزبيدي هذه الأقلام الرفيعة من الأساتذة الكتاب والنقاد، وهي تدون ما تراه استحقاقا لتجربة المخرج الراحل المالح وفاءا واحتراما لها.

ويبدأ الناقد كمال رمزي توصيفاته المشعة بلغة التحليل لتجربة الراحل المالح، بتعبيرات، “متسارع الخطى”، و”يتمتع بقدر كبير من الحيوية والحماس” ، و”قلب كبير يتسع لمحبة الأوطان العربية” ،” وهوالذي اصطدم مع السلطة” ، و”تعرض للمخاطر”، “وأصبح اسما مرموقا في خارطة السينما العربية” ، وقد وصف فيلم “الكومبارس” انه من النماذج الرفيعة في السينما العربية، فقد اعتنى كثيرا برسم نماذج لشخصيات، واماكنه، ولقطاته، وحركاته، وبإجادة تامة لصناعة مشاهد مترابطة، تنتمي إلى حدث رئيسي.

ويكتب الناقد هوفيك حبشيان، ان المالح يعيش حالة الاشكالية مع السلطة منذ وقت مبكر، ويبدو ان هذه الاشكالية التي اشار لها حبشيان، تمثلت في ثقافة المالح وتطلعاته ومواقفه، التي حددت بـ: اما “نعم” وأما “لا” ولكن بطرق وأساليب مختلفة، الامر الذي يجعلنا نرى في تطلعنا ومشاهدتنا لأغلب أفلامه انها تحمل ال “لا” للخصوم الممثلة بالسلطة، كفيلم الفهد ورجال تحت الشمس والسيد التقدمي وبقايا صور وكومبارس وغيرها.

ويخاطب المخرج محمد ملص الراحل المالح بقوله: “… وها نحن اليوم نكتشف نظرتك الثاقبة إلى ما نحياه اليوم من ضيق في الامكنة والارواح، ونعجز عن صوغ افلامنا خارج الامكنة الضيقة، بشروط صعبة وقاسية ومحدودة، بعدما حرمت علينا حركة الشارع، وحرمناها على أنفسنا بوجود حملة السيوف، كنت حرا، وهذا ما نفتقده نحن اليوم”.

تضمن الفصل الثالث عددا من المقابلات المختارة، التي أجراها ابراهيم الجبين وأغيد شيخو وحنان فهد وسامر محمد اسماعيل وراشد عيسى وسعيد البرغوثي

وهناك الفصل الرابع الذي حمل عنوان” نبيل المالح.. نظرة إلى الحياة والسينما”، ننتقي منه بعض المقولات للمالح، منها: “أن الفن في ديناميته واكتشافه وثورته على السائد والمألوف سيكون دائما على نقيض مع الفن الرسمي ومع قيم ومفاهيم وجماليات السلطة ايا كانت”.

و”ان سوريا هي ستوديو طبيعي عملاق، ولكن لا أحد يأتي لتصوير افلام فيها “. ويقول أيضا “في الفن لا أحد يملك في الكون كله قرار كيف يجب أن يكون الفن”. وفي طقوس سينمائية يقول:” أن صورة السينما بسبب حجم الشاشة والتركيز من قبل المشاهد، تحتمل عددا لا نهائيا من الرسائل الموجودة مع بعضها، في آن واحد، فهي تشكيلية، جمالية، درامية، تعبيرية، واسلوبية، في مفرداتها جميعها بدءا من التشكيل الأولي للسرد وبنيته، الى الصوت بمؤثراته المختلفة، والتي يكتب لكل فيلم منها سيناريو خاص بها، وبذا نصنع البعد الرابع للفيلم “.

أن اصدار الكاتب والمخرج قيس الزبيدي لهذا الكتاب يشكل دعما حقيقيا للثقافة والسينما ورجال الصنعة الابداعية، وهو توثيق للسيرة الابداعية للمخرج نبيل المالح الذي يعد رمزاً بارزاً في   السينما في سوريا والبلاد العربية، وهي تسمية فصيحة للقراءات الجمالية التي دونها أغلب كبار الكتاب والنقاد العرب لتجربة مخرج عربي، لتضعه في الواجهة جميع الاوساط الثقافية والفنية المحلية والعربية والدولية.

حول سؤال لماذا هذا الكتاب يكتب الزبيدي في صفحة الغلاف الثاني: إشكالية إبداعية الـ”ماذا” و”الكيف”، كانت شغف نبيل المالح: كيف نصنع سينما بديلة، تحقق لنا مكاناً في السينما الفنية والفكرية على خارطة السينما العالمية؟ يا لها من مسيرة ويا له من هدف جليل جعل الفنان النبيل منارة فنية وثقافية تضيء الطريق أمام أجيال من اولئك السينمائيين: الذين لاحقهم وسيلاحقهم العقاب، ولا بد لهم يوماً ما أن يحققوا مسعى وشغف الفنان الإبداعي نفسه، ومن هنا أتى ويأتي خلوده. كتبت ابنته ايبلا في رثاء رحيله: “علمتنا الطيران قبل أن نستطيع المشي”. كان الطيران هواية نبيل في الحياة وكان يصيب من يحب بالعدوى بهذه الهواية.

Visited 19 times, 1 visit(s) today