سينما سورية في خدمة الدكتاتور لطمس جرائمه

“كل واحد من المخرجين السينمائيين الكبار ملزم بإخراج فيلمين في السنة، عن التطور الزراعي في الاتحاد السوفييتي، والفيلم يجب أن يظهر الفلاحين أناسًا سعداء وفرحين”، من هنا بدأت الخطة الستالينية التي سماها “اللائحة الرهيبة”، مستعينًا بمخرج سينمائي كبير، هو سيرجي أيزنشتاين، الذي قدم أفلامًا كرست سياسة روسيا البلشفية بعد الثورة.

ومن أبرز الأعمال إبان تلك الفترة فيلم “إضراب” عام 1924، و”السفينة الحربية بوتمكن” عام 1925، الذي تناول حادثة تمرد بحّارة المدرعة “بوتمكن”، على ضباط المدرعة عام 1905، وهذا الفيلم تم اختياره كأفضل فيلم في تاريخ السينما العالمية، طبقًا لاقتراع نقاد العالم في عام 1957، وهو يُعتبر أيضًا من أكثر الأفلام الدعائية تأثيرًا في تاريخ السينما في العالم.

كانت السينما الروسية في الفترة الستالينية خاضعة لمنطق الاشتراكية الواقعية، الذي كان مفروضًا على جميع الفنون بما فيها السينما، لتروج لهذا الفكر، وظهرت هذه الهيمنة جلية بعد وفاة ستالين، إذ بدأت السينما الروسية بالتحرر، وبالتالي الانتشار في مهرجانات عالمية، وظهر مبدعون في السينما بعيدًا عن هيمنة الحكم.

السينما في خدمة الأنظمة الدكتاتورية

انتقلت هذه السياسة إلى الدول الصديقة للاتحاد السوفييتي، ومنها سوريا، وكان من قبلها النظام العراقي، الذي أنتج فيلم (القادسية) كجزء من حربه مع إيران. إيران أيضًا استغلت السينمائيين لديها، والذين هم في معظم الأحيان ينتجون أفلامًا فيها نقد للمجتمع والنظام الإيراني، سواء بشكل مبطن أو واضح صريح مع نبرة إصلاحية.

تنبه النظام منذ تسلمه الحكم في سوريا إلى أن السينما والفنون عامة تلعب دورًا مهمًا في “البروباجاندا” أو الدعاية لأي نظام قمعي، إما بطريقة مباشرة عبر الترويج لفكره أو موقفه ووجهة نظره، أو بطريقة غير مباشرة بإنتاج أفلام لمبدعين من مواطنيه (ربما لا يكونون في صفه تمامًا) مع ترك مساحة لهم يستغل من خلالها وصولهم للمنصات والجوائز العالمية، لإعطاء صورة مغايرة تحمل معاني التحضر والتنوع ويعتبرها جزءًا من عملية تلميع صورته.

ويشرح المخرج السوري ثائر موسى لعنب بلدي كيف ازداد إنتاج المؤسسة العامة للسينما في سوريا من الأفلام في السنوات الأخيرة، ويقول “شهدت السنوات الأخيرة ازديادًا في عدد الأفلام التي تنتجها المؤسسة، لدعم بروباجاندا النظام، خاصة أن مؤسسة السينما تمتلك كل ما يلزم لإنتاج فيلم روائي بأقل التكاليف، بعكس الدراما”.

بعد اندلاع الثورة السورية في آذار عام 2011، أغفل النظام جانب الفنون بشكل عام والسينما بشكل خاص، إذ كان جل اهتمامه موجهًا لقمع الاحتجاجات والحملات العسكرية، خاصة أن سيطرة فصائل المعارضة على الأرض السورية كانت في اتساع.

ويضيف موسى، “في البداية توجه اهتمام النظام إلى الدراما، لطرح وجهة نظره، وتكريس روايته في مسلسلات تخدم سياسته، لكن هذه المسلسلات قوبلت برفض القنوات العربية، إذ امتنعت هذه القنوات عن عرض مسلسلات تتناول الحالة السورية، سواء من جهة النظام أو المعارضة، ما دفع النظام للتحول إلى السينما التي تؤمّن له الوصول إلى الرأي العام العالمي وأكبر شريحة من الجمهور، عن طريق المهرجانات التي تعرض هذه الأفلام”.

أفلام المخرج جود سعيد، على سبيل المثال، حظيت بحضور كبير في المهرجانات، بالإضافة إلى نيله عدة جوائز، كونه استفاد من المواقع المدمرة في سوريا، التي شكلت بيئة ملائمة لتصوير أفلامه، فبدت ذات قيمة فنية عالية، بحسب موسى، الذي يدحض هذا التقييم معتبرًا أن الجمهور تأثر بمشاهد الدمار أكثر من تأثره بالقصة أو بالإخراج، فجود يعطي في أفلامه (ومنها مطر حمص) صكًا ببراءة النظام أمام ضحاياه.

صراع سينمائي على حلبة المهرجانات

خلال هذه السنوات حاول بعض المخرجين السوريين المعارضين إيصال صوتهم إلى العالم، بصنع أفلام تخدم القضية الإنسانية، من خلال تسليط الضوء على ما يعانونه من قصف وخوف واعتقال واختفاء قسري، بالإضافة إلى معاناة اللاجئين في المخيمات وقوارب الموت المتوجهة نحو الحلم بمعيشة آمنة في أوروبا.

وهذه الأفلام منها ما هو روائي، أو وثائقي، وبعضها حقق جوائز عالمية، مثل فيلم “الخوذ البيضاء” الذي حقق جائزة “الأوسكار” لأفضل فيلم وثائقي قصير عام 2017، كما فاز فيلم “آخر الرجال في حلب” بعدة جوائز عالمية منها جائزة مهرجان “ساندانس” الأمريكي، أما في الأفلام الروائية فلا يزال فيلم “مسافر حلب- اسطنبول” للممثلة الأردنية صبا مبارك يحصد الجوائز العالمية، لطرحه قضية اللاجئين السوريين، خاصة الأطفال منهم.

وكانت آخر المشاركات للأفلام التي تعرض المأساة السورية، هو فيلم “يوم أضعت ظلي” للمخرجة سؤدد كعدان، وبطولة سوسن أرشيد، وسامر إسماعيل، والذي فاز بجائزة مهرجان “البندقية” عام 2018، وهو من إنتاج سوري لبناني فرنسي قطري مشترك، ويتناول الفيلم الذي صُوّر على الحدود السورية اللبنانية عام 2017، أحداثًا مفترضة في شتاء عام 2012، عن سناء (سوسن أرشيد) التي تعيش في أتون حرب قادرة حتى على سرقة المخيلة.

يعرض الفيلم قصة “سناء” التي تُسرق جميع أحلامها ويبقى لها حلم وحيد يتلخص بالحصول على أسطوانة غاز للطهي، لتتمكن من تحضير وجبة طعام لابنها، فتأخذ إجازة من عملها في يوم من الأيام لتبدأ رحلة البحث عن أسطوانة الغاز، لتجد نفسها فجأة عالقة في طرف مدينة “دوما” المحاصرة، هناك حيث تكتشف أن الناس يفقدون ظلالهم.

رد فعل النظام.. مكنة أفلام

هذا الوجود الواضح لسينما المعارضة، جعل النظام يفكر بالظهور بشكل أكبر عالميًا، لإيصال روايته، خاصة أن أفلامه كانت معظمها روائية، تعتمد على ما يكتبه المؤلف، حتى ولو كانت مجانبة للحقيقة.

وكان ذلك جليًا في حفل توزيع جوائز مهرجان الإسكندرية لسينما البحر الأبيض المتوسط، الذي انتهى في 8 من تشرين الأول الحالي، إذ حظي فيلم “مسافر دمشق- حلب” للمخرج باسل الخطيب، وبطولة دريد لحام، وسلمى المصري، وكندة حنا، بنصيب الأسد من الجوائز.

أنتجت “المؤسسة العامة للسينما” فيلم “مسافر دمشق- حلب” ضمن مشروعها غير المعلن، في طرح رواية النظام وتبريره لكل ما حصل في سوريا من دمار وموت واختفاء، بوجود عناصر إرهابية ومؤامرة كونية، إذ يتناول قصة أب (دريد لحام) يقرر زيارة ابنته التي تسكن في حلب، ورحلته إلى هناك في حافلة تجمعه مع شخصيات العمل، وهذه الرحلة تظهر مشاهد الدمار الذي حصل لمدينة حلب، ملقيًا بالمسؤولية فيه على عاتق المعارضة، ومغفلًا ما وقع على المدينة من قصف كثيف للطيران طوال سنوات.

ومن بين الأفلام الفائزة في المهرجان، فيلم “روز”، وهو اقتطاع وتجميع لمشاهد ظهرت فيها شخصية “روز” التي أدتها الممثلة سوزان نجم الدين في مسلسل “شوق” المنتج من شركة “إيمار الشام” عام 2017 ومن إخراج رشا شربتجي، وفازت نجم الدين بجائزة أفضل ممثلة عن دورها فيه.

وبحسب ما صرحت به نجم الدين لصحيفة “تشرين” الحكومية في العام الماضي، فإن الفيلم تركيبة من المشاهد التي حملت الخط الدرامي لشخصية “روز” من مسلسل “شوق”، الذي يتناول قضية المخطوفات لدى تنظيم “الدولة الإسلامية”، وإظهارهن على أنهن من يمثلن الثورة.

ورغم فوز فيلم المخرج سيف الشيخ نجيب بجائزة أفضل فيلم روائي قصير، وهو بعنوان “خيمة 56″، أهمل الإعلام السوري الرسمي مشاركته قبل المهرجان كما أهمل فوزه بالجائزة بعد المهرجان.

وكانت الممثلة صفاء سلطان أعربت عن أسفها لما وصفته بـ ”تعتيم” الإعلام الرسمي السوري على مشاركة فيلم “خيمة 56″، وكتبت عبر صفحتها في “فيس بوك”، “رغم تعتيم الإعلام السوري على الخبر للأسف، بس فرحتنا ونجاحنا أبدًا مو مخبايين، تمنولنا الخير ومبروك لكل المشاركين”.

وأضافت سلطان أن فيلم “خيمة 56” هو الفيلم السوري القصير الوحيد المشارك بمهرجان الإسكندرية، وهو من إخراج سيف الشيخ نجيب وتأليف سندس برهوم وبطولة صفاء سلطان، وعدد من الممثلين السوريين المشاركين “تطوعًا” من دون أجر، لتقديم وجع وآلام الناس الذين يعيشون في مخيمات اللجوء، على حد تعبيرها.

طمس الجريمة.. سينمائيًا

كان لظهور المخرج جود سعيد في سينما النظام، دور في تمرير رواية واحدة في مناح عدة، مستغلًا وجود مواقع تصوير طبيعية، وبيئة مدمرة ملائمة لقصص أفلامه التي تتكلم عن الحرب.

ويشارك سعيد في مهرجان أيام قرطاج السينمائية، في 3 من تشرين الثاني المقبل، بفيلم جديد بعنوان “مسافرو الحرب”، وهو أحدث أعماله السينمائية، من بطولة أيمن زيدان، ولجين إسماعيل، ولينا حوارنة، ومن إنتاج لبناني لشركة “الأمير”.

لم يغير سعيد في فيلمه الجديد من الخط الدرامي الذي بدأه باسل الخطيب، في “مسافر دمشق- حلب” من تصوير سكة السفر المحفوفة بالمخاطر، واستغلال دمار حلب مرة أخرى، عبر قصة “بهاء” (أيمن زيدان) وهو موظف في شركة الكهرباء بمحافظة حلب، على مشارف تقاعده، يخطط للحصول على تعويض نهاية خدمته والعودة للاستقرار في قريته الريفية البعيدة، رغم أن الحرب السورية مستعرة، ومعركة حلب في أوجها.

أما نجدت أنزور فقدم قصة صحفي أجنبي في فيلم “رجل الثورة”. يأتي الصحفي إلى سوريا عن طريق التهريب، باحثًا عن موضوع يحقق له الشهرة، ولكنه يصدم بما يراه في سوريا، وهو بحسب رؤية المخرج معاكس لما تنقله وسائل الإعلام الأجنبية.

ثم ينخرط الصحفي في فصائل المعارضة بغية الوصول إلى قصص ينشرها، كما يكون شاهدًا على مجزرة الكيماوي وجزء منها، والتي صورها الفيلم على أنها من ترتيب “فصائل المعارضة”.

يؤكد “رجل الثورة” وهو من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، وتأليف حسن م يوسف، على دعاية النظام ببراءته من استخدام الكيماوي، ويعطي إثباتات لادعاءاته، ويأتي بعد عدة أعمال قدمها أنزور عما يدور في سوريا، وإظهار المعارضين على أنهم “إرهابيون”.

من وجهة نظر المخرج ثائر موسى، فإن “أفلام المخرجين المعارضين امتازت، على الرغم من قلتها، بطابعها الوثائقي، إذ قدمت شخصيات معروفة بين الناس، وظهر هؤلاء بشخصياتهم الحقيقية، وقصصهم الحقيقية، من دون أي إضافات درامية أو دعائية، فامتازت تلك الأفلام بالواقعية والصدق”.

“خالد” إحدى شخصيات تلك الأفلام، وهو منقذ في الدفاع المدني، قتل في أثناء قيامه بواجبه في إنقاذ الأطفال، في فيلم “آخر الرجال في حلب” للمخرج فراس فياض، وهذا الفيلم اعتبر من أفضل خمسة أفلام وثائقية، إذ تم ترشيحه لجائزة أوسكار.

عن موقع “عنب بلدي”

Visited 39 times, 1 visit(s) today